المقدم: تسأل يا شيخ عن حكم الإساءة للآخرين، هي نصت تقول: عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ربما يا شيخ يعني بعض الناس هذه المواقع، بعضهم قلة ولله الحمد، وظفوها توظيفًا يعني سيئًا يا شيخ، وصاروا يتوارون عن الناس بأسماء مستعارة، ونسوا أن الله -سبحانه وتعالى- مطلعٌ عليهم، فأصبحوا يا شيخ يخوضون في أعراض الناس ويفترون عليهم، ما توجيهكم يا شيخ؟
الشيخ: والله يا أخي على كل حال هذا من الظلم والاعتداء والبغي الذي بُلي به كثير من الناس، سواء بالأسماء المستعارة أو الأسماء الصريحة، وتجد أن أحدهم يقع في عرض أخيه لأدنى سبب؛ لكونه يكرهه، أو لكونه يخالفه في الاجتهاد، أو لكونه يرى أنه على غير جادة، فيستطيل في عرض أخيه على وجه مؤذي، وعلى وجهٍ تعجب كيف يكون هذا ممن يوقن بأن الله ـ تعالى ـ سيحاسبه على كلماته، فتجد الافتراء، تجد الأخذ بالظن والشبهة، تجد ترديد ما يسوء دون تثبُّت ولا تعقل فيما ينقل، وإذا قيل له: لماذا تذكر هذا؟ يقول: قيل، وهو من القائلين، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع.
تجد السب والشتم، وتجد الاستهزاء، وتجد السخرية، وتجد البهتان، وتجد الغيبة، حقل بشع من السيئات التي تقسي القلب، وتجدها بعض الأحيان تأتي على صورة نصيحة، وهذا الإشكال عندما يلبس الإنسان سيئاته ثوب النسك، وثوب الطاعة، وثوب النصح وهو قد خالف أمر الله ـ تعالى ـ عند ذلك تكون القضية كبرى والإشكالية عظمى؛ لأنه لا يمكن أن يتوب؛ لأنه يرى هو في نفسه أنه على طاعة، إما تزويرًا لنفسه، أو إيهامًا للناس وتجريةً لهم على الأعراض، ويقول: هذا جرح وتعديل، وهذا بيان الصحيح من الضعيف، وهذا تحريف من أهل الانحراف وما أشبه ذلك من الكلمات التي في أصلها لها أصول، لكن عندما تطبق على مثل هذه الوقائع تصبح في كثير من الأحيان مطبقة في غير موضعها وفي غير محلها، واستعملت على غير وجهها.
لذلك يجب على المؤمن أن يتقي الله ـ تعالى ـ وأن يحفظ لسانه، وأن يكف نفسه عن أن يقول في الناس شيئًا، فإن الأصل في المسلمين ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبة الحج لما قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، قال هذا في خطبة عرفة، ونقل ذلك أبو بكرة ـ رضي الله عنه ـ في سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «في أي بلدٍ أنتم؟ في أي شهرٍ أنتم؟ في أي يومٍ أنتم؟» ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا».[صحيح البخاري(67)، ومسلم(1979/29)]
فهي حرمات بعضها، يعني جعل حرمة العرض كحرمة المكان، وحرمة الزمان العام، وحرمة الزمان الخاص الفاضل في ذلك اليوم وهذا يبين خطورة الأمر، الأعراض أمرها خطير، يعني أنا لا أفهم كيف يمكن أن يبرر الإنسان لنفسه مثل هذه المواقف التي يكون فيها معتديًا ظالمًا هو يعرف في قرارة نفسه أنه إنما يقول زورًا وبهتانًا، ويظلم الناس في أعراضهم، ويرميهم بالسوء؛ لأنهم فقط مختلفون معه، تجد التنابز بالألقاب، وتجد النسبة إلى ما يكره الإنسان أن ينسب إليه زورًا وبهتانًا دون أي برهان.
الإشكال يا أخي عبد العزيز في هذه القضية أن كثيرًا من هؤلاء إذا وجَّهت إليه نصيحة، أو سمع كلمة توحي بأن توقَّف عما أنت فيه من خطأ، توقف عن الوقيعة في أعراض الناس، استحضر كلَّ المبررات التي يسوِّغ بها ويبرر فعله كأنما يريد أن يقول للناس: أنا في قربة وطاعة، كلامي عن فلان وعن فلان وسَبِّي لهم وشتمي لهم وانتهاكي لأعراضهم ووقيعتي فيهم إنما هي طاعة.
سبحان الله العظيم!
يعني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على طول مدة دعوته ثلاث وعشرين سنة وعلى كثرة من آذاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ألوان الناس وصنوف البشر في أول الوقت وفي آخره، ومع هذا لا يُحفظ عنه ولا شيء من هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء في إخوانهم، لا يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكفار ما يقول هؤلاء في إخوانهم، والكلام ليس في الإجمال؛ لأنه قد يقول الله ـ تعالى ـ قال:﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254]، لا بأس الكلام على العموم غير الكلام على الشخص، على الفرد.
فإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينقل عنه إلا مرة دخل عليه رجل، فقال قبل أن يدخل: «بئس أخو العشيرة»[صحيح البخاري(6054)، ومسلم(2591/73)]، فيحفظها هذا ويجعلها قاعدة في الوقيعة في الناس، رغم أنها قضية لها مسوغاتها وأسبابها، وقد تكلم عنها العلماء في حين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يدخل عليه اليهود وهم أشد الناس عداوة لأهل الإيمان ويقولون: "السام عليك"، يعني الموت عليك يا محمد، فكان لا يزيد على أن يقول وعليكم، لا يزيد على أن يقول:« وعليكم».
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما أكثروا ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: "السام عليكم واللعنة" فقال: «مه يا عائشة؛ إن الله يبغض الفُحش والتفحُّش» قالت: ألا تسمع ما يقولون؟ قال: «ألم تسمعي ما قلت؟»[صحيح البخاري(6024)، ومسلم(2165/10)] يعني رددت عليهم ما قالوا وانتهى الأمر، فينبغي للمؤمن أن يحفظ لسانه وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «أتدرون ما المفلس فيكم؟» قالوا: المفلس من لا درهم له ولا دينار يا رسول الله، فقال: «المفلس من يأتي بصلاة وصوم وصدقة ويأتي وقد ضرب هذا وسفك دم هذا وشتم هذا وقذف هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاته فوضعت عليه ثم ألقي في النار»[أخرجه الترمذي في سننه(2418)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»]، نعوذ بالله من الخذلان.
يجب على المؤمن أن يتقي الله، يجب أن يحفظ هذا ويكف عليه لسانه، أعراض الناس ليست كلأ مباحًا، أعراض الناس ليست شرب ماء أو أكل فاكهة يتفكه بها الناس، أعراض الناس محترمة، «كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه، ومالُه، وعرضُه»[صحيح مسلم(2564/32)].
الآن لو تأتي لشخص وتقول له أنا سأحضر إبرة وأنغز، أبطك بهذه الإبرة وأنغزها أو أدخلها في بدنك أتسمح بهذا؟ ما يسمح رغم أن هذا الجرح البسيط الذي في رأس الإصبع لا يمثل شيئًا من حيث الضرر، فيجب عليك أن تمتنع من هذا الأذى اليسير، فكيف بالقذف، كيف بالاتهام؟ كيف بالسباب؟ كيف بالشتيمة؟ كيف بالتنابز بالألقاب؟كيف بالسخرية؟ كيف بالظن السوء؟ كيف بالتجسس؟ يعني منظومة من الأخلاق الرديئة التي تنشأ عن نفسية مريضة، تتتبع الذلات، وتقتنص السيئات، ثم تجعل الاستثناء هو الأصل.
يعني الخروج عن هذه القاعدة بالكلام في ناس إنما يكون استثناءً لا بد فيه من قواعد وضوابط وهي في أضيق ما يكون من الحدود يجعلها هي الأصل، ويجعل الأصل استثناءً فيحفظ لسانه فقط عمن يوافقه، يحفظ لسانه فقط عمن يحبه، وكأن هذه الأحكام الشرعية فقط لمن يحب، ولمن يوافقك، ولمن يجري في هواك ومجراك، أنا أدعو نفسي وإخواني إلى تقوى الله ـ تعالى ـ وحفظ اللسان «كُفَّ عليك هذا».
فقد قال النبي لمعاذ وهو من سادات الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بعد ما سأله عن أبواب الخير وأنواع من البر قال: «ألا أدلك على مِلاك ذلك؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «كفَّ عليك هذا» قال معاذ: "وإنا مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟" قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكبُّ الناس على وجوههم أو مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟»[سنن الترمذي(2616)، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»] ستجد ما تتكلم به أو ما تكتبه أو ما ترسله أو ما تعيد تدويره من وقيعة في الناس أو اتهامٍ لهم أو نيلٍ منهم ستجده في صحائف عملك، فاستقلَّ أو استكثر، والموعد عند الله.
المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ وجزاكم خيرًا على هذا التوجيه المبارك.