أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
فمرحبًا بكم، حياكم الله أيها الإخوة الكرام في هذه المحاضرة التي هي ضمن فاعليات الدورة الصيفية الثامنة المقامة في جامع شيخنا "محمد بن عثيمين" في محافظة "عنيزة".
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم: أن يجعلني وإياكم من المغفورين، وأن يعيننا وإياكم على ما فيه الرشد، والخير من العلم النافع، والعمل الصالح.
قال " شعيب " -عليه السلام- فيما قصه الرب -جل وعلا-: )قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ(سورة هود الآية: 88.
وهذا به تبيِّن مجمل عمل هذا النبي الكريم، وخلاصة دعوته، بعد هذا البيان لعمله، وجهده، وحاله، وقوله- عليه الصلاة والسلام- جاء بتلك الكلمة العظيمة، والسر الكبير الذي تضمنه قوله -جل وعلا-: )وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(.[هود:88]
هذه الجملة المختصرة )وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ(: فيها الافتقار إلى الرب جل وعلا، فيها إعلان العزل عن كل خير في الدنيا والآخرة في مقاصد المعاش والمعاد إلا من طريق ربنا -سبحانه و بحمده-.)وَمَا تَوْفِيقِي(: أي: لا توفيق لي إلا بالله.
بعد ذلك ذكر الطريق الذي يستنزل به التوفيق، وذكر السبيل الذي يحصَّل به هذا المن من رب عظيم جليل ألا وهو: ما تضمنه قوله -جل وعلا-: )عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(.
التوفيق أيها الأحباب، مُنية بها يسعد الإنسان في دنياه، وفي أخراه.
التوفيق قال عنه جماعة من العلماء: "لم ينزل من السماء إلي الأرض أجلّ من التوفيق".
التوفيق قال عنه طائفة من أهل العلم: "هو خير ما نزل من السماء".
فإن التوفيق به كمال العباد، به سعادتهم، وراحتهم.
فما أحسن التوفيق حيث يكون!. ما أجمله، وما أحسنه حيث كان في أمر دين، أو لأمر دنيا!.
فالعبد في غاية الضرورة إلى توفيق الله جل وعلا، ليس في الكون أحد يستغني عن حول الله وقوته، وعن توفيقه وتسديده.
لو لم يوفق الله -جل وعلا- العبد؛ ما تيسرت له منافعه. حتى شربة الماء لا تتيسر إلا بتوفيق من الله جل وعلا، وتيسيره.
ولذلك التوفيق ضرورة لا يستغني عنها الإنسان في كل حال من الأحوال، والحاجة إليه ملحَّة، ولذلك قيل لبعضهم- أي لبعض أهل العلم والسلف الصالحين- :" ما الشيء الذي لا يستغني عنه الإنسان في حال من الأحوال، فبادر الجواب فقال: التوفيق؛
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني ِعليه اجتهاده".
الإنسان ضعيف برأيه، ضعيف ببدنه، ضعيف خلقًا ورأيًا وعلمًا، وعملًا؛ وهذا الضعف، لا يمكن أن يدرك به الإنسان مصالحه، لا في دينه، ولا في دنياه.
إنما يدرك مصالحه، ويصيب ما يريد؛ بتوفيق الرب جل وعلا.
فالإنسان محتاج إلى التوفيق حاجة ضرورية:
فالعذر لي في كل حال أنني في الوصف محتاج إلى التوفيق
فهذا وصف ذاتي ٌ لكل إنسان،)يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(سورة فاطر: الآية 15
وفقر العباد إلى الله هو فقرهم؛ لتوفيقه، وتسديده، وإعانته، وأن يتولى شؤونهم- سبحانه، وبحمده- في أمر معاشهم ، وفي أمر معادهم.
فلا عجب، ولا غرو ؛أن يكون التوفيق ضرورة من ضروريات الحياة المعاشية،كما أنه ضرورة من ضرورات الديانة، والاستقامة، وتحقيق مقصود الله تعالى في الوجود.
إذ لا يتم شيء في الدنيا إلا بالتوفيق، ولا يدرك الإنسان مطلوبًا إلا بالتوفيق، ولا يقوم بعملٍ إلا بالتوفيق، ولذلك قال "سهل بن عبد الله التستري"- وهو من الأئمة أصحاب الحكم والبيان- يقول -رحمه الله-:" الأعمال بالتوفيق".
يعني لا تتم، ولا تصلح، ولا تؤتي ثمارها؛ إلا بتوفيق من رب العالمين.
ومن المنقول عن أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" -رضي الله- عنه أنه قال: "التوفيق خير قائد".
خير ما يقودك، ويبلغك مقصدك؛ هو توفيق من الله جل وعلا .
وقد قال "أبو سليمان الداراني"، وهو من الأئمة العباد الزهاد الذين كان يتوافد إليهم كبار أهل العلم؛ ليدركوا من حكمهم، ونتاج علمهم، وزهدهم؛ ما يكون عونًا لهم في طريقهم إلى الله -سبحانه وتعالى -حتى وصفه" الذهبي"- رحمه الله"، فقال:" الإمام الكبير زاهد العصر (أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد)."
وقد كان توفي -رحمه الله- في أول القرن الثالث الهجري. يقول -رحمه الله- في بيان ضرورة الناس للتوفيق:
" إن السحاب يجري بالريح- لولا الريح ما تحرك السحاب.-إن السحاب يجري بالريح، وإن العباد إنما يجرون بالتوفيق". أي إنما يسيرون، ويتنقلون، ويتحولون بتوفيق من الله جل وعلا"
ويقول "الشافعي" الإمام -رحمه الله-:" أصل العمل التوفيق، وثمرة التوفيق النجاح، والمرء إن فقد التوفيق أو عدمه؛ لم يهده الرأي إلا للضلال، ولا يزيده عدم التوفيق غير عمى"
هكذا هي ثمرة فقد التوفيق، فإذا فقد الإنسان التوفيق؛ عمي، و خذل، ولم يصب خيرًا.
يلخص لنا "ابن القيم" في كلمات عليها نور مدى حاجتنا لتوفيق ربنا -سبحانه وبحمده –يقول: " فالعباد متقلبون بين توفيقه وخذلانه"[مدارج السالكين1/415]
أنا وأنت، البشر كلهم، مؤمنهم، وكافرهم، ينتقلون و يتقلبون بين أمرين: بين توفيق الله تعالى، وبين خذلانه، فلا يخرجون عن حال من هاتين الحالين.
يقول -رحمه الله-: " بل في الساعة الواحدة"؛ أي في كل لحظة،
بل في الساعة الواحدة العبد ينال نصيبه من هذا، ومن هذا، من التوفيق، والخذلان في كل لحظة.
وهذا يبين أن التوفيق أمر لا يستغنى عنه في لحظة من لحظات المعاش؛ إذ إن فقد التوفيق في لحظة معناه الخسار، والخذلان.
فحاجة الإنسان للتوفيق؛ لا تنقطع، ولا تتوقف، ولا تقتصر على زمان، أو مكان، أو مرحلة من العمر.
بل ما دمت ذا عرق ينبض، وعين تلحظ، ونفس يتردد؛ فأنت بحاجة، وضرورة إلى توفيق من رب العالمين.إذا لم يوفقك؛ فإنك مخذول.
فلهذا لا تخلو ساعة، ولا لحظة من ضرورة الإنسان التوفيق من رب العالمين؛ يوفقه، ويسدده. ويعينه ويلهمه الصواب في أقواله، وأعماله.
إن التوفيق أيها الإخوة؛ لا يقتصر على جانب جوانب الحياة، ولا موضع من مواضع العمل.
يعني كثير من الناس يظن أن التوفيق هو مثلًا : في الاختبارات، أو في المهمات، أو في النجاح في بعض جوانب الحياة، أما ماعدا هذا فهو لا يحتاج إلى التوفيق، وهذا خطأ، وخطأ ظاهر؛ إذ إن عدم التوفيق؛ هو عدم إدراك المطلوبات.
من فقد التوفيق لم يصب شيئًا، من فقد التوفيق لم يدرك مطلوبًا، من فقد التوفيق لا يتحصّل على مرغوب، ومحبوب؛ ولهذا كونك تشاهد، وتنظر حاجتك إلى التوفيق في كل لحظة مما يحفزك، ويشد نشاطك إلى النظر في أسباب التوفيق، وإدراكها، وتحصيلها.
إن العبد محتاج إلى التوفيق؛ لأن كل إصابة في الدنيا، وكل سعادة في الحياة، وكل فوز ٍ في هذه الدنيا؛ إنما يكون من توفيق الله –تعالى-.
ولذلك تأتي النصوص صريحة مبينة؛ أنه من الله لا من غيره، فيقول ربنا -جل وعلا-: )إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ(سورة آل عمران : الآية 160 وهو نوع من التوفيق)فَلا غَالِبَ لَكُمْ(.
)وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ( يرفع يده، ونصره، ويمنع مدده -جل وعلا- عنكم )وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ(فلا ناصر لكم.
إذًا أنت محتاج إلى توفيق الله –تعالى-، وفيما أصبت؛ أصبت بالله، ولم تصب بنفسك.
يقول الله لرسوله الذي بالغ في الجهد، والاجتهاد، والبذل، وأخذ بالأسباب يقول له في غزوة أحد: )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى([الأنفال:17]، فهو الذي أصاب، وهو الذي نصر، وهو الذي أيد، وهو الذي وفق لإدراك ما نلت، وحزت من الخيرات.
)إذ رميت(
إذا رمت سهام العزم صائبة فما رميت بل التوفيق راميها
إن التوفيق عنوان السعادة في الدنيا والآخرة، فمن أدرك التوفيق؛ أدرك الفوز الكبير، والنجاح العظيم.
فما معنى التوفيق؟
ما معنى التوفيق التي هذه منزلته، وهذه مرتبته؟
يقول" ابن القيم"- رحمه الله -في بيان (معنى توفيق الله للعبد):" أجمع العارفون -أي أهل العلم الذين يغورون في المعاني، ويعرفونها- أجمع العارفون أن التوفيق هو ألا يكلك إلى نفسك"[مدارج السالكين1/415]
الله أكبر!
توفيق الله لعبده؛ أن يتولى شأنه - سبحانه وبحمده -.أن يكون هو المدبر لدقيق أمرك، و جليله.
توفيق الله لك، ألا يخليك ورأيك، ألا يتركك واختيارك، أن يتولى ذلك، وأن ييسر لك الأسباب التي تدرك بها خيرات الدنيا وفوز الآخرة.
توفيق الله لعبده ؛أن يتولى شأنه -سبحانه وبحمده-. أن يكون هو المدبر لدقيق أمرك، وجليله. توفيق الله لك ؛ألا يخليك ورأيك ،ألا يتركك لاختيارك ،أن ييسر لك الأسباب التي تدرك بها خيرات الدنيا وفوز الآخرة.
إن التوفيق بقول أهل العلم العارفين بالله:
يقول "ابن القيم":" ألا يكلك الله إلى نفسك". ثم يبين ما يقابل التوفيق، وهو الخذلان، يقول:"والخذلان هو: أن يخلي بينك، وبين نفسك"[مدارج السالكين1/415]
- الله أكبر-.
إنه بيان للتوفيق الذي تصبو إليه النفوس.
قد يقول قائل:( إنما هذا يكون في أمر الدين؛ أن يوفقك الله للهداية، وأن ييسر لك الاستقامة) لكن المعنى أوسع من ذلك؛ لأن قيام الناس ليس فقط في دينهم، إنما الدنيا والدين بهما يكمل للإنسان المعاش، وبهما تطيب الدنيا وتصلح الآخرة؛ فإن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، واستعمرهم في العبادة في هذه الدنيا، و جعل الدنيا محلًّا لحياتهم، ومعاشهم.
قال الإمام "ابن القيم"- رحمه الله-:
" التوفيق إرادة الله من نفسه؛ أن يفعل بعبد ما يصلح به، وما يستقيم به حاله بأن يجعله قادرًا على فعل ما يرضيه، مجتنبًا ما يحذره وينهيه وينهاه عنه، ويضره"[مدارج السالكين1/415]
أو معنى كلامه -رحمه الله- ،وهذا كذاك في معنى التوفيق.
التوفيق بهذا يعلم أنه لا يكون إلا من الله، وهذا ما جهر به النبي الكريم "شعيب" حيث قال: )وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ (سورة هود الآية: 88
ليس لي توفيق في إدراك المقاصد، والأمن من المخاوف إلا من الله سبحانه وتعالى
من أين أرضيك إلا أن توفقني هيهات ما التوفيق من قبلي
فالتوفيق من الله جل وعلا.
لا يمكن أن يرضي العبدُ ربه إلا بتوفيق الله –تعالى- له.
التوفيق: ألا يدعك الله –تعالى- ونفسك، وهواك؛ ولذلك جاءت النصوص في البراءة من الحول والقوة، ولذلك نقول بعد كل صلاة:" اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"[صحيح البخاري(844)، ومسلم(593)] ؛ إعلان للافتقار إلى الله –تعالى-، وأن العبد لا تقوم حياته، ولا تستقيم دنياه؛ إلا باللجأ إلى الله -جل وعلا-، والرجوع إليه
ولهذا كان قول العبد:« لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ كنز من كنوز الجنة».[صحيح البخاري(7386)، ومسلم(2704/47)]
إنها كنز كما وصفها النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لأنها إعلان افتقار كامل، وتخلٍّ تام عن كل حول وقوة، إلا من حول الله.
وكان يذكر في غريب القصص:
أن رجلين اختصما إلى قاضٍ في أرض ادعاها أحدهما على الآخر، وكان المدعي كاذبًا ،فقال: الأرض لي، ولي من البينات كذا وكذا وكذا، فقال صاحبه: أقبل قولك ،والأرض لك بشرط أن تردد ما أقول، فقال: قل ما شئت، وسأقول فالأرض لي. فقال:قل :"أنا بريء من الإسلام إن كانت الأرض لك"، فقال الرجل: هو بريء من الإسلام إن كانت الأرض له، قال: أنا بريء من كذا وكذا مما لا يتبرأ منه مسلم إن كانت الأرض لك. قال الرجل، ثم قال له كلمة -واستمع إليها- قال له : قل: أنا بريء من حول الله وقوته إن كانت الأرض لك، فقال الرجل: هو بريء من حول الله وقوته إن كانت الأرض لك، فما أتم الكلمة؛ إلا سقط ميتًا .-الله أكبر لا حول ولا قوة إلا بالله-
"لا حول ولا قوة إلا بالله": من أدركها، وعلم معناها ؛علم أنه مفتقر إلى الله في كل حال. ليس له من الله مفر، ولا إلى سواه ملجأ بل هو الملاذ المعاذ -سبحانه وبحمده -هو المفزع المهرب في كل دقيق وجليل )وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ(
ألا إنما التوفيق إن كنت أهله مراعاة حق الله في السر والجهر
بتوحيده في ذاته وصفاته و أفعاله أيضًا وفي النهي والأمر
هذا هو التوفيق الحقيقي ؛أن تكون على ما أرادك الله –تعالى-، مستسلما له- سبحانه-، معظمًا إياه، مقبلًا عليه -جل في علاه-.
إخواني؛ مضطرون للتوفيق. لا غنى عن توفيق الله تعالى، فما هي الأسباب التي نستنزل بها توفيق الله –تعالى-؟ ما هي الوسائل التي نستمطر بها فضل الله، وتوفيقه؟
التوفيق منَّة، ومنحة، وهبة، وعطاء من الله -جل وعلا-؛ فما هي الوسائل التي تدرك بها التوفيق؟
ذكر الله تعالى في كتابه ثلاثة طرق يدرك بها التوفيق، وهي أصول جامعة للخير كله ينبثق منها، ويندرج تحتها أسباب لا حصر لها، لكنها أصول ثلاثة ذكر الله في هذه الآية سببين من أسباب التوفيق في كلام "شعيب" لقومه قال الله- جل وعلا- : )وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ(
ثم بين الطريق الذي تستمطر بها هذه المنحة، وتستجلب بها هذه المنة؛ فقال -سبحانه وبحمده- : )عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(هذان سببان من أسباب التوفيق: صدق التوكل على الله –تعالى-، والإنابة إليه.
نبدأ أولًا بالسبب الأول:
التوكل هو: أن ينخلع الإنسان من حوله، وقوته. أن يعلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع بالسيئات إلا الله. لا يأتي بما يحبه الإنسان إلا الله، ولا يدفع ما يكرهه الإنسان إلا الله." لا مانع لما أعطي، ولا معطي لما منع-سبحانه وبحمده-".
هذا هو التوكل، مهما تنوعت العبارات، وتشكلت الألفاظ ؛يدور على تحقيق هذا المعني :"لا مانع لما أعطي، ولا معطي لما منع".
التوكل حقيقته: صدق الاعتماد على الله- جل وعلا- في جلب الخيرات، ودفع المضرات. هذا به - يتحقق للإنسان صدق - يتحقق للإنسان؛ التوكل على الله -جل وعلا-، فالتوكل على الله أقرب الطرق التي ينال بها التوفيق.
إذا انخلع الإنسان من حوله، وقوته، وعلم أنه لا ضار، ولا نافع، لا منجي، ولا مهلك، لا يأتي بالخيرات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله؛ تحقق له الخير، وهذه مرتبة تحتاج كمال في صدق العلم بالله –تعالى-.
-لماذا؟- لأنك لا يمكن أن تتوكل، وتعتمد إلا على من صدقت في العلم به.
أنت الآن عندما تعطي شخصًا، وتقول :"وكلتك"؛ إنما تبحث، وتتخير بين من تعرف من هو أهل للوكالة، وهو شأن من الشئون الدنيوية، فكيف بمن الاعتماد عليه يكون عليه صلاح الدنيا، وصلاح الآخرة؟ لا شك أنه لا يكون إلا لمن اتصف بصفات الكمال؛ فبقدر علم العبد بالرب؛ يكون معه من صدق التوكل عليه.
إذا صدق العبد في علمه على الله، وعلم ما لله من كمالات في: أسمائه، وصفاته، و تدبر ما يذكره الله في كتابه )هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر(سورة الحشر الآية: 23.
تأمل هذه الآيات التي يخبر الله فيها عن نفسه، وكمالاته. لا شك أن هذا سينعكس على القلب تعظيمًا، ومحبةً وتفويضًا، وتوكيلًا إليه -جل وعلا-، وتوكل عليه -سبحانه وبحمده-.
أقرب الناس إلى التوفيق من عرف نفسه بالعجز والذل، وعرف ربه بالقوة والكمال.
أقرب الناس إلى التوفيق من عرف أنه لا حيلة له إلا بالله -جل وعلا-.
أقرب الناس إلى التوفيق من ذل، وتواضع، وتبرأ من حوله وقوته، ولم يقل: )إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي([القصص:78]، فلم يعجب، ولم يعجب بعمله؛ بل أسند الأمر إلى الله، فما كان من خير فهو بتوفيق الله، وما كان من شر، فمن نفسه والشيطان؛ وبهذا يحقق المؤمن التوكل الذي تستجلب به الخيرات.
وقد قال "ابن القيم" : " وَلَوْ تَوَكَّلَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ فِي إِزَالَةِ جَبَلٍ عَنْ مَكَانِهِ وَكَانَ مَأْمُورًا بِإِزَالَتِهِ لَأَزَالَهُ. " .[مدارج السالكين1/103]
لزال جبل عن مكانه إذا توكل على الله حق توكله، وصدق في الاعتماد على الله في إزالة هذا الجبل عن مكانه؛ أزاله الله –تعالى-.الأمر له )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(سورة يس الآية: 82.
ونحن قد نقول إن هذا من الخيالات، ومن المبالغات، لكن من عظم علمه بالله؛ علم على أنه على كل شيء قدير.
ومن عباد الله من لو أقسم على الله؛ لأبرَّه. هذا في كل أمر قريب، وبعيد.
فالله –تعالى- الذي خلق الكون؛ لا يعجزه شيء -سبحانه وبحمده-، ولذلك من تمام أسباب التوفيق، وأقرب وسائلها: أن يتوكل العبد على الله –تعالى-، ولذا بدأ به "شعيب" -عليه السلام- في الآية، فقال تلك الكلمة )عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ(.[هود:88]
)عَلَيْهِ(: لا على سواه. قطع النظر عن كل ما سوى الله -جل وعلا-، وأفرد التوكل به –سبحانه وبحمده-، و)عَلَيْهِ(: لا نظر إلى غيره، ولا توكل على سواه.
السبب الثاني هو:(الإنابة):)عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(.
و(الإنابة) حقيقتها :لزوم القلب طاعة الله –تعالى، لزوم القلب طاعة الله تعالى-.
و(الإنابة) ذكرها الله في كتابه في مواضع عديدة، وفي محال كثيرة أثنى الله على المنيبين، و وعدهم جنة عرضها-عرضها- السماوات والأرض، وذكر في حق المنيبين كثيرًا من الخير.
(الإنابة): هي سبب من أسباب التوفيق؛ فإذا رزق العبد قلبًا منيبًا إلى الله -تعالى- خاضعًا له، مقبلًا عليه، ملازمًا لربه فإنه سيستمطر بهذا الخير من الله - جل وعلا-.
ولذلك قال بعض السلف: " إن التوفيق منك -إن التوفيق منك-؛إذا أطعته قريب، وإذا عصيته بعيد، ولا تكون الطاعة إلا بالإنابة".
فطاعة الله؛ إنما تكون بالإنابة إليه، بالإقبال عليه -سبحانه وبحمده-. فمن أقبل عليه -جل وعلا- في الطاعات؛ لم يخيبه الله -سبحانه وبحمده- .
ولذلك جاء في الصحيح:«إذا تقرب مني عبدي شبرًا؛ تقربت منه ذراعًا، وإذا تقرب منه ذراعًا؛ تقربت إليه باعًا، وإذا أتاني يمشي؛ أتيته هرولة»[صحيح البخاري(7536)]
- سبحانه وبحمده جل في علاه- هو الغني عنا، وعن عبادتنا.
هذا دليل على عظيم إقبال الله على عبده إذا أقبل؛ فهذا يدل على منَّته، ورحمته.
انظر، كيف يفرح بتوبة عبده المسيء المقصر المسرف على نفسه.
- لا لا- في الحديث:« لله أشد فرحًا بتوبة عبده إذا تاب إليه، من أحدكم كان في فلاة معه راحلته؛ فأضلها، فبحث عنها، فلم يجدها حتى أوي إلى شجرة، فنام تحتها، فلما استيقظ وجد راحلته فوق رأسه؛ فمن شدة الفرح قال:" اللهم أنت عبدي، وأنا ربك».[صحيح مسلم(2747/7)]
أخطأ من شدة الفرح «اللهم أنت عبدي، وأنا ربك» أخطأ من شدة الفرح. الله رب العالمين الغني عن عباده يفرح بتوبة أحدنا أشد من توبة هذا بدابته التي عليها زاده، وسيلة نقله، ومأكله، ومشربه في هذه الفلاة القاحلة، والصحراء القاتلة.
إن العبد إذا أقبل على الله –تعالى- بالتقرب إليه؛ استوجب توفيقه -سبحانه وبحمده-؛ لذلك يقول -"أبو إسماعيل"- "أبو سليمان الداراني" -رحمه الله-:" إن التوفيق على قدر القربة"؛يعني على قدر التقرب من الله، فإذا زاد العبد التقرب من الله -جل وعلا-؛ زاد الرب -سبحانه وبحمده- في العطاء، والمن، والتوفيق، والتسديد، وبين أن الله –تعالى- توفيقه إنما يكون بأسباب.
فزمام تمام الأمور؛ التوفيق. نجاحها، وكمالها، وخطامها الذي تقاد به هو: التوفيق. ولم ينزل من السماء أجل من التوفيق، وهو مقرون بالاجتهاد قال الله –تعالى- : )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا(سورة العنكبوت الآية:69
ومما يندرج تحت هذا ، مما يندرج تحت الإنابة لله –تعالى-؛ أن يلهج العبد بالدعاء، والسؤال، و التضرع إلى الله -تعالى- في نزول التوفيق.
ولذلك قال" سهل بن عبد الله التستري":" التوفيق من الله، ومفتاحه -مفتاح التوفيق- التضرع، والدعاء".
هذا المفتاح الذي يفتح به التوفيق النازل من رب العالمين؛ أن تدعُو الله -جل وعلا-، فالتوفيق بيد الله، وبيد الله مفاتيحه –سبحانه وبحمده-؛ الدعاء، والافتقار. صدق اللجأ، والرغبة؛ من أعظم ما يدرك به توفيق الله -سبحانه وبحمده-.
وإذا دعي الإنسان؛ فليطمئن، فإن الله سيجيبه، و لن يخيب، لن يطرق باب رب العالمين طارق، ويعود خائبًا.
لا يمكن أن يخيب من طرق باب الكريم -سبحانه وبحمده-؛ ولهذا يقول "عمر": " إني لا أحمل هم الإجابة، لكنني أحمل هم الدعاء"؛ يعني ما أحمل هم أن يجيبني الله، فالله مجيبني إذا دعوته، لكني أحمل هم الدعاء؛ لأن أوفق، وأن أدعوا الله -جل وعلا-، وأسأله – جل وعلا-الحاجات.
من أعظم أسباب التوفيق: الاستكثار من الصلاة، فالصلاة مفتاح خير عظيم يستمطر به العبد التوفيق، والسر في هذا؛ أن الصلاة صلة بين العبد، وربه- سبحانه، وبحمده- .
والله –عز، وجل- يعطي العبد من الخير بهذه الصلاة مالا يخطر على بال، ولا على خاطر، والناس نقص قدرهم من خير الصلاة؛ لنقصانهم إقامتها، فالله –عز، وجل- لم ينقص الصلاة مطلقًا ؛إنما الصلاة على وجه تردد في كلامه، وهو :)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ(سورة البقرة الآية: 43، فأمر بإقامتها، وإقامتها هو بذل المجهود في أن تكون قائمة على الوجه الذي يحبه، ويرضاه ظاهرًا، وباطنًا.
فمن الناس من يقيمها ظاهرًا في حركاتها، وسكناتها؛ لكن قلبه في واد هائم، و قد تشعبت به الأفكار، وهذا لن يقمها على الوجه الكامل الذي تستمطر بها الخيرات- تستمطر بها به الخيرات- وتفيض بها موارد التوفيق، ومواده.
إن من أبواب التوفيق، ومن أسبابه؛ أن يصبر الإنسان، فإنه لا يكون منيبًا إلا من كان صابرًا.
نحن ذكرنا أن السبب الثاني العام؛ هو (الإنابة)، وذكرنا تحت (الإنابة): أمورًا، ومنها الصبر.
والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
)إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(سورة الزمر الآية:10 هذا يا إخواني، ما جاء في عمل من الأعمال. لم يأتِ هذا الكرم، والمنح، والعطا، والصب، والسح للخيرات؛ كما جاء في الصبر.
)إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(؛ فقد جاز أجر الصبر قانون الحساب، والتقدير. وهذا يدل على عظيم المنة التي يدركها من وفق إلى الصبر.
جاء في الصحيح من حديث "أبي سعيد" قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وما أعطي أحد عطاءًا خيرًا، ولا أوسع من الصبر».[صحيح البخاري(6470)، ومسلم(1053)]
فالصبر من مفاتيح التوفيق الكبرى؛ ولهذا أثنى الله عليه كثيرًا في كتابه، وأثنى على أهله، ومجَّدهم، وبيَّن فضلهم، وثوابهم.
كل هذا لتقوم النفوس بهذا العمل العظيم الذي به يملك الإنسان خيرًا كثيرًا، فملاك التوفيق أن يكون الإنسان صابرًا. هذه جملة من الأسباب المندرجة تحت الإنابة.
إن من أسباب التوفيق الكبرى (حين القصد). نحن ذكرنا أن الله –تعالى- ذكر في القرآن العظيم ثلاثة أسباب من أسباب التوفيق :
السبب الأول: التوكل )عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ(.
والسبب الثاني: الإنابة )وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(.
السبب الثالث: وهو حسن القصد، وسلامة النية.
(حسن القصد، وسلامة النية ): هي من الأسباب الكبرى التي إذا وفِّق إليها العبد، وفقه الله –تعالى- إلى أسباب التوفيق، وأدرك بها جملة من الخيرات.
قال الله –سبحانه، وبحمده- في الإشارة إلى هذا السبب في حالة، وقضية؛ وهو ما يكون بين الزوجين من الشقاق، يقول الله -تعالى- : )وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا(ثم جاء الشاهد )إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً(؛ يعني الحكمين من جهة الزوج، ومن جهة الزوجة )إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا(سورة النساء الآية:35دل هذا على إن من أسباب التوفيق؛ سلامة القصد. إن من أسباب التوفيق سلامة القصد، وحسن النية. من حسنت نيته؛ وفقه الله –تعالى- إلى خير كثير، وفتح له من أبواب التوفيق ما ليس له على بال.
الإنسان إذا سلم قصده، وسلامة القصد؛ بأن يكون غرضه الخير، وقصده النصح لله، ولرسوله، -و لأئمته- ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
هذا هو معنى سلامة القصد.