الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه وخليله، وخيرتُه من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فحياكم الله...أيها الأخوةُ والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "فادعوه بها" إنها أسماءُ الله الحسنى التي تعرّفَ الله ـ تعالى ـ بها على عباده، وعرّفَ نفسه بها في كتابه، ودلّ الخلقَ على ما فيها من المعاني بما أوجده من الآياتِ في كونه، وأرضه، وسمائه، إنّ الله ـ تعالى ـ تجلّى لعباده في كتابه الكريم، فمن أرادَ معرفة ما لله من كمال، وما له من جمال، وما له من بهاء، وما له من عظيمِ الأسماء والصفات، وكامل الأفعال، فلينظر إلى ما ذكره الله في مُحكم التنزيل، فالقرآن العظيم فيه من النور، والهدى، والبيانِ، والحقِّ، ما يعرّفُ بالله ـ جلّ في علاه ـ لذلك لمّا جاء الوحيُ إلى النبي ﷺقال له: {اقرأ باسم ربّكَ الّذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربّك الأكرم* الّذي علّمَ بالقلم}[العلق: 1: 4] لم يذكر شيئاً مطلوباً، إنما ذَكرَ تعريفاً به ـ جلّ في علاه ـ في أول البعثة، وذلك أنه لا يمكن أن يتحقق للإنسانِ العبادة إلا بعد معرفة من يعبد، وما له من كمالات، وما له من صفات، وما له من جميلِ ما يوجبُ انجذاب القلوب إليه، وإقبال النفوس عليه، بالعبودية، والذل، والخضوع، والمحبة.
إنّ المؤمن يدرك هذا من آيات الله الحكيمة، فالنبي ﷺأوحيَ إليه بالتعريفِ أولاً، ثمّ قال له الله ـ تعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل: 1: 2] لم يأت هذا في أولِ الوحي، لأنه ليس ممكناً أن يعبد الإنسان من لا يعرف، والله ـ تعالى ـ يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180] ولهذا ينبغي للمؤمن أن يعرف ما لله من كمالات، حتى يقومَ بما له من الحقوق، وما له من الواجبات، وحتى يكونَ القلبُ موافقاً للبدن في امتثال ما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله، الله ـ جلّ وعلا ـ أخبرنا في كتابه، بصفاته وأسمائه ـ جلّ وعلا ـ وأخبرنا بأفعاله، وأخبرنا بما له من الكمال ـ سبحانه وبحمده ـ المؤمن إذا صدقَ مع الله أقبلَ عليه، وتعرّفَ عليه، ثم كان ثمرةُ ذلك أن يحبه، وأن يُعظِّمه، وإذا أحبه وعظَّمه، انعكس هذا في سلوكه، في قوله، في عمله، في ظاهره، في باطنه، فتحقق له كمالُ العبودية لله جلّ وعلا.
إنَّ هذا التجوال الّذي مضى في حلقاتٍ سبقت، وما ذكره الله في كتابه من آياته الحكيمة، كلُّ ذلك يدعو القلوبَ إلى محبته، إلى تعظيمه، إلى الإقبالِ عليه جلّ في علاه.
ولهذا ليس المقصود أن نُحصي هذه الأسماء عداً، فنقول: الله، الرحمن، الرحيم، المَلك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، ونحصيها عدّاً بأيدينا، أو بكتاباتنا، إنّما المقصود بذلك أن نتدبَّر ما لهذه الأسماء من المعاني، ما فيها من الحِكم، ما فيها من الأسرار، ما فيها من النفحات، ما فيها من البهاء الّذي يُضافُ إلى الله ـ جلّ في علاه ـ عند ذلك حقاً سنحصي أسماء الله ـ تعالى ـ وسنتدبرُها، وسنقومُ بما تقتضيه من آثار، لتستقيم لنا الحياة الدنيا عبوديةً لله ـ عزّ وجل ـ ونفوز في الحياة الآخرة، بعطائه، ونواله، والنظر إلى وجهه الكريم، نسأل الله أن نكونَ ممن يمنُّ عليهم بذلك.
أيها الأخوة والأخوات إنَّ الله ـ تعالى ـ كريمٌ، واسعٌ، عظيم، أخبرَ في كتابه عن سعته ـ سبحانه وبحمده ـ فقال ـ جلّ في علاه ـ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المزمل: 115] يعني لن يستطيع العباد أن يدركوا ما لله من كمالات، فهو(الواسع) ـ جلّ في علاه ـ في كل صفاته، وفي كل ما أخبرَ به، وفي كل ما له من الكمالات ـ سبحانه وبحمده ـ في الأسماء، وفي الصفات، وفي الأفعال، ولذلك الّذين هم أعلم منّا بالله، حملَة العرش، يقول الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}[غافر: 7] فيتوسلون إليه بسعته، في علمه ورحمته، هذا معناه أنه لن يدرك العباد حقيقة هذه السعة، ولا حقيقة هذه العظمة، وذلك البهاء، إنما يدركونَ جزءًا من المعنى، بعضاً مما أخبرَ الله ـ تعالى ـ به، وما يكونُ من حقائق ذلك، فهو مما يندرجُ في قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران: 7] فلا علمَ للخلقِ بحقائق ما أخبر الله ـ تعالى ـ به عن نفسه، على وجهٍ يدركون به ذلكَ إدراكاً تاماً، إنما نُدركُ المعاني التي جرى بها لسانُ العرب، ونفهمُ ذلك كما جاء في الكتاب والسنة، وتكلّم به سلفُ الأمة، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، لكننا نعلم أنَّ ما لها من حقائق تفوقُ خيالنا، والله ـ تعالى ـ يقول في صفةٍ من صفاته، في صفة العلم: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}[البقرة: 255]فكيف بسائر صفاته التي أخبرَ بأنها واسعة؟! وأنه فيها ليس كمثله شيء، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: 13] بالتأكيد أننا لن نحيطَ بذلك على الحقيقة، لكننا ندركُ معاني ذلك، فيأسر قلوبنا بهاءُ ربنا، وجلاله، وعَظمته، وجماله ـ سبحانه وبحمده ـ ما له من بديع الصفات، وكاملِها، وجميل الأسماء، وحُسنِها، عند ذلكَ يكونُ المؤمن محققاً لشيءٍ من حقِّ الله في العبودية التي فرضها الله عليه.
الله تعالى واسعٌ حليم، واسعٌ عظيم ـ جلّ في علاه ـ وقد قال في كتابه الحكيم: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الأنعام: 80]، {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}[طه: 98]، {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الأعراف: 89] فسَعته ـ سبحانه وبحمده ـ في كلِّ صفاته، ليس فقط في صفة العلم، لكنَّ العلم أوسع الصفات تعلُّقاً، لأنها تتعلّق بكل شيء، تتعلّق بالماضي، وبالحاضر، وبالمستقبل، وبالممكن، وبالممتنع، وبما لم يكن لو كان كيف كان يكون!. إذاً هذا الأمر الّذي ذكره الله في صفة العلم، وفي سائرِ صفات الله تعالى من حيثُ عظيمُ ما لله من تلك الصفات: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه: 110] جلّ وعلا لا يحيط الخلق، لو جمعَ الله الأولين والآخرين، من الإنس والجنّ، وأرادَ هؤلاءِ أن يصلُوا إلى حقيقةِ ما أخبرَ الله ـ تعالى ـ به، في صفةٍ من صفاته، أو يبلغُ غايةَ ما أخبرَ الله ـ تعالى ـ به، في صفة من صفاته، لم يدركُوا ذلك، فكيف بسائر صفاته؟، وسائر ما أخبر الله ـ تعالى ـ به؟!
لهذا أدعو نفسي وإخواني إلى مزيدِ تدبّر، وتمعن، وتفكر، ونظر في أسماء الله وصفاته، وإجراء هذه الصفات، وهذه الأسماء، على ما جرى عليه عمل الصحابة -رضي الله عنهم- خيرُ القرون من الصحابةِ، وأهل القرون المفضلة، من التابعين، ومن بعدهم من تابعي التابعين؛ لأنّ ذلكَ هو الصراطُ المستقيم، وإنما حدثت المضلات، وتخطف الناس الضلال، وخرجَ عن الصراط المستقيم، بما جرى من إحداثاتٍ فيما يتعلّق بأسماء الله وصفاته بعد ذلك، من المهم للمؤمن أن يقرأ القرآن العظيم، وأن يتدبّر ما أخبرَ الله ـ تعالى ـ به في كتابه عن نفسه، فإنَّ تدبّرَ الآياتِ التي تتعلّق بأسماء الله وصفاته، تفتح له باب التدبر في بقية القرآن، ولهذا بعض العلماء يقول: تدبّرُ أسماء الله ـ تعالى ـ هو الطريق الّذي به يحصلُ الإنسان لتدبُر القرآن، فتدبّر القرآن الّذي جعله الله غاية، وعلّة لإنزال القرآن في قوله ـ تعالى ـ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}[ص: 29] لا يتحقق إلا بتدبُّر أسمى ما فيه، وأعلى ما فيه، وهو الخبرُ عن الله، فإنَّ أسمى ما في القرآن، وأعلى ما فيه، وأشرف المعاني التي جاءت في هذا الكتاب الحكيم، هي تلكَ المعاني التي أخبرَ الله ـ تعالى ـ بها عن نفسه، ولهذا كان أعظمُ ما في القرآن، آية الكرسي، لماذا؟! لأنها أُخلصت في الخبرِ عن الله عزّ وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة: 255]
هذه أعظم آية في القرآن، كما قال النبيُ ﷺلأُبيّ: (أيُ آيةٍ في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم}، قال السؤال مرةً ثانية، (فقال: آيةُ الكرسي)، فضرب النبيُ ﷺفي صدر أُبيّ قال: (ليهنكَ العلمُ أبا المنذر)صحيح مسلم (810) وفي حديث أبي سعيد في فضلِ قراءة سورة الإخلاص، لماذا سورة من أربع آيات، تبلغ هذا المبلغ، (تعدلُ ثلث القرآن)صحيح البخاري (5013)؟! لما فيها من المعنى، فهي صفةُ الرحمن الخالصة، وكلُ من أقبلَ على أسماء الله وصفاته، فهو موعودٌ بأن يفوزَ بحبِّ الله، فإنَّ من أحبَّ صفة الرحمن، أحبه الله، كما جرى ذلك في بِشارة النبي ﷺللصحابي، الّذي كان يختمُ كل قراءةٍ، في كلِّ ركعة، بقراءة سورة الإخلاص: قال النبيُ ﷺلمن قصّ عليه الخبر، (سلوه: لمَ يصنع ذلك؟} قال: (إنها صفةُ الرحمن، وأنا أحبُ أن أقرأ بها}، فقال النبيُ ﷺ: (أخبروه أنّ الله يحبه)صحيح البخاري (7375)، وصحيح مسلم (813) لأنه يحبُ صفة الرحمن، هكذا أدعو نفسي وإخواني إلى اقتناء كتاب ميسر في أسماء الله وصفاته، ويجعله المؤمن بين يديه، يراجع فيه ما أخبرَ الله عن صفاته، ما أخبرَ الله ـ تعالى ـ عن كمالاته، به يتعرّفُ العبدُ على الله، وإذا عرفَ العبدُ الله انفتحت له أبواب المعارف، وتيسرت له سُبل الطاعة، لأنه سيمتلئ قلبه محبةً، وتعظيماً لله، ومن امتلأ قلبه محبةً، وتعظيماً لله، فسيحقق ما أمرَ الله ـ تعالى ـ به، في قوله ـ جلّ وعلا ـ: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}[الأعراف: 180] فإنَّ الله أخبرَ بأسمائه الحسنى، حسنى في ألفاظها، وحسنى في معانيها ومضامينها، وهذا الحسنُ في الألفاظِ والمعاني، سيؤدي بالضرورة إلى تحقيق المأمورِ به في قوله: {فادعوه بها} دعاءَ عبادة، بالذل والخضوع، ودعاء مسألة، بالثناء، والتمجيد، وسؤال الحاجات، فإنّ الدعاءَ يكونُ بهذين.
وبهذا يتبيّن لنا عظيم ما فاز به أولئِكَ الّذين أقبلُوا على القرآن، يتدبّرونَ آياته، ويخصون أسماء الله وصفاته، بمزيد عناية، ويفتح الله قلوبهم لفهمها، وتدبّر معانيها، حتى يفوزُوا بمعرفة الله، الّذي معرفته أصلُ السعادةِ في الدنيا، ومفتاحُ الفوز في الآخرة.
اللهم ألهمنا رُشدنا، وقنا شر أنفسنا، أعنَّا على طاعتك، واسلك بنا سبيل أوليائك، واجعلنا من أعلمِ عبادكَ بك، اسلك بنا سبيل الرشاد، أصلح أعمالنا، وأقوالنا، وأحوالنا، واغفر ذنوبنا، واختم لنا بخير، وتوفَّنا يا ذا الجلال والإكرام وأنتَ راضٍ عنّا، واسلكنا في سبيل الصالحين، واختم لنا بالصالح، يا ربّ العالمين، وأصلي وأُسلم على البشير النذير، والسراج المنير، نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.