الحمد لله رب العالمين، أحمده جل في علاه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
فهذا المجلس نتناول فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يتصل بالقواعد في صفات الله ـ تعالى ـ وهو القسم الثاني مما ذكره المؤلف –رحمه الله- في هذه الرسالة بعد المقدمة.
قواعد جمع قاعدة وتكلمنا عن القواعد وقلنا إن القاعدة هي قضية كلية، فلما قال في صفات الله ـ تعالى ـ علمنا أنها قضايا كلية في الصفات، والصفات صفات الله صفات جمع صفة والصفة يعرفها أهل اللغة بأنها الاسم الدال على بعض أحوال الذات هكذا يعرفون الصفة.
الصفة هي الاسم الدال على بعض أحوال الذات كالطويل والقصير والكبير وما أشبه ذلك، هذا تعريف الصفة والصفات التي نبحثها هنا هي صفات الله –جل وعلا-وقد ذكر فيها سبع قواعد وهذه القواعد قواعد تنظم وينتظم بها باب صفات الله –جل وعلا-وهو من أجل الأبواب وأعظمها ؛ لأنه به يعرف الله ويعلم، فالعلم بالله هو من طريق العلم بصفاته، العلم من طريق العلم بأفعاله، والصفات تستفاد من الأفعال ومنها تشتق الأسماء.
القاعدة الأولى التي ذكرها المؤلف –رحمه الله-فيما يتعلق بصفات الله تعالى، تقرير أن صفات الله ـ تعالى ـ كمال يقول صفات الله ـ تعالى ـ كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه هذه هي القاعدة، صفات الله تعالى كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
ومن المهم أن نعلم أن الصفات من حيث الكمال والنقص لها أربعة أحوال، أو لها أربع أحوال، الصفات من حيث الكمال والنقص عمومًا لها أربع أحوال:
الحال الأولى: صفة كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهذا ثابت لله جل وعلا.
الحال الثانية: صفات نقص لا كمال فيها بوجه من الوجوه، وهذه ينزه عنها الله جل في علاه.
الحال الثالثة: صفات هي كمال من وجه ونقص من وجه، وهذه يفصل فيها، الكمال يثبت والنقص ينفى.
الرابع من الأحوال: صفات لا نقص فيها ولا كمال وهذه هي القسم العقلية، وذكرنا هذا القسم الرابع ؛ لكونه تكميلًا عقليًا في الواقع قد لا يكون هناك شيء مندرج تحت هذه الحال ؛ لكن على كل حال هي قسمة عقلية يتم بها، وبالنسبة لله ـ تعالى ـ فليس مما يتصف به الله –جل وعلا-فالله لا يتصف إلا بالكمال هذا ما يتصل بأحوال الصفات من حيث الكمال والنقص كم هي؟ أربع أحوال.
المؤلف يقول: صفات الله ـ تعالى ـ كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وهذا هو القسم الأول فهو ثابت لله –جل وعلا-يبين المؤلف أمثلة هذا وأدلته، ثم يأتي على بقية الأحوال الأخرى، وهي حال ما هو نقص لا كمال فيه بوجه من الوجوه وحال ما كان ما فيه ما هو كمال من وجه ونقص من وجه نقرأ كلام المؤلف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
قال شيخنا العالم الجليل محمد بن عثيمين –رحمه الله-وغفر له ولنا ولشيخنا وللحاضرين.
قواعد في صفات الله تعالى:
القاعدة الأولىصفات الله ـ تعالى ـ كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك. وقد دل على هذا السمع، والعقل، والفطرة.
إذًا الآن المؤلف ذكر القاعدة وذكر مثالها ثم شرع في الاستدلال لها، صفات لا نقص في كمال صفات كمال أي مدح وثناء ومجد لا نقص فيها بوجه من الوجوه هذه كلها ثابتة لله، مثل لها بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة والعزة والحكمة قال وغير ذلك، وهذا الأصل في أسماء الله –جل وعلا-هذا هو الأصل في صفاته أنها كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وقد دل على هذا أي ثبوت هذا النوع من الصفات لله –جل وعلا-السمع والعقل والفطرة، فذكر كم دليل؟ ذكر ثلاثة أنواع من الأدلة:
النوع الأول: السمع وهو الكتاب والنسة.
الثاني: العقل وهو التأمل والنظر والفكر.
الثالث: الفطرة وهو ما جبل الله عليه القلوب الخلق.
ننظر في أدلة ما ذكر.
أما السمع: فمنه قوله ـ تعالى ـ:﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ سورة النحل، الآية: 60.والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى.
هذا الدليل الأول السمع وهو قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[النحل: 60] معناه الصفة يعني وله الصفة العليا، والمثل يذكر في كلام العرب ويراد به الصفة ومنه قول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا﴾[محمد: 15] فقوله مثل أي صفة هذا معنى قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾[النحل: 60] والأعلى أي الأكمل الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه هذا الدليل، وقد جاء ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾و ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾.
وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة، فلابد أن تكون له صفة. إما صفة كمال، وإما صفة نقص.
إذًا احتمالات الصفات نوعان؛ إما أن تكون صفة كمال في الموجود، الموجود له احتمالان؛ إما أن يكون موصوفًا بكمال، وإما أن يكون موصوفًا بنقص، هذه الاحتمالات العقلية للصفات.
يقول: والثاني الذي هو النقص باطل بالنسبة للرب الكامل المستحق للعبادة.
ولهذا أظهر الله تعالى بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز. فقال ـ تعالى ـ:﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ سورة الأحقاف، الآية: 5.. وقال ـ تعالى ـ:﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ سورة النحل، الآيتان: 20، 21.. وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ سورة مريم، الآية: 42.، وعلى قومه ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ سورة الأنبياء، الآيتان: 66، 67..ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، وهي من الله ـ تعالى ـ فمعطي الكمال أولى به.
إذًا في الاستدلال العقلي المؤلف ذكر دليلين؛ الدليل الأول أن الاحتمالات في الصفات للموجودات إما أن تكون كمال، وإما أن تكون نقص، والنقص ممتنع على الرب –جل وعلا-فلم يبقى إلا الكمال، فهو مستحق له دليل أن الله لا يوصف بالنقص أن الله ـ تعالى ـ استدل على إبطال ألوهية غيره بنقصه، هذا هو وجه الدلالة يقول الله –جل وعلا-: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾[الأحقاف: 5] فوصفهم بالغفلة ووصفهم بترك الاستجابة لمن دعاهم وقصدهم وهذا دليل عجز وعدم السمع وعدم العلم وما أشبه ذلك، فهو دليل على نقص في الصفات.
قال: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾[النحل: 20] فدل نقصهم على عدم إلهيتهم وهذا من الأدلة الدالة على أن الله مستحق لكل كمال، وإلا لم يكن إلهًا قال: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾[مريم: 42] وما إلى ذلك من الآيات الدالة على أن الله ـ تعالى قد استدل أو أثبت بطلان إلهية غيره بنقصه.
الدليل الثاني العقلي الذي ذكره المؤلف أنه قد ثبت بالحس والمشاهدة، أن للمخلوق صفات كمال فهي من الله ـ تعالى ـ فمعطي الكمال أولى به وهذا دليل عقلي آخر، فإذا كان الله ـ تعالى ـ قد أعطى الكمال فهو أولى به، وكل جمال في الدنيا دليل على جمال الرب، فحيثما شاقك جمال وبهرك منظر فأعلم أن الذي جمل هذا هو الجميل ـ جل في علاه ـ فهو الذي يهب الجمال ويهب الإحسان، وهو أولى به سبحانه وبحمده.
الدليل الثالث من الأدلة على القاعدة وهي أن الله متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه الفطرة وذكرنا في الفطرة ما جبل الله عليه القلوب، ما ركزه الله في النفوس.
وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة مفطورة على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟
هذا الدليل يقول: النفوس مجبولة على محبة الله وتعظيمه وعبادته، هذا شيء ركز الله ـ تعالى ـ في الفطر وجبل النفوس عليه يقول الله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ» ثم ذكر ما يخرج به الناس عن الفطرة «فأبواه يُهوِّدانِه ويُنصِّرانِه ويُمجِّسانِه» أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) وفي الصحيح من حديث عياض بن حمار قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: يقول الله تعالى: «وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ»صحيح مسلم (2865) كل هذه الأدلة وغيرها يدل على أي شيء يدل على أن الرب ـ جل في علاه ـ قد ركز في قلوب عباده الانجذاب إليه ومحبته.
يقول ابن القيم القلب مضطر إلى محبوبه الأعلى فلا يغنيه عنه حب ثاني، فهذا شيء في القلوب لا تسكن ولا تقر ولا تنعم ولا تطيب ولا تلتذ ولا تبتهج ولا تسر ولا تطمئن إلا بالانجذاب إلى الله ـ جل في علاه ـ شيء لا يمكن للناس أن ينفكوا عنه، ولهذا يعيش الناس في أمر مريج قلق عظيم عندما ينصرفون عن رب العالمين وعندما يتعلقون بغيره، والقلوب مفطورة ومجبولة على محبة من اتصف بالكمال أرأيتم شخصًا يحب قبيحًا ما يحب القبيح ينفر منه نفوس مجبولة على النفور من القبائح، لكنها مجبولة ومفطورة على الانجذاب إلى المتصف بالكمال فلما كانت مجبولة على محبة الله دل هذا على أنه كامل في صفاته لأن النفوس لا تحب إلا الكامل هذا وجه الدلالة من الفطرة هذه هي الحالة الأول من أحوال الصفات، وهي الصفات التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه هذه الحالة الأولى من حال الصفات من حيث الكمال والنقص.
الحالة الثانية الصفات التي هي نقص لا كمال فيها، فهذه ما شأن اتصاف الله تعالى بها.
وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى كالموت والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم ونحوها؛ لقوله ـ تعالى ـ:﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ سورة الفرقان، الآية: 58.. وقوله عن موسى ﴿فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى﴾ سورة طه، الآية: 52. وقوله ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ﴾ سورة فاطر، الآية: 44. . وقوله ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ سورة الزخرف، الآية: 80.وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدجال"إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور" أخرجه البخاري (7131)، ومسلم (2933) رواه البخاري، وقال "أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائبًا" رواه البخاري، ومسلم.
الآن المؤلف الذي قرره أن الصفات التي هي نقص لا كمال فيها، يمتنع وصف الله ـ تعالى ـ بها ما الدليل؟ ذكر ثلاثة أدلة أول هذه الأدلة أن الله ـ تعالى ـ نفاها عن نفسه في مثل قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان: 58]، ومثل قوله: ﴿فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾[طه: 54]، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾[فاطر: 44]، فنفي الله لهذه النقائص يدل على أنه لا يتصف بالنقص ـ جل في علاه ـ هذا هو الدليل الأول الذي ذكره المؤلف لامتناع اتصاف الله ـ تعالى ـ بصفات النقص.
وقد عاقب الله ـ تعالى ـ الواصفين له بالنقص، كما في قوله ـ تعالى ـ:﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ سورة المائدة، الآية: 64. وقوله ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ سورة آل عمران، الآية: 181.
الدليل الثاني معاقبة الله ـ تعالى ـ لمن وصفه بالنقص، والعقاب إنما يكون لمن يا إخوان؟ لمن عصى وأسى فلو كان وصف الله بالنقص جائزًا لما عاقب الله ـ تعالى ـ من وصفه به، فدل ذلك على أنه ممتنع أن يوصف الله ـ جل في علاه ـ بالنقص، هذا هو الدليل الثاني معاقبة الله ـ تعالى ـ لمن وصفه بالنقص، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾[المائدة: 64] هذا وصف بالنقص غلت أيديهم العقوبة على قولهم، ثم بين كماله فقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[المائدة: 64] جل في علاه سبحانه، والآية الثانية كذلك ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾[آل عمران: 181] وهذا نقص ﴿وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ هذا تهديد لهم ووعيد.
الدليل الثالث على امتناع اتصاف الله بالنقص.
ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص، فقال ـ سبحانه ـ:﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سورة الصافات، الآيات: 180 - 182. وقال ـ تعالى ـ:﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ سورة المؤمنون، الآية: 91.
فكل أية فيها تنزيه الله ـ تعالى ـ نفسه، فإنما ينزه الله ـ تعالى ـ نفسه في جملة ما ينزه نفسه عن النقائص.
إذًا هذه ثالث الأدلة أن الله نزه نفسه عن النقائص فقوله مثلا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾[الإسراء: 1] سبحان كلمة تنزيه، نزل الله ـ تعالى ـ نفسه عن أمور نجملها للفائدة هي ثلاثة أمور؛
الأمر الأول ينزه الله ـ تعالى ـ نفسه عن النقائص والعيوب.
والثاني ينزه الله ـ تعالى ـ نفسه عما وصفه به الجاهلون فإذا قلت سبحان الله استحضر هذين المعنيين أن الله –سبحانه وتعالى-ينزه نفسه عن النقائص والعيوب، وينزه نفسه عما وصفه به الجاهلون.
الثالث من المعاني التي يتضمنها التنزيه أن الله ينزه نفسه عن أن يكون له نظير أو شبيه أو مثيل، ليس كمثله شيء –سبحانه وبحمده-فهذه المعاني الثلاثة مستفادة من قوله –جل وعلا-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾[الإسراء: 1]، ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾[الجمعة: 1]، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾[الأعلى: 1] أين ينزه؟ عن النقص والعيب، ينزه عما يصفه به الجاهلون، نزهه عن أن يكون له نظير أو مثيل فيما أخبر به عن نفسه من صفات الكمال جل في علاه، فهذا الدليل الثالث الذي ذكره المؤلف –رحمه الله-من أدلة الامتناع لله ـ تعالى ـ من أن يتصف أو أن يكون في صفاته نقص أو عيب ما هي الأدلة الثلاثة نجملها؟
الدليل الأول: نفى الله نفسه عن النقائص مثل: الذي لا يموت وما أشبه ذلك لا تأخذه سنة ولا نوم.
الثاني: معاقبة الله ـ تعالى ـ لمن وصفه بالنقص.
الثالث: تنزيه الله ـ تعالى ـ نفسه فنزه الله ـ تعالى ـ نفسه، ومن جملة ما نزه الله نفسه عنه النقائص والعيوب.
الآن نحن انتهينا من كم حال من أحوال الصفات في الكمال والنقص؟ من حالين؛ حال الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه وهذا ثابت أو غير ثابت لله؟ ثابت لله.
والحال الثانية: صفات نقص لا كمال فيها، فهذا مما يمتنع منه الله –جل وعلا-ولا يوصف به.
الحال الثالثة: وإذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصًا في حال، لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتًا مطلقاً، ولا تنفى عنه نفيًا مطلقًا بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها. فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصاً في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله ـ تعالى ـ من صفاته على سبيل الإطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله ـ تعالى ـ:﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ سورة الأنفال، الآية: 30 وقوله ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ سورة الطارق، الآيتان: 15، 16. وقوله ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ سورة الأعراف، الآيتان: 182، 183.وقوله ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ سورة النساء، الآية: 142. وقوله ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ سورة البقرة، الآيتان: 14، 15.ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه فقال ـ تعالى ـ:﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ سورة الأنفال، الآية: 71.. فقال ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهي صفة ذم مطلقًا.وبذا عرف أن قول بعض العوام: "خان الله من يخون" منكر فاحش، يجب النهي عنه.
هذه هي الحالة الثالثة من أحوال الصفات، وهي الصفات التي تحتمل كمالًا وتحتمل نقصًا، فهي كمال من وجه، ونقص من وجه، هذا لا تنفع عن الله مطلقًا ولا تثبت له مطلقًا، بل تثبت له ما فيها من الكمال وينفى عنه ما يكون فيها من نقص.
يقول –رحمه الله-: هذه لم تكن بعد أن ذكرها قال: وإن كانت الصفات كمالًا في حال ونقصًا في حال، لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتًا مطلقًا، ولا تنفى عنه نفيًا مطلقًا، بل تفصل لا بد من التفصيل فتجوز في الحال التي تكون كمالًا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا، وذلك كالمكر والكيد والخداع، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾[الأنفال: 30] والكيد قال ـ تعالى ـ: ﴿يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾[الطارق: 15-16]، والخداع قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾[النساء: 142] فأضاف الله ـ تعالى ـ إليه معاني هذه الأفعال، وهذه الأسماء أو هذه الصفات، أضاف الله ـ تعالى ـ إليها هذه المعاني المكر والكيد والخداع لما كانت هذه الكلمات عندما تطلق ينقدح في أذهان كثير من الناس المعنى المذموم لها، فإن من الناس من قال لا نثبتها إلا بالكلية، بل هذا إنما قاله الله ـ تعالى ـ على وجه المقابلة، وعلى وجه المشاكلة، فقالوا: لا نثبت أنه يمكر ولا نثبت أنه يكيد ولا نثبت أنه يخادع، إنما ذكرت هذه الكلمات على وجه المقابلة والمشاكلة، قال بهذا جماعات من أهل العلم.
والذي عليه المحققون وجرى عليه سلف الأمة، إثبات هذه الألفاظ كما أثبتها الله ـ تعالى ـ وإثبات هذه المعاني كما أثبتها الله ـ تعالى ـ لنفسه في كتابه وهو أعلم بنفسه ورسوله أعلم به، لكن يجب اعتقاد أنه لا يثبت منها إلا الكمال لله ـ تعالى ـ فالمكر لا يثبت المكر المذموم بوجه من الوجوه لله ـ تعالى ـ المكر حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراد هذا حقيقة المكر إظهار أمر وإخفاء خلاف هذا الأمر يتوصل به إلى أمر.
حكم المكر يختلف باختلاف ما يتوصل إليه، فإن كان يتوصل إلى نصرة مظلوم وإلى إحقاق حق، وإلى معاقبة من يستحق العقاب كان كمالًا، وإذا كان المكر في خلاف هذا، فإنه مذموم ينزه الله ـ تعالى ـ عنه.
إذًا المكر والكيد والخداع الثابت لله من هذه المعاني هو ما كان كمالًا، أما ما لا كمال فيه فإن الله ـ تعالى ـ منزه عنه ـ جل في علاه ـ ولهذا يقول المؤلف فهذه الصفات تكون كمالًا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها، لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصًا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله ـ تعالى ـ في صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها قال: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾[الأنفال: 30] فذكر المكر في مقابلة المكر، قال ﴿يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾[الطارق: 15-16]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[الأعراف: 182-183] هذه الإطلاقات إنما ذكرها الله ـ تعالى ـ في مقابلة فعل، فناسب أن يقابل بنظير على وجه المعاقبة وهي في هذه المواطن مواطن كمال، لكن لا يوصف الله ـ تعالى ـ بها على وجه الإطلاق، وما جاء مطلقًا إنما يفهم من السياق والسباق أنه في حق من يستحقونه.
مثال ذلك قول الله ـ تعالى ـ: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾[الأعراف: 99] هذه ما نكر مكر المقابل مكر، لكن لما قال: أفأمنوا مكر الله كان خطاب لقوم حدث منهم نوع من الغفلة توجب تنبيههم إلى الله ـ تعالى ـ قادر على أن يمكر بهم، فهو في مواطن الإطلاق يفهم منه أنه لا يكون إلا في حق المستحق وهذه قضية واضحة، ونحن إذا كررنا أن الله له المثل الأعلى وأن الله له الصفة العليا اندفع أن كل ما يمكن أن يكون من وهم باطل أو خيال فاسد، فيما يتعلق بإثبات نقص في صفات الرب ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾[فصلت: 46]، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾[الزخرف: 76] وما إلى ذلك من الآيات التي يثبت الله ـ تعالى ـ فيه كمال عدله بنفي الظلم عنه جل وعلا.
قال: ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه لماذا؟ لأنه نقص لا كمال فيه، نقص مطلق وهذا هو القسم الثاني من الأقسام وهو ما هو نقص لا كمال فيه، ولهذا لم يذكره الله ـ تعالى ـ لم يضيفه الله لنفسه ؛ لأن الخيانة لا تطلق إلا في مقام الذم.
قال: ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه، فقال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[الأنفال: 71] فقال: فأمكن منهم ولم يقل فخانهم ؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان وهي صفة ذم مطلقة.
ولهذا جاء في الحديث في الترمذي من حديث أبي هريرة في إسناده مقال ولا تخن من خانك أدي الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك لماذا؟ لأن الخيانة لا تقع إلا موقعًا مذمومًا في كل الأحوال ؛ لأنها كما قال: خدعة في مقام الائتمان.
قال: وبذا عرف أن قول بعض العوام خان الله من يخون منكر فاحش يجب النهي عنه، ومثل قول الله يظلمك مثل ما ظلمتني، الله منزه عن الظلم، ولا يكون الظلم في مقام ممدوح بالكلية، ولهذا الظلم محرم في كل حال وفي كل حين وفي كل زمان ومكان، هذه القاعدة الأولى التي ذكرها المؤلف رحمه الله.