×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / محاضرات المصلح / ندوة بناء الفقيه لـ أ.د خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

الحمد لله رب العالمين

وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

ففي بداية هذه الندوة المباركة وهذا اللقاء المميز، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم الإخلاص والقبول، وأن يعيننا وإياكم على ما فيه خير الدنيا والآخرة، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يجعلنا من حزبه وأوليائه، وأن يوفقنا إلى السداد في القول والرأي والعمل، كما أدعو الله –تعالى- أن يبارك في هذا المركز المبارك، مركز المشير بإشراف أخينا فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي، والفريق العامل في المركز؛ فلهم دور ريادي في نشر مثل هذه اللقاءات المباركة التي تجمع أطيافا من المهتمين بجوانب عديدة ومنها الجوانب العلمية الشرعية، فأسأل الله لهم السداد والتوفيق والقبول.

أما ما يتعلق بموضوع اللقاء، فالحقيقة أيها الإخوة موضوعنا موضوع من مهمات الموضوعات في هذا العصر وفي هذا الزمن على وجه الخصوص، ذاك أن الناس عندما يريدون أن يصلوا إلى غايتهم من تحقيق العبودية لله –عز وجل-، عندما يريدون أن يكونوا عبادا لله يحتاجون إلى من يبصرهم، إلى من يعرفهم بالطريق الموصل إلى الله، والطريق الموصل إلى الله طريق بين واضح جلي، لم يتركه الله –تعالى- عماءا بل بعث رسولا من أعلم الرسل به، ومن أفصح الخلق بيانا وإيضاحا، ومن أنصحهم، فجمع الله له علما وبيانا ونصحا، ومن توافرت فيه مثل هذه الصفات فلن يترك الأمة إلا على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.

لذلك طريق تحصيل العلوم الشرعية هو من الوضوح والجلاء والبيان كسائر ما جاء به خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-، ليس فيه التباس ولا خفاء؛ بل هو جلي واضح لكل من طلبه وأراده، إلا أن الحديث عن بناء الفقيه، أو كيف نتفقه وكيف نتعلم، هو حديث عن الطريق والوسائل والأدوات الموصلة إلى الغاية والمقصود، فهي اجتهادات بشرية وليست أمورا تتعلق بالنص لا مجال فيها للأخذ والرد، ولذلك نميز بين جانبين: جانب العلم، وبين جانب التعلم، بين الفقه وبين التفقه، فالعلم لا مجال فيه لمزيد رأي وفكر واقتراح، إنما هو استنباط واستهداء، ووقوف على أسرار الكتاب والسنة وفهم معانيهما بما يفتح الله –تعالى- على العبد.

لكن فيما يتعلق بالجانب الذي نتحدث عنه: جانب التفقه، جانب التعلم، هذا جهد بشري، وبما أنه جهد بشري فإن الطرق تتنوع في الوصول إليه، وفي تحديد المسار الذي يوصل إلى الغاية والمقصود؛ بالتالي نحن بحاجة إلى أن نعرف أن التفقه له طرق وليس طريقا واحدا، وهذا ليس أمرا حادثا، ولا أمرا طارئا، بل هو منذ الصدر الأول في هذه الأمة، فالعلماء متنوعون في طريقة تفقيههم، في طريقة تلقيهم، وفي طريقة تفقيههم للمتلقين عنهم، فلا يخفى علينا مدرسة الكوفة، ومدرسة الحجاز، فقه ابن عباس، وفقه ابن عمر، والجميع يصدر عن مورد واحد وهو الكتاب والسنة؛ لكنهم يختلفون في طريقة الوصول إلى تلك المعارف التي وضعها الله –تعالى- في كتابه، أو التي ضمنها الله كتابه –جل في علاه-، والتي تكلم بها النبي –صلى الله عليه وسلم- في سنته.

هناك قواسم مشتركة، لا تختلف من فقيه إلى آخر فيما يتعلق بالتعلم من الآداب، والأصول التي ينبغي أن تراعى وأن يستحضرها طالب العلم، من إخلاص النية لله –عز وجل-، وحسن القصد، وقصد الاتباع، البحث عن ما يرضي الله –عز وجل-، نبذ التعصب، وما إلى ذلك من سائر ما هو من الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يتحلى بها وأن يستحضرها، لا فرق في ذلك بين المدارس الفقهية على تنوعها، وهذا الجانب يمثل القواسم المشتركة، والأمور التي تتفق عليها المدارس على اختلافها.

فلا يمكن أن يقول قائل أن المدرسة الفلانية اعتنت بالإخلاص، والمدرسة الفلانية قصرت فيه؛ لأن هذا جانب يتعلق بالنوايا والمقاصد، وهو من الأمور المشتركة في جميع المدارس الفقهية، بعد عهد الصحابة –رضي الله عنهم- جاء التابعون، ونقلوا الطرق التي تلقوها باختلافها إلى من بعدهم، إلى أن تشكلت المدارس الفقهية في المذاهب المشهورة التي استقر العمل على ذكرها والرجوع إليها، وانضمام المتفقهين في ظلالها، مذهب الحنفية، مذهب المالكية، مذهب الشافعية، مذهب الحنابلة، وأمثال هذه المذاهب كثر فيما يتعلق بالمدارس الفقهية، لكن الذي بقي منها هو هذه المدارس التي اجتمعت عليها القلوب، وأصبح الناس يصدرون عنها.

هذه المدارس تمثل طرقا للتفقه، وبالتالي طرق التفقه ليست طريقا واحدا؛ إنما هي طرق مختلفة تتميز في بعض جوانبها، وتختلف في بعض تفاصيلها، وتشترك في نقاط، وتلتقي في صفات، لكنها في الجملة هي مدارس ذات سمات مختلفة، ولذلك لما اختلفت تلك المدارس في أصولها وقواعدها، ترتب على هذا الاختلاف اختلاف النتائج، فالنتائج هي ثمرة مقدمات، وبقدر ما تكون المقدمات محكمة، دقيقة، قوية، رصينة، مطردة، بقدر ما ينعكس هذا على النتائج فتكون سليمة، قوية، متميزة، والموازنة بين المدارس الفقهية القديمة ليست ذات ثمرة كبيرة في هذا العصر حقيقة، وهي في مجال ذكر ما تميز به المذهب على وجه بيان السمات التي تميز بها ليستفاد منها لا لينتقص بها بقية المذاهب، وهذا ملحظ مهم، حتى نعرف عندما يتحدث العلماء عن ميزات المذهب الحنفي، مميزات المذهب المالكي، الشافعي، الحنبلي، هذا ليس مقام مفاضلة للمنافسة وتنقص الآخرين، إنما هو بيان لفضيلة تميز بها هذا الطريق هذا المنهج، ولا يعني إلغاء ما في الطرق الأخرى والمناهج الأخرى من إيجابيات.

جرى العلماء على هذا النمط من التفقه سنوات، وكان هناك اجتهادات كثيرة من أهل العلم في نقل الفقه وتقريبه، وأقول: كل تلك الجهود غايتها واضحة وجلية، عنوانها واضح وهو تقريب العلم وتيسيره، وتسهيل حصوله للراغبين فيه، هذا هو العنوان الكبير الذي جرى عليه العلماء في تلك المدارس، من خلال مؤلفاتهم، من خلال مختصراتهم، من خلال ما خلفوه من تراث علمي واسع، جرى على هذا العلماء والناس على طريقة متقاربة، لم تكن هناك قفزات في المناهج العلمية، لماذا؟ لأنه لم يكن هناك تغير كبير في حياة الناس يوجب استحداث طرق جديدة، ابتكارات جديدة في مناهج التعليم، ولهذا تجد الفقهاء توافرت هممهم على خدمة متون معينة، على خدمة مختصرات فقهية، رغم أن المتن مخدوم إلا أنه يأتي من يزيد في هذا المتن ويخدمه، وتعاقب الناس على هذا ردحا من الزمن طويل.

ثم لما جرى هذا التقدم الذي نعيش الآن في ظلاله، وهو الثورة الصناعية، والثورة الحضارية، التي غيرت نمط حياة الناس، ليس فقط في مأكلهم أو مشربهم أو ملبسهم أو مسكنهم بل في كل نواحي حياتهم، هذا التغير، هذه النقلة الهائلة التي جعلت العالم يعيش على نحو مختلف تماما عما كانوا عليه قبل سنوات ليست بالبعيدة يعني أبعد ما يكون يمكن نقول 200 سنة، في البلاد المتقدمة، أو 250 سنة في مثل بلادنا خمسين سنة مضت أن ترى أن الوضع لا يختلف كثيرا ما كان عليه الناس في زمن متقدم في أول الألف وثلاثمائة، أو في ألف وثلاثمائة وعشرين وما إلى ذلك، ليس هناك فروقات كبيرة بل هناك من يقول: إن وضع الناس قبل خمسين أو ستين أو سبعين سنة في هذه المنطقة على وجه الخصوص يشبه كثيرا ما كان عليه الصحابة –رضي الله عنهم- في معيشتهم، فهم في مزارع، وسائل النقل هي هي، الدواب وما إلى ذلك، وبالتالي لم يحدث للناس نقلة توجب أن يعيد الناس النظر في مناهجهم، وفيما يتلقونه، وفيما يدرسونه، طبعا جرى ما جرى من تحديث في حياة الناس، وعمل المختصون في العلوم الشرعية بكل جهد، وأرجون أن يكون بكل إخلاص أيضا، لمواكبة هذا التغير باستحداث مناهج جديد، لا سيما بالدراسات النظامية، وبقيت دراسات في غالبها الدراسات الشرعية في المساجد على النحو المتقدم، لم يطرأ عليها التغيير المطلوب، أو التغيير المأمول الذي يواكب التغير في حياة الناس، كان في الدراسات النظامية أكثر منه في الدراسات في المساجد، وبالتالي تجد أن هناك فرقا بين المدرستين: مدرسة المسجد أو الجامع على اختلاف أنواع التعليم فيه، سواء كان في الفقه، في الحديث، في العقيدة، في سائر أبواب العلم، وبين الدراسة فيما يتعلق بالجامعات، ولما كانت الدراسات الجامعية لا تفي بالغرض مهما كانت إتقانا وجودة في مناهجها.

لعوامل كثيرة أصبح ما ذكره الدكتور عبد الله في المقدمة من أن الناتج الحاصل المخرج من هذه المدارس وهذه الجامعات لا يلبي الحاجة التي يحتاجها الناس، هذا من حيث الدراسة النظامية التي جرى عليها من التعديل، ما يمكن أن يكون موائما ومناسبا للواقع العلمي أو للواقع الحياتي للناس، ويجيب على بعض إشكالاتهم في حياتهم، أما ما يتعلق بالدراسة في المساجد فغالبها بعيد كل البعد عن حياة الناس، وأنا أقول هذا وبكل وضوح ممارسة وقراءة للكتب، يعني نحن نردد في دروسنا متونا محددة، وكتبا معينة قد نبقى فيها سنوات طوال، ويمل الطلاب وينقطعون، الطالب الذي يكتسب علما رصينا في هذه الدروس، لو قلت له بعد انتهائه من المدة التي تعلم فيها: اخرج لحياة الناس وأجب عن إشكالاتهم سيصادف لا سيما في مجال المعاملات أن تسعين في المائة من حياة الناس لا يجد له جوابا، ولم يمر عليه في دراسته التي تلقاها من خلال التعليم الذي في الجوامع الذي ينهج المنهج القديم، بالتالي هنا يقف طالب العلم أمام مفترق طرق، ماذا يصنع؟ هل يقتصر على ما يقرأه؟ طبعا أنا أتكلم عن القصور ولا أتكلم عن الإيجابيات، القراءة في الكتب المتقدمة على طريقة المساجد لها إيجابيات، القراءة في الجامعات على رغم ما فيها من قصور لها إيجابيات، لكن الكلام على النتيجة النهائية التي نأملها من المتخرج من دراسة الجوامع، والمساجد، ومن الجامعات، والمعاهد النظامية، المخرج النهائي لا يحقق المنشود والذي تحتاجه الأمة في جميع الجوانب العلمية، سواء كانت فيما يتعلق بالأحكام، أو كانت فيما يتعلق بالعقائد، يعني على سبيل المثال في جانب العقائد ندرس سواء في الجامعات أو المساجد العقائد التي تكلم عنها العلماء المتقدمون، من "الواسطية"، "والتدمرية"، وما قبل ذلك كتب السنة، والمنقول عن الأئمة، ولا بأس في ذلك، حسن، لكن على حجم هذا التعليم فيما يتعلق بجوانب الاعتقاد نغفل ما يحتاجه الناس في هذا العصر، من المذاهب التي لها تأثير حاضر في حياة الناس، من الوجودية، من الإلحاد، من العولمة وتأثيرها على عقائد الناس، جوانب كثيرة من المسائل الاعتقادية الحادثة نحن لا نتكلم عنها ولا نتطرق لها، السبب أننا ندرس ما تلقيناه، أنه ما هناك عندنا حس بأن ما ندرسه يجب أن يكون ملبيا لحاجة الناس، ليس فقط أنه والله أنا أقرأ وأبحث وأدرس ما درسني إياه شيخي، وهذه عقدة عند كثير من المعلمين أنه لا يخرج عما تلقاه عن شيخه، فهو درس عند الشيخ الذي تلقى عنه قبل عشرين ثلاثين سنة أربعين سنة، درس كتاب التوحيد، درس العقيدة الواسطية، درس التدمرية، الطحاوية، وبالتالي لن يخرج عن هذه المتون لو انطبقت السماء على الأرض، وهذا خطأ، نحن يجب أن نستفيد من هذا الموروث العلمي، الزاخر بمنافع عظيمة، ويبني أصولا أساسية، لكن لابد أن يضاف إلى هذا ما يلبي حاجة الناس، هذا في جانب الاعتقاد على سبيل المثال مع أن الحادث في جانب الاعتقاد مقارنة بالحادث في جانب الفقه أمر نسبته كبيرة، الفارق بينهما كبير جدا، يعني لا يمثل عشرين ثلاثين في المئة، ما نقدر نحدد بالنسبة الدقيقة، لكن الفارق والبون شاسع، فالحوادث والنوازل التي طرأت على الناس فيما يتعلق بجوانب الفقه والعمل أعظم بكثير مما يتعلق بجوانب الاعتقاد، فإذا كنا لم نلب الحاجة فيما يتعلق بجانب الاعتقاد وبناء العقائد السليمة للأمة، فنحن أيضا نعاني قصورا كبيرا في جانب التجديد في جانب الفقه الذي يحتاجه الناس، وتحدث فيه نوازل يومية، يعني الذي يواكب ما يجري سيجد أنه خلال شهر سيجد أنه فاته شيء كثير مما جد في حياة الناس من المسائل التي تحتاج إلى جواب وهو ليس عنده إحاطة بها فضلا عن أن يصل إلى حكمها، أو يعرف ما الشرع فيها.

بناءا على هذا أيها الإخوة المسئولية على المعلمين وطلبة العلم كبيرة؛ لأن القضية لا تتعلق بكم متن قرأت، وكم متن حفظت؛ إنما تتعلق بما هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه طالب العلم ليصل إلى الحد الأدنى من تلبية الحاجة في بناء الفقيه، في بناء العالم الذي يجيب على حوائج الناس.

من المؤكد أن العلم الشرعي له أصول ثابتة لا يمكن أن تتزحزح، هذه الأصول الثابتة للأسف أن أكثر الدارسين اليوم عنها غافلون، الأصول الثابتة هي الكتاب والسنة، ودعونا نكون صرحاء لو أعلن الآن درس لطلبة العلم في شرح متن من المتون الفقهية "الزاد"، "عمدة الفقه"، "البيقونية"، "نخبة الفكر"، لوجدت الطلبة يتهافتون، ويتكاثرون في الحضور، لو أعلن درس في شرح آيات الأحكام مثلا، أو تفسير سورة من السور، لكان العدد قليلا، هنا مفتاح الخلل، أننا اقتصرنا في التعلم على جهد علماء عاشوا في قرون قديمة، وبذلوا جهودا كبيرة، لتقريب العلم، وتبسيطه، وتسهيله لأهل عصرهم بما أفاء الله عليهم من فهم الكتاب والسنة، ونحن في هذا العصر تركنا الرجوع إلى المصادر واشتغلنا بهذه المتون عن الأصول، وبالتالي جهدنا في تحليل المتن، وتفكيك عباراته، وفهم مغلقاته، وحل إشكالاته، أعظم بكثير من جهدنا في فهم النص، وهنا يقع جانب كبير من الخلل في بناء الفقيه.

إذا نظرت إلى فقه الصحابة، الصحابة –رضي الله عنهم- تميزوا بفقه دقيق، فتح الله عليهم، طبعا هناك مقومات عديدة لذلك التميز، شهود الوحي، سلامة النية، سلامة الفطرة، تعلمهم على يد النبي –صلى الله عليه وسلم-، طهارة قلوبهم، عوامل كثيرة أدت إلى هذا النتاج، لكن منها أنهم كانوا يتقنون فهم معاني كلام الله وكلام رسوله، وهذا الذي ميزهم عن سائر طبقات الأمة؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام –رحمه الله- ويشير إلى هذا في أكثر من موضع من كلامه أن غاية الفقه أن تدرك فهم معاني كلام الله وكلام رسوله.

طيب يا إخواني أنا شخصيا أسأل نفسي وأسألكم في دراستنا وتدريسنا ما هو نسبة عنايتنا بفهم كلام الله وكلام رسوله، الآن كثير منا إذا جاءت مسألة من مسائل العلم يمكن أن يقص عليك أو يذكر لك الأقوال فيها، قال فيها ثلاثة أقوال، ويمكن إذا كان جيدا يعطيك من قال بهذه الأقوال، ويمكن أن يعطيك الأدلة، ويمكن يقول لك ورجح شيخنا كذا، وتنتهي السالفة، هل هذا فقه؟ الجواب: لا، هذا حفظ، شتان بين الحفظ والفقه، الفقه هو لما أقول لك من أين أخذت هذا الحكم؟ ما وجه الدلالة في هذه الآية على هذا الحكم؟ عند ذلك تكون فقيها، عندما تحسن وتدرك وجه الاستنباط، ومعرفة مأخذ الدليل في كلام الله وكلام رسوله، هنا يكون الفقه، أما سرد الأقوال ومعرفة القائلين بها، ومعرفة الأدلة، وذكر ترجيحات مشايخك، هذه ليست فقها، هذا حفظ، والحفظ ليس فقها، الحفظ له أهمية، وهو ركيزة من ركائز التعلم، وأساس من أساسات البناء العلمي والفقهي على وجه الخصوص، لكنه يبقى أن الحافظ ليس فقيها، إذا قصرت همته على عد الأقوال وإحصائها، إنما يكون فقيها إذا كان مدركا لمآخذ الأدلة، وعارفا بأوجه الاستدلال، وقادرا على الإجابة على ما يطرأ عليه من مسائل حديثة، لم يتكلم عنها العلماء المتقدمون، هنا يتبين الفقيه من غيره.

ولما كان الآن عند الناس الفقيه هو من يحفظ الأقوال أو يعرف قولا في المسألة أو يعرف دليل، أصبح الفقه واسع الدائرة عند كثير من الناس فأدخل من ليس بفقيه في الفقهاء، وهذا نوع من الخلل، لهذا الفقهاء العلماء يميزون بين الفقيه وبين المقلد الذي غاية همته أن يذكر ما ذكر العلماء المتقدمون، أو ما ذكره أصحاب مذهبه، أو من سار على طريقه.

إذا من ضرورات البناء الفقهي أن نعرف التمييز بين الفقيه وغيره، الفقيه هو من أدرك معاني كلام الله وكلام رسوله، وبقدر يا إخوان بقدر عناية القارئ وطالب العلم بفهم معاني الكتاب والسنة، بقدر ما يدرك من الفتوحات، وهذا مطرد، وأنا أقول دعونا من التنظير الفقهي، وتشقيق الكلام البعيد عن التطبيق، لننظر في واقع الأئمة على مر العصور، عندما نذكر العلماء المتميزين في كل المذاهب الفقهية تجد أن المتميز من الفقهاء إنما هو من كان صاحب فهم، ونظر، ومعرفة للأدلة، واستنباطاتها، ووجه دلالاتها، والإجابة عما قاله المخالفون، وما إلى ذلك مما يتعلق بالفهم، ولهذا الفقه ركيزته الأساسية هو الفهم، والفهم منحة من الله –عز وجل- بالتأكيد؛ لكنه يبنى مع الاجتهاد، ويكبر مع الوقت كنمو البدن تماما، البدن يبدو صغيرا ثم يكبر حتى يبلغ غايته في الكبر، كذلك الفقه، الفقه يحتاج إلى الفهم يحتاج إلى تدرب، وإلى استحضار أهمية المواصلة فيه لتدرك ما تريد، وأقول هنا أنه أحيانا يظن الإنسان أن الفهم يصل إلى حد ويقف، أو يصل إلى حد ولا يفوت الإنسان ما حصله من الفقه، وهذا غلط كبير في التفقه.

الفقه تماما كمجرى الماء، إن أجريت فيه الماء اتسع، وبقي مسلكا، ومعبرا للماء، إن تركته تجمعت فيه العوائق حتى يضيق، ولذلك يذكر على سبيل المثال أبو حامد الغزالي فيما يتعلق بفقه النفس يقول: "وكم من فقيه للنفس غفل عن فقهه يوما وليلة!، ثم توالت عليه الغفلات حتى فقد ما منحه الله من الفقه"، هذا تنبيه مهم إلى أن عملية الفهم وبناء الفقه ليست عملية يصل فيها الإنسان إلى غاية ومنتهى، وهذا معنى ما يردد المذكرون، والحاثون على طلب العلم أنه لابد من المواصلة.

 مثلا الإمام أحمد لما كان يقول: "من المحبرة إلى المقبرة"، ولما قالوا له: إلى متى يا أبا صالح وأنت على هذه الحال؟ قال: إلى الممات، وما أشبه ذلك من الكلمات التي تشعر بأن عملية التعلم عملية متواصلة، ليست عملية تحصلها في يوم وليلة، أو منهج، أو متن تنتهي منه وتقول حصلت الفقه، حصلت العلم، العلم لا يحصل ولا يدرك إلا بمواصلة السير، وبذل الجهد في تحصيل المطلوب، وألا يغفل الإنسان عن هذه الأصول التي هي في الحقيقة مفتاح للبناء الفقهي ولتطويره.

بالنظر للواقع الذي نعيشه الآن عندما يقدم طالب العلم على التعلم ماذا يصنع؟ حتى نأتي إلى جانب عملي، أنا أقول: قبل أن تشرع في سلوك أي طريق للبناء الفقهي أن تعرف أنه ليس هناك طريق ستدرك منه جميع ما تأمل من الفقه، جميع ما تأمل من العلم، ما في طريق يوصلك إلى النهاية، هذه نقطة أساس وركيزة أولى، لأجل أن نفهم ماذا؟ نفهم أن العلم لا نهاية له، هذا واحد، وثانيا لئلا نصاب بالإحباط، لأن بعض طلبة العلم يأتي والدرس يعلن ويحضر عند الشيخ ويشوف أنه درس فصل فصلين، أنهى متنا متنين، ثم يقول أين أنا؟! ما زاد بي شيء، يعني أشعر أني تغيرت، أشعر أني فعلا بلغت مرتبة من الفهم والعلم ما يجعلني أواصل، وبالتالي ينقطع كثير من الناس لسبب أنه ما شاف فيه تغير، التغير لا يمكن أن يبدو في فترة وجيزة، وأنت إذا أدركت في الخطوة الأولى أن سلوكك أي طريق علمي أو أي منهج للتعلم هو في الحقيقة مفتاح، وليس غاية، وليس نهاية، وليس المطلوب الذي لا بعده شيء؛ إنما هو مفتاح، أدركت أن هذه الدروس في المساجد، أن هذه الدروس في الجامعات هي مفاتيح للتعلم، هي مفاتيح تدرك بها شيئا من العلم، وهذا معنى ما ذكره ابن القيم –رحمه الله- عندما قال: "كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل من صدور الرجال إلى بطون الكتب"، ثم يقول عن عصره –رحمه الله-: "وليس مع العلماء اليوم إلا مفاتيحه".

 إذا لابد أن ندرك أنه نحن في تعلمنا، إنما نحصل مفاتيح، لما تجلس عندما تثني ركبتك عند شيخ من المشايخ وعالم من العلماء، إنما تشتغل بماذا؟ بتحصيل مفتاح، ليس غاية ولا نهاية، وبالتالي من المهم أن تجتهد في إدراك هذا، لتواصل البناء، لن تدرس درسا، ولن تدخل معهدا ولا جامعة وتتخرج منها حاويا للعلم، مدركا لكل تفاصيله، إنما عندك مفاتيح، طيب هذه المفاتيح ماذا تصنع بها؟ هذه المفاتيح تستطيع من خلالها أن تصل إلى ما وراء هذه العلوم، وأنا أقول: لا يمكن أن يبنى علم إلا بجهد ذاتي، لابد أن يكون لطالب العلم جهد خاص ذاتي فيما بينه وبين نفسه، لا يقتصر فقط على حضور الدروس، ولا على سماع المحاضرات، ولا على التردد على الجامعات والمعاهد بل لابد من جهد ذاتي، وكلما ضاعفت الجهد أدركت من العلم ما لم يدركه غيرك، إنما لابد أن نعرف المسار الذي نسير عليه أولا، وأنه في دراستنا وفي تحصيلنا من طرق التعلم المباشر، أو التعلم عن طريق الدروس، سواء كانت مسموعة أو مرئية، أننا نحصل مفاتيح العلم، لا تأمل أكثر من هذا، ولهذا ينبغي لنا أن نضع هذه الدروس في إطارها فنجعلها مفاتيح، فإذا أشكل علينا شيء من العلم، استفتحنا تلك الإشكالات، وحللنا ذلك الإشكال من خلال هذه المفاتيح التي هي المشايخ والمتخصصون والمعلمون على شتى اختصاصاتهم واختلاف اهتماماتهم، هذه ركيزة أساسية، وعندما تغيب عن المعلم، وعندما تغيب عن المتعلم؛ يقع الإشكال، وهذا ليس جديدا.

الخضر أحد العلماء المتقدمين ما هو بقديم، في القرن الماضي -رحمه الله-، يقول: "اشتغلت فترة في التعليم، فكنت إذا جاء شيء من المسائل في النحو، وهو يدرس، أتيت بكل شاردة وواردة، حتى إنني أحيانا أتعمد إيجاد المناسبة لإدخال شيء ما له علاقة بالمادة في درسي؛ ثم تبين لي أن هذا المسلك فيه من الصد عن العلم أكبر من التعليم" هذا ما الإشكال؟ أين الإشكال هنا؟ الإشكال وقع في أن المعلم يظن أن التعليم بهذه الطريقة هو نهاية العلم، لو علم المعلم أنه في تعليمه إنما يعطي الطلبة مفاتيح، ويحرص على التأصيل والتقعيد، فتح الله عليه في الاختصار وفي تأصيل العلم، وفي إعطاء القواعد، وفي التركيز على مهمات كل فن ما يكون نفعا له ولطلبة العلم.

وبهذا من المهم للمتعلم والمعلم أن يعرفوا هذه الحقيقة، كوني أقرأ هذا المتن أول مرة، وأحصل من فهمه عشرين في المئة في القراءة الأولى هذا إنجاز ليس باليسير، فمن ظن أنه عندما أقرأ المتن، أو أقرأ هذا العلم، معناه أنني إذا قرأت هذا الكتاب لن أعود إليه مرة أخرى، أنا قرأته على العالم الفلاني، أخطأنا بهذا السبيل، الشيخ عبد الله أبابطين -رحمه الله- وهو من كبار علماء الحنابلة، مفتي الديار النجدية، قرأ "الروضة" أكثر من عشرين مرة، لماذا يقرأه عشرين مرة ماذا فيه؟ لأن التعلم عملية تراكمية، كل مرة يبدو له من الفهم ويبدو له من العلم، ويبدو له من التأصيل، ويبدو له من التقعيد، وزيادة الفهم ما لم يكن في المرة السابقة؛ لهذا أؤكد على أن المهم لطالب العلم سواء سلك التعلم النظامي، أو سلك التعلم الشرعي في المساجد، أن يعلم أن التعلم إنما هي مفاتيح ليست غايات.

طيب إذا كان مفاتيح فهل هذا يعني أن يقتصر على ما يقرأه في المساجد وفي الكليات أم يبذل جهدا للتحصيل؟ الجواب تقدم أنه لابد من جهد مضاعف للتحصيل حتى يدرك العلم، والجهد المضاعف الذي يبذله لا يقتصر فقط على حفظ المسائل، إنما على فهمها، وبقدر ما يفتح عليك في الفهم بقدر ما تدرك من العلم، لذلك لما دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس ماذا قال كما في صحيح الإمام البخاري؟ قال:((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل))+++[أخرجه أحمد في مسنده(2397)، وصححه الألباني في الصحيحة(2589)]---.

الفقه في الدين يتعلق بإدراك المعاني، وعلمه التأويل يتعلق بإصلاح العمل؛ لأن التأويل هنا الترجمة والتطبيق، وطبعا هناك قول آخر وعلمه التأويل: التفسير، لكن من المعاني المحتملة لهذا الدعاء في قوله "وعلمه التأويل" أي: ارزقه العمل بما فهم، لأن العلم إنما يثبت بالعمل، ولهذا من المهم أن تعتني بالفهم قدر الإمكان، ولا تمل، المسألة بنائية، تحتاج إلى تدرج، وإلى صبر؛ حتى تصل إلى ما تريد من التعلم.

وقد أدركنا جملة من المشايخ وبالنظر إلى طرائقهم في التعليم وفي الفتوى، تستطيع أن تميز بينهم بالنظر إلى طريقتهم، التميز الذي حصل لعلماء العصر الذين شاع ذكرهم وانتشر علمهم، لم يكن ذلك فقط لصلاح النية، الله أعلم، لم يكن ذلك لصلاح النية لأن النية جزء مما يصلح به النتائج، لكن حصر الأمر في صلاح النية هو هضم لقوم صلحت نواياهم لكنهم ما أنتجوا، هناك أمران: صلاح النية، وأيضا صلاح العمل، صلاح المسار الذي يدرك به العلم، وبالتالي لابد من الجمع بينهما، صلاح النية مع صلاح المسار.

أدركنا من المشايخ من تميز بالعلم، ولم يكن علمه موسوعي بمعنى أن موضوع يعرف فيه كل شيء، إنما يعرف أصولا وقواعد في كل علم، تمكنه من النظر في المسائل على اختلافها، وهنا نأتي إلى النقطة الثانية في البناء العلمي: وهو أن يكون التعلم مبنيا على التقعيد والتأصيل في كل باب من أبواب العلم، احرص في كل باب من أبواب على ضبط القواعد والأصول، فالذي ميز من ميز من العلماء، ليس كثرة استحضار المسائل وتفننها وما ذكرت من الاستدلال والترجيحات؛ إنما الذي ميز هو القواعد والأصول التي من خلالها رسخت أقدامهم في العلم، وهذا ترجمة للأمر الأول وهو الفهم، رسخت أقدامهم في العلم، واستطاعوا أن يجيبوا على ما جد في حياة الناس من مسائل، فالذي يضبط القواعد والأصول في أبواب العلوم على شتى تنوعها: في اللغة، في الفقه، في الحديث، في التفسير، في علوم المقاصد، وعلوم الآلات، يدرك من العلم ما لا يدركه من اشتغل بالفروع والشوارد والمسائل عن التقعيد والتأصيل.

مما ينبغي لطالب العلم في بنائه العلمي أن يحرص على أن لا يكثر في البداية من الخلاف ولا من التشعيبات التي تشوش عليه، وهذا معنى أشرت إليه قبل قليل أنه لابد من التدرج في التعلم، فإذا قرأت كتابا ينبغي لك أن تعرف أن الدراسة في هذا الكتاب ليست نهاية مطاف، المرة الأولى تضبط فهم كلام المؤلف على سبيل المثال، المرة الثانية استدلالات المؤلف، المرة الثالثة الترجيح هل هذا فيه قول ثاني أو ليس فيه قول ثاني؟ وهلم جرا، هذه المرات طبعا لا يمكن أن تتأتى في درس يستغرق خمس سنين عشر سنين، هذه المرات تتأتى في قراءات متوالية، أنا أقول: إذا كنت لا تجد من تختم معه الكتاب خلال أشهر إذا كان متنا عميقا طويلا، فالآن فتحت الأبواب من خلال الأشرطة التي يمكن أن تنهي من المتون حسب ما تبذل من الجهد والوقت، يمكن أن تنهي متنا طويلا في وقت يسير، وتسجل ما يشكل عليك وتراجع أهل العلم في هذه المشكلات ليفتحها عليك، ما هناك عذر اليوم، من ينتظر أن يعلن درس حتى يلتحق فيه لن يحصل علما؛ لأن غالب هذه الدروس لا تنتهي، وغالب هذه الدروس يعرضها ويعوقها من العوائق الشيء الكثير في التجربة والواقع، وأنتم لستم بعيدين عن هذا المضمار، وترون وتشاهدون، بالتالي لابد من أن يبذل الإنسان جهدا ليصل إلى ما يأمل، هنا من المهم في جانب التعلم أن يحرص طالب العلم على وضع مسائل النوازل والمسائل الحياتية التي يحتاجها الناس في ثنايا ما يدرسه فيما يتعلق بالفقه على وجه الخصوص، حتى يكتسب هذا من أول الوقت، لأن بعض الناس يقول: ما نحتاج إلى قراءة النوازل، خلونا نقرأ بس ما ذكره الفقهاء في المتون التقليدية المعروفة، نفهم كلام صاحب "الدليل"، كلام صاحب "الزاد"، ونتقنه، وإذا انتهينا ذهبنا نرى النوازل، هنا خلل في التعلم، وسينعكس هذا الخلل على مسيرتك العلمية، من المهم أن تقرن بين الاهتمامين: الاهتمام بمسائل العصر، وبين ما تقرأه من متون علمية، ولهذا أعد من المتقدمين المبرزين في الربط بين مسائل النوازل والواقع والفقه التقليدي الذي تكلم عنه العلماء المتقدمون في مؤلفاتهم، من الرواد في هذا: شيخنا عبد الله البسام –رحمه الله- في مؤلفاته حيث كان يكثر في حواشي ما حشى على كتب الفقه من ذكر المسائل النازلة بقراراتها إذا كانت مجمعية، بالفتاوى، بالاجتهادات، وهذا مما تميز به وهو فطنة ومهم لتدريب طالب العلم على أن الفقه يجيب عن المسائل التي يعيشها، وأن الفقه ليس فقه القرن العاشر إنما هو فقه القرن خامس عشر الذي يحتاج فيه إلى الاستفادة من الفقه القديم مع ما جد من مسائل الناس.

هذه بعض الكلمات المفرقة التي فتح الله –تعالى- بها، أسأل الله أن تكون مسددة، ما كان فيها من صواب فمن الله ومن توفيقه ومن تسديده، وما كان فيها من قصور أو تقصير فمني والشيطان، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعفو عني وعنكم، وأن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، والعمل بالتنزيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

المشاهدات:4685

الحمد لله رب العالمين

وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

ففي بداية هذه الندوة المباركة وهذا اللقاء المميز، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم الإخلاص والقبول، وأن يعيننا وإياكم على ما فيه خير الدنيا والآخرة، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يجعلنا من حزبه وأوليائه، وأن يوفقنا إلى السداد في القول والرأي والعمل، كما أدعو الله –تعالى- أن يبارك في هذا المركز المبارك، مركز المشير بإشراف أخينا فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي، والفريق العامل في المركز؛ فلهم دور ريادي في نشر مثل هذه اللقاءات المباركة التي تجمع أطيافًا من المهتمين بجوانب عديدة ومنها الجوانب العلمية الشرعية، فأسأل الله لهم السداد والتوفيق والقبول.

أما ما يتعلق بموضوع اللقاء، فالحقيقة أيها الإخوة موضوعنا موضوع من مهمات الموضوعات في هذا العصر وفي هذا الزمن على وجه الخصوص، ذاك أن الناس عندما يريدون أن يصلوا إلى غايتهم من تحقيق العبودية لله –عز وجل-، عندما يريدون أن يكونوا عبادًا لله يحتاجون إلى من يبصرهم، إلى من يعرِّفهم بالطريق الموصل إلى الله، والطريق الموصل إلى الله طريق بيِّن واضح جلي، لم يتركه الله –تعالى- عماءًا بل بعث رسولًا من أعلم الرسل به، ومن أفصح الخلق بيانًا وإيضاحًا، ومن أنصحهم، فجمع الله له علمًا وبيانًا ونصحًا، ومن توافرت فيه مثل هذه الصفات فلن يترك الأمة إلا على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.

لذلك طريق تحصيل العلوم الشرعية هو من الوضوح والجلاء والبيان كسائر ما جاء به خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-، ليس فيه التباس ولا خفاء؛ بل هو جلي واضح لكل من طلبه وأراده، إلا أن الحديث عن بناء الفقيه، أو كيف نتفقه وكيف نتعلم، هو حديث عن الطريق والوسائل والأدوات الموصلة إلى الغاية والمقصود، فهي اجتهادات بشرية وليست أمورًا تتعلق بالنص لا مجال فيها للأخذ والرد، ولذلك نميز بين جانبين: جانب العلم، وبين جانب التعلم، بين الفقه وبين التفقه، فالعلم لا مجال فيه لمزيد رأي وفكر واقتراح، إنما هو استنباط واستهداء، ووقوف على أسرار الكتاب والسنة وفهم معانيهما بما يفتح الله –تعالى- على العبد.

لكن فيما يتعلق بالجانب الذي نتحدث عنه: جانب التفقه، جانب التعلم، هذا جهد بشري، وبما أنه جهد بشري فإن الطرق تتنوع في الوصول إليه، وفي تحديد المسار الذي يوصل إلى الغاية والمقصود؛ بالتالي نحن بحاجة إلى أن نعرف أن التفقه له طرق وليس طريقًا واحدًا، وهذا ليس أمرًا حادثًا، ولا أمرًا طارئًا، بل هو منذ الصدر الأول في هذه الأمة، فالعلماء متنوعون في طريقة تفقيههم، في طريقة تلقيهم، وفي طريقة تفقيههم للمتلقين عنهم، فلا يخفى علينا مدرسة الكوفة، ومدرسة الحجاز، فقه ابن عباس، وفقه ابن عمر، والجميع يصدر عن مورد واحد وهو الكتاب والسنة؛ لكنهم يختلفون في طريقة الوصول إلى تلك المعارف التي وضعها الله –تعالى- في كتابه، أو التي ضمنها الله كتابه –جل في علاه-، والتي تكلم بها النبي –صلى الله عليه وسلم- في سنته.

هناك قواسم مشتركة، لا تختلف من فقيه إلى آخر فيما يتعلق بالتعلم من الآداب، والأصول التي ينبغي أن تُراعى وأن يستحضرها طالب العلم، من إخلاص النية لله –عز وجل-، وحسن القصد، وقصد الاتباع، البحث عن ما يرضي الله –عز وجل-، نبذ التعصب، وما إلى ذلك من سائر ما هو من الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يتحلى بها وأن يستحضرها، لا فرق في ذلك بين المدارس الفقهية على تنوعها، وهذا الجانب يمثل القواسم المشتركة، والأمور التي تتفق عليها المدارس على اختلافها.

فلا يمكن أن يقول قائل أن المدرسة الفلانية اعتنت بالإخلاص، والمدرسة الفلانية قصرت فيه؛ لأن هذا جانب يتعلق بالنوايا والمقاصد، وهو من الأمور المشتركة في جميع المدارس الفقهية، بعد عهد الصحابة –رضي الله عنهم- جاء التابعون، ونقلوا الطرق التي تلقوها باختلافها إلى من بعدهم، إلى أن تشكلت المدارس الفقهية في المذاهب المشهورة التي استقر العمل على ذكرها والرجوع إليها، وانضمام المتفقهين في ظلالها، مذهب الحنفية، مذهب المالكية، مذهب الشافعية، مذهب الحنابلة، وأمثال هذه المذاهب كُثُر فيما يتعلق بالمدارس الفقهية، لكن الذي بقي منها هو هذه المدارس التي اجتمعت عليها القلوب، وأصبح الناس يصدرون عنها.

هذه المدارس تمثل طرقًا للتفقه، وبالتالي طرق التفقه ليست طريقًا واحدًا؛ إنما هي طرق مختلفة تتميز في بعض جوانبها، وتختلف في بعض تفاصيلها، وتشترك في نقاط، وتلتقي في صفات، لكنها في الجملة هي مدارس ذات سمات مختلفة، ولذلك لما اختلفت تلك المدارس في أصولها وقواعدها، ترتب على هذا الاختلاف اختلاف النتائج، فالنتائج هي ثمرة مقدمات، وبقدر ما تكون المقدمات محكمة، دقيقة، قوية، رصينة، مطردة، بقدر ما ينعكس هذا على النتائج فتكون سليمة، قوية، متميزة، والموازنة بين المدارس الفقهية القديمة ليست ذات ثمرة كبيرة في هذا العصر حقيقة، وهي في مجال ذكر ما تميز به المذهب على وجه بيان السمات التي تميز بها ليستفاد منها لا لينتقص بها بقية المذاهب، وهذا ملحظ مهم، حتى نعرف عندما يتحدث العلماء عن ميزات المذهب الحنفي، مميزات المذهب المالكي، الشافعي، الحنبلي، هذا ليس مقام مفاضلة للمنافسة وتنقص الآخرين، إنما هو بيان لفضيلة تميز بها هذا الطريق هذا المنهج، ولا يعني إلغاء ما في الطرق الأخرى والمناهج الأخرى من إيجابيات.

جرى العلماء على هذا النمط من التفقه سنوات، وكان هناك اجتهادات كثيرة من أهل العلم في نقل الفقه وتقريبه، وأقول: كل تلك الجهود غايتها واضحة وجلية، عنوانها واضح وهو تقريب العلم وتيسيره، وتسهيل حصوله للراغبين فيه، هذا هو العنوان الكبير الذي جرى عليه العلماء في تلك المدارس، من خلال مؤلفاتهم، من خلال مختصراتهم، من خلال ما خلفوه من تراث علمي واسع، جرى على هذا العلماء والناس على طريقة متقاربة، لم تكن هناك قفزات في المناهج العلمية، لماذا؟ لأنه لم يكن هناك تغير كبير في حياة الناس يوجب استحداث طرق جديدة، ابتكارات جديدة في مناهج التعليم، ولهذا تجد الفقهاء توافرت هممهم على خدمة متون معينة، على خدمة مختصرات فقهية، رغم أن المتن مخدوم إلا أنه يأتي من يزيد في هذا المتن ويخدمه، وتعاقب الناس على هذا رِدحًا من الزمن طويل.

ثم لما جرى هذا التقدم الذي نعيش الآن في ظلاله، وهو الثورة الصناعية، والثورة الحضارية، التي غيرت نمط حياة الناس، ليس فقط في مأكلهم أو مشربهم أو ملبسهم أو مسكنهم بل في كل نواحي حياتهم، هذا التغير، هذه النقلة الهائلة التي جعلت العالم يعيش على نحو مختلف تمامًا عما كانوا عليه قبل سنوات ليست بالبعيدة يعني أبعد ما يكون يمكن نقول 200 سنة، في البلاد المتقدمة، أو 250 سنة في مثل بلادنا خمسين سنة مضت أن ترى أن الوضع لا يختلف كثيرًا ما كان عليه الناس في زمن متقدم في أول الألف وثلاثمائة، أو في ألف وثلاثمائة وعشرين وما إلى ذلك، ليس هناك فروقات كبيرة بل هناك من يقول: إن وضع الناس قبل خمسين أو ستين أو سبعين سنة في هذه المنطقة على وجه الخصوص يشبه كثيرًا ما كان عليه الصحابة –رضي الله عنهم- في معيشتهم، فهم في مزارع، وسائل النقل هي هي، الدواب وما إلى ذلك، وبالتالي لم يحدث للناس نقلة توجب أن يعيد الناس النظر في مناهجهم، وفيما يتلقونه، وفيما يدرسونه، طبعًا جرى ما جرى من تحديث في حياة الناس، وعمل المختصون في العلوم الشرعية بكل جهد، وأرجون أن يكون بكل إخلاص أيضًا، لمواكبة هذا التغير باستحداث مناهج جديد، لا سيما بالدراسات النظامية، وبقيت دراسات في غالبها الدراسات الشرعية في المساجد على النحو المتقدم، لم يطرأ عليها التغيير المطلوب، أو التغيير المأمول الذي يواكب التغير في حياة الناس، كان في الدراسات النظامية أكثر منه في الدراسات في المساجد، وبالتالي تجد أن هناك فرقًا بين المدرستين: مدرسة المسجد أو الجامع على اختلاف أنواع التعليم فيه، سواء كان في الفقه، في الحديث، في العقيدة، في سائر أبواب العلم، وبين الدراسة فيما يتعلق بالجامعات، ولما كانت الدراسات الجامعية لا تفي بالغرض مهما كانت إتقانًا وجودة في مناهجها.

لعوامل كثيرة أصبح ما ذكره الدكتور عبد الله في المقدمة من أن الناتج الحاصل المخرج من هذه المدارس وهذه الجامعات لا يلبي الحاجة التي يحتاجها الناس، هذا من حيث الدراسة النظامية التي جرى عليها من التعديل، ما يمكن أن يكون موائمًا ومناسبًا للواقع العلمي أو للواقع الحياتي للناس، ويجيب على بعض إشكالاتهم في حياتهم، أما ما يتعلق بالدراسة في المساجد فغالبها بعيد كل البعد عن حياة الناس، وأنا أقول هذا وبكل وضوح ممارسة وقراءة للكتب، يعني نحن نردد في دروسنا متونًا محددة، وكتبًا معينة قد نبقى فيها سنوات طوال، ويمل الطلاب وينقطعون، الطالب الذي يكتسب علمًا رصينًا في هذه الدروس، لو قلت له بعد انتهائه من المدة التي تعلم فيها: اخرج لحياة الناس وأجب عن إشكالاتهم سيصادف لا سيما في مجال المعاملات أن تسعين في المائة من حياة الناس لا يجد له جوابًا، ولم يمر عليه في دراسته التي تلقاها من خلال التعليم الذي في الجوامع الذي ينهج المنهج القديم، بالتالي هنا يقف طالب العلم أمام مفترق طرق، ماذا يصنع؟ هل يقتصر على ما يقرأه؟ طبعًا أنا أتكلم عن القصور ولا أتكلم عن الإيجابيات، القراءة في الكتب المتقدمة على طريقة المساجد لها إيجابيات، القراءة في الجامعات على رغم ما فيها من قصور لها إيجابيات، لكن الكلام على النتيجة النهائية التي نأملها من المتخرِّج من دراسة الجوامع، والمساجد، ومن الجامعات، والمعاهد النظامية، المخرج النهائي لا يحقق المنشود والذي تحتاجه الأمة في جميع الجوانب العلمية، سواء كانت فيما يتعلق بالأحكام، أو كانت فيما يتعلق بالعقائد، يعني على سبيل المثال في جانب العقائد ندرس سواء في الجامعات أو المساجد العقائد التي تكلم عنها العلماء المتقدمون، من "الواسطية"، "والتدمرية"، وما قبل ذلك كتب السنة، والمنقول عن الأئمة، ولا بأس في ذلك، حسن، لكن على حجم هذا التعليم فيما يتعلق بجوانب الاعتقاد نغفل ما يحتاجه الناس في هذا العصر، من المذاهب التي لها تأثير حاضر في حياة الناس، من الوجودية، من الإلحاد، من العولمة وتأثيرها على عقائد الناس، جوانب كثيرة من المسائل الاعتقادية الحادثة نحن لا نتكلم عنها ولا نتطرق لها، السبب أننا ندرس ما تلقيناه، أنه ما هناك عندنا حس بأن ما ندرسه يجب أن يكون ملبيًا لحاجة الناس، ليس فقط أنه والله أنا أقرأ وأبحث وأدرس ما درسني إياه شيخي، وهذه عقدة عند كثير من المعلمين أنه لا يخرج عما تلقاه عن شيخه، فهو درس عند الشيخ الذي تلقى عنه قبل عشرين ثلاثين سنة أربعين سنة، درس كتاب التوحيد، درس العقيدة الواسطية، درس التدمرية، الطحاوية، وبالتالي لن يخرج عن هذه المتون لو انطبقت السماء على الأرض، وهذا خطأ، نحن يجب أن نستفيد من هذا الموروث العلمي، الزاخر بمنافع عظيمة، ويبني أصولًا أساسية، لكن لابد أن يضاف إلى هذا ما يلبي حاجة الناس، هذا في جانب الاعتقاد على سبيل المثال مع أن الحادث في جانب الاعتقاد مقارنة بالحادث في جانب الفقه أمر نسبته كبيرة، الفارق بينهما كبير جدًا، يعني لا يمثل عشرين ثلاثين في المئة، ما نقدر نحدد بالنسبة الدقيقة، لكن الفارق والبون شاسع، فالحوادث والنوازل التي طرأت على الناس فيما يتعلق بجوانب الفقه والعمل أعظم بكثير مما يتعلق بجوانب الاعتقاد، فإذا كنا لم نلبِّ الحاجة فيما يتعلق بجانب الاعتقاد وبناء العقائد السليمة للأمة، فنحن أيضًا نعاني قصورًا كبيرًا في جانب التجديد في جانب الفقه الذي يحتاجه الناس، وتحدث فيه نوازل يومية، يعني الذي يواكب ما يجري سيجد أنه خلال شهر سيجد أنه فاته شيء كثير مما جد في حياة الناس من المسائل التي تحتاج إلى جواب وهو ليس عنده إحاطة بها فضلًا عن أن يصل إلى حكمها، أو يعرف ما الشرع فيها.

بناءًا على هذا أيها الإخوة المسئولية على المعلمين وطلبة العلم كبيرة؛ لأن القضية لا تتعلق بكم متن قرأت، وكم متن حفظت؛ إنما تتعلق بما هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه طالب العلم ليصل إلى الحد الأدنى من تلبية الحاجة في بناء الفقيه، في بناء العالم الذي يجيب على حوائج الناس.

من المؤكد أن العلم الشرعي له أصول ثابتة لا يمكن أن تتزحزح، هذه الأصول الثابتة للأسف أن أكثر الدارسين اليوم عنها غافلون، الأصول الثابتة هي الكتاب والسنة، ودعونا نكون صرحاء لو أعلن الآن درس لطلبة العلم في شرح متن من المتون الفقهية "الزاد"، "عمدة الفقه"، "البيقونية"، "نخبة الفكر"، لوجدت الطلبة يتهافتون، ويتكاثرون في الحضور، لو أعلن درس في شرح آيات الأحكام مثلًا، أو تفسير سورة من السور، لكان العدد قليلًا، هنا مفتاح الخلل، أننا اقتصرنا في التعلم على جهد علماء عاشوا في قرون قديمة، وبذلوا جهودًا كبيرة، لتقريب العلم، وتبسيطه، وتسهيله لأهل عصرهم بما أفاء الله عليهم من فهم الكتاب والسنة، ونحن في هذا العصر تركنا الرجوع إلى المصادر واشتغلنا بهذه المتون عن الأصول، وبالتالي جهدنا في تحليل المتن، وتفكيك عباراته، وفهم مغلقاته، وحل إشكالاته، أعظم بكثير من جهدنا في فهم النص، وهنا يقع جانب كبير من الخلل في بناء الفقيه.

إذا نظرت إلى فقه الصحابة، الصحابة –رضي الله عنهم- تميزوا بفقه دقيق، فتح الله عليهم، طبعًا هناك مقومات عديدة لذلك التميز، شهود الوحي، سلامة النية، سلامة الفطرة، تعلمهم على يد النبي –صلى الله عليه وسلم-، طهارة قلوبهم، عوامل كثيرة أدت إلى هذا النتاج، لكن منها أنهم كانوا يتقنون فهم معاني كلام الله وكلام رسوله، وهذا الذي ميزهم عن سائر طبقات الأمة؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام –رحمه الله- ويشير إلى هذا في أكثر من موضع من كلامه أن غاية الفقه أن تدرك فهم معاني كلام الله وكلام رسوله.

طيب يا إخواني أنا شخصيًّا أسأل نفسي وأسألكم في دراستنا وتدريسنا ما هو نسبة عنايتنا بفهم كلام الله وكلام رسوله، الآن كثير منا إذا جاءت مسألة من مسائل العلم يمكن أن يقص عليك أو يذكر لك الأقوال فيها، قال فيها ثلاثة أقوال، ويمكن إذا كان جيدًا يعطيك من قال بهذه الأقوال، ويمكن أن يعطيك الأدلة، ويمكن يقول لك ورجح شيخنا كذا، وتنتهي السالفة، هل هذا فقه؟ الجواب: لا، هذا حفظ، شتان بين الحفظ والفقه، الفقه هو لما أقول لك من أين أخذت هذا الحكم؟ ما وجه الدلالة في هذه الآية على هذا الحكم؟ عند ذلك تكون فقيهًا، عندما تحسن وتدرك وجه الاستنباط، ومعرفة مأخذ الدليل في كلام الله وكلام رسوله، هنا يكون الفقه، أما سرد الأقوال ومعرفة القائلين بها، ومعرفة الأدلة، وذكر ترجيحات مشايخك، هذه ليست فقهًا، هذا حفظ، والحفظ ليس فقهًا، الحفظ له أهمية، وهو ركيزة من ركائز التعلم، وأساس من أساسات البناء العلمي والفقهي على وجه الخصوص، لكنه يبقى أن الحافظ ليس فقيهًا، إذا قصرت همته على عد الأقوال وإحصائها، إنما يكون فقيهًا إذا كان مدركًا لمآخذ الأدلة، وعارفًا بأوجه الاستدلال، وقادرًا على الإجابة على ما يطرأ عليه من مسائل حديثة، لم يتكلم عنها العلماء المتقدمون، هنا يتبين الفقيه من غيره.

ولما كان الآن عند الناس الفقيه هو من يحفظ الأقوال أو يعرف قولًا في المسألة أو يعرف دليل، أصبح الفقه واسع الدائرة عند كثير من الناس فأدخل من ليس بفقيه في الفقهاء، وهذا نوع من الخلل، لهذا الفقهاء العلماء يميزون بين الفقيه وبين المقلد الذي غاية همته أن يذكر ما ذكر العلماء المتقدمون، أو ما ذكره أصحاب مذهبه، أو من سار على طريقه.

إذًا من ضرورات البناء الفقهي أن نعرف التمييز بين الفقيه وغيره، الفقيه هو من أدرك معاني كلام الله وكلام رسوله، وبقدر يا إخوان بقدر عناية القارئ وطالب العلم بفهم معاني الكتاب والسنة، بقدر ما يدرك من الفتوحات، وهذا مطرد، وأنا أقول دعونا من التنظير الفقهي، وتشقيق الكلام البعيد عن التطبيق، لننظر في واقع الأئمة على مر العصور، عندما نذكر العلماء المتميزين في كل المذاهب الفقهية تجد أن المتميز من الفقهاء إنما هو من كان صاحب فهم، ونظر، ومعرفة للأدلة، واستنباطاتها، ووجه دلالاتها، والإجابة عما قاله المخالفون، وما إلى ذلك مما يتعلق بالفهم، ولهذا الفقه ركيزته الأساسية هو الفهم، والفهم منحة من الله –عز وجل- بالتأكيد؛ لكنه يبنى مع الاجتهاد، ويكبر مع الوقت كنمو البدن تمامًا، البدن يبدو صغيرًا ثم يكبر حتى يبلغ غايته في الكبر، كذلك الفقه، الفقه يحتاج إلى الفهم يحتاج إلى تدرب، وإلى استحضار أهمية المواصلة فيه لتدرك ما تريد، وأقول هنا أنه أحيانًا يظن الإنسان أن الفهم يصل إلى حد ويقف، أو يصل إلى حد ولا يفوت الإنسان ما حصله من الفقه، وهذا غلط كبير في التفقه.

الفقه تمامًا كمجرى الماء، إن أجريت فيه الماء اتسع، وبقي مسلكًا، ومعبرًا للماء، إن تركته تجمعت فيه العوائق حتى يضيق، ولذلك يذكر على سبيل المثال أبو حامد الغزالي فيما يتعلق بفقه النفس يقول: "وكم من فقيه للنفس غفل عن فقهه يومًا وليلة!، ثم توالت عليه الغفلات حتى فقد ما منحه الله من الفقه"، هذا تنبيه مهم إلى أن عملية الفهم وبناء الفقه ليست عملية يصل فيها الإنسان إلى غاية ومنتهى، وهذا معنى ما يردد المذكرون، والحاثون على طلب العلم أنه لابد من المواصلة.

 مثلًا الإمام أحمد لما كان يقول: "من المحبرة إلى المقبرة"، ولما قالوا له: إلى متى يا أبا صالح وأنت على هذه الحال؟ قال: إلى الممات، وما أشبه ذلك من الكلمات التي تشعر بأن عملية التعلم عملية متواصلة، ليست عملية تحصلها في يوم وليلة، أو منهج، أو متن تنتهي منه وتقول حصلت الفقه، حصلت العلم، العلم لا يحصل ولا يدرك إلا بمواصلة السير، وبذل الجهد في تحصيل المطلوب، وألا يغفل الإنسان عن هذه الأصول التي هي في الحقيقة مفتاح للبناء الفقهي ولتطويره.

بالنظر للواقع الذي نعيشه الآن عندما يقدم طالب العلم على التعلم ماذا يصنع؟ حتى نأتي إلى جانب عملي، أنا أقول: قبل أن تشرع في سلوك أي طريق للبناء الفقهي أن تعرف أنه ليس هناك طريق ستدرك منه جميع ما تأمل من الفقه، جميع ما تأمل من العلم، ما في طريق يوصلك إلى النهاية، هذه نقطة أساس وركيزة أولى، لأجل أن نفهم ماذا؟ نفهم أن العلم لا نهاية له، هذا واحد، وثانيًا لئلا نصاب بالإحباط، لأن بعض طلبة العلم يأتي والدرس يعلن ويحضر عند الشيخ ويشوف أنه درس فصل فصلين، أنهى متنًا متنين، ثم يقول أين أنا؟! ما زاد بي شيء، يعني أشعر أني تغيرت، أشعر أني فعلًا بلغت مرتبة من الفهم والعلم ما يجعلني أواصل، وبالتالي ينقطع كثير من الناس لسبب أنه ما شاف فيه تغير، التغير لا يمكن أن يبدو في فترة وجيزة، وأنت إذا أدركت في الخطوة الأولى أن سلوكك أي طريق علمي أو أي منهج للتعلم هو في الحقيقة مفتاح، وليس غاية، وليس نهاية، وليس المطلوب الذي لا بعده شيء؛ إنما هو مفتاح، أدركت أن هذه الدروس في المساجد، أن هذه الدروس في الجامعات هي مفاتيح للتعلم، هي مفاتيح تدرك بها شيئًا من العلم، وهذا معنى ما ذكره ابن القيم –رحمه الله- عندما قال: "كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل من صدور الرجال إلى بطون الكتب"، ثم يقول عن عصره –رحمه الله-: "وليس مع العلماء اليوم إلا مفاتيحه".

 إذًا لابد أن ندرك أنه نحن في تعلمنا، إنما نحصل مفاتيح، لما تجلس عندما تثني ركبتك عند شيخ من المشايخ وعالم من العلماء، إنما تشتغل بماذا؟ بتحصيل مفتاح، ليس غاية ولا نهاية، وبالتالي من المهم أن تجتهد في إدراك هذا، لتواصل البناء، لن تدرس درسًا، ولن تدخل معهدًا ولا جامعة وتتخرج منها حاويًا للعلم، مدركًا لكل تفاصيله، إنما عندك مفاتيح، طيب هذه المفاتيح ماذا تصنع بها؟ هذه المفاتيح تستطيع من خلالها أن تصل إلى ما وراء هذه العلوم، وأنا أقول: لا يمكن أن يُبنى علم إلا بجهد ذاتي، لابد أن يكون لطالب العلم جهد خاص ذاتي فيما بينه وبين نفسه، لا يقتصر فقط على حضور الدروس، ولا على سماع المحاضرات، ولا على التردد على الجامعات والمعاهد بل لابد من جهد ذاتي، وكلما ضاعفت الجهد أدركت من العلم ما لم يدركه غيرك، إنما لابد أن نعرف المسار الذي نسير عليه أولًا، وأنه في دراستنا وفي تحصيلنا من طرق التعلم المباشر، أو التعلم عن طريق الدروس، سواء كانت مسموعة أو مرئية، أننا نحصل مفاتيح العلم، لا تأمل أكثر من هذا، ولهذا ينبغي لنا أن نضع هذه الدروس في إطارها فنجعلها مفاتيح، فإذا أشكل علينا شيء من العلم، استفتحنا تلك الإشكالات، وحللنا ذلك الإشكال من خلال هذه المفاتيح التي هي المشايخ والمتخصصون والمعلمون على شتى اختصاصاتهم واختلاف اهتماماتهم، هذه ركيزة أساسية، وعندما تغيب عن المعلم، وعندما تغيب عن المتعلم؛ يقع الإشكال، وهذا ليس جديدًا.

الخضر أحد العلماء المتقدمين ما هو بقديم، في القرن الماضي -رحمه الله-، يقول: "اشتغلت فترة في التعليم، فكنت إذا جاء شيء من المسائل في النحو، وهو يدرس، أتيت بكل شاردة وواردة، حتى إنني أحيانًا أتعمد إيجاد المناسبة لإدخال شيء ما له علاقة بالمادة في درسي؛ ثم تبين لي أن هذا المسلك فيه من الصد عن العلم أكبر من التعليم" هذا ما الإشكال؟ أين الإشكال هنا؟ الإشكال وقع في أن المعلم يظن أن التعليم بهذه الطريقة هو نهاية العلم، لو علم المعلم أنه في تعليمه إنما يعطي الطلبة مفاتيح، ويحرص على التأصيل والتقعيد، فتح الله عليه في الاختصار وفي تأصيل العلم، وفي إعطاء القواعد، وفي التركيز على مهمات كل فن ما يكون نفعًا له ولطلبة العلم.

وبهذا من المهم للمتعلم والمعلم أن يعرفوا هذه الحقيقة، كوني أقرأ هذا المتن أول مرة، وأحصل من فهمه عشرين في المئة في القراءة الأولى هذا إنجاز ليس باليسير، فمن ظن أنه عندما أقرأ المتن، أو أقرأ هذا العلم، معناه أنني إذا قرأت هذا الكتاب لن أعود إليه مرة أخرى، أنا قرأته على العالم الفلاني، أخطأنا بهذا السبيل، الشيخ عبد الله أبابطين -رحمه الله- وهو من كبار علماء الحنابلة، مفتي الديار النجدية، قرأ "الروضة" أكثر من عشرين مرة، لماذا يقرأه عشرين مرة ماذا فيه؟ لأن التعلم عملية تراكمية، كل مرة يبدو له من الفهم ويبدو له من العلم، ويبدو له من التأصيل، ويبدو له من التقعيد، وزيادة الفهم ما لم يكن في المرة السابقة؛ لهذا أؤكد على أن المهم لطالب العلم سواء سلك التعلم النظامي، أو سلك التعلم الشرعي في المساجد، أن يعلم أن التعلم إنما هي مفاتيح ليست غايات.

طيب إذا كان مفاتيح فهل هذا يعني أن يقتصر على ما يقرأه في المساجد وفي الكليات أم يبذل جهدًا للتحصيل؟ الجواب تقدم أنه لابد من جهد مضاعف للتحصيل حتى يدرك العلم، والجهد المضاعف الذي يبذله لا يقتصر فقط على حفظ المسائل، إنما على فهمها، وبقدر ما يُفتح عليك في الفهم بقدر ما تدرك من العلم، لذلك لما دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس ماذا قال كما في صحيح الإمام البخاري؟ قال:((اللهم فقِّهه في الدين، وعلمه التأويل))[أخرجه أحمد في مسنده(2397)، وصححه الألباني في الصحيحة(2589)].

الفقه في الدين يتعلق بإدراك المعاني، وعلمه التأويل يتعلق بإصلاح العمل؛ لأن التأويل هنا الترجمة والتطبيق، وطبعًا هناك قول آخر وعلمه التأويل: التفسير، لكن من المعاني المحتملة لهذا الدعاء في قوله "وعلمه التأويل" أي: ارزقه العمل بما فهم، لأن العلم إنما يثبت بالعمل، ولهذا من المهم أن تعتني بالفهم قدر الإمكان، ولا تمل، المسألة بنائية، تحتاج إلى تدرج، وإلى صبر؛ حتى تصل إلى ما تريد من التعلم.

وقد أدركنا جملة من المشايخ وبالنظر إلى طرائقهم في التعليم وفي الفتوى، تستطيع أن تميز بينهم بالنظر إلى طريقتهم، التميز الذي حصل لعلماء العصر الذين شاع ذكرهم وانتشر علمهم، لم يكن ذلك فقط لصلاح النية، الله أعلم، لم يكن ذلك لصلاح النية لأن النية جزء مما يصلح به النتائج، لكن حصر الأمر في صلاح النية هو هضم لقوم صلحت نواياهم لكنهم ما أنتجوا، هناك أمران: صلاح النية، وأيضًا صلاح العمل، صلاح المسار الذي يدرك به العلم، وبالتالي لابد من الجمع بينهما، صلاح النية مع صلاح المسار.

أدركنا من المشايخ من تميز بالعلم، ولم يكن علمه موسوعي بمعنى أن موضوع يعرف فيه كل شيء، إنما يعرف أصولًا وقواعد في كل علم، تمكنه من النظر في المسائل على اختلافها، وهنا نأتي إلى النقطة الثانية في البناء العلمي: وهو أن يكون التعلم مبنيًا على التقعيد والتأصيل في كل باب من أبواب العلم، احرص في كل باب من أبواب على ضبط القواعد والأصول، فالذي ميَّز من مُيِّز من العلماء، ليس كثرة استحضار المسائل وتفننها وما ذكرت من الاستدلال والترجيحات؛ إنما الذي ميز هو القواعد والأصول التي من خلالها رسخت أقدامهم في العلم، وهذا ترجمة للأمر الأول وهو الفهم، رسخت أقدامهم في العلم، واستطاعوا أن يجيبوا على ما جد في حياة الناس من مسائل، فالذي يضبط القواعد والأصول في أبواب العلوم على شتى تنوعها: في اللغة، في الفقه، في الحديث، في التفسير، في علوم المقاصد، وعلوم الآلات، يدرك من العلم ما لا يدركه من اشتغل بالفروع والشوارد والمسائل عن التقعيد والتأصيل.

مما ينبغي لطالب العلم في بنائه العلمي أن يحرص على أن لا يكثر في البداية من الخلاف ولا من التشعيبات التي تشوش عليه، وهذا معنى أشرت إليه قبل قليل أنه لابد من التدرج في التعلم، فإذا قرأت كتابًا ينبغي لك أن تعرف أن الدراسة في هذا الكتاب ليست نهاية مطاف، المرة الأولى تضبط فهم كلام المؤلف على سبيل المثال، المرة الثانية استدلالات المؤلف، المرة الثالثة الترجيح هل هذا فيه قول ثاني أو ليس فيه قول ثاني؟ وهلم جرا، هذه المرات طبعًا لا يمكن أن تتأتى في درس يستغرق خمس سنين عشر سنين، هذه المرات تتأتى في قراءات متوالية، أنا أقول: إذا كنت لا تجد من تختم معه الكتاب خلال أشهر إذا كان متنًا عميقًا طويلًا، فالآن فتحت الأبواب من خلال الأشرطة التي يمكن أن تنهي من المتون حسب ما تبذل من الجهد والوقت، يمكن أن تنهي متنًا طويلًا في وقت يسير، وتسجل ما يشكل عليك وتراجع أهل العلم في هذه المشكلات ليفتحها عليك، ما هناك عذر اليوم، من ينتظر أن يعلن درس حتى يلتحق فيه لن يحصل علمًا؛ لأن غالب هذه الدروس لا تنتهي، وغالب هذه الدروس يعرضها ويعوقها من العوائق الشيء الكثير في التجربة والواقع، وأنتم لستم بعيدين عن هذا المضمار، وترون وتشاهدون، بالتالي لابد من أن يبذل الإنسان جهدًا ليصل إلى ما يأمل، هنا من المهم في جانب التعلم أن يحرص طالب العلم على وضع مسائل النوازل والمسائل الحياتية التي يحتاجها الناس في ثنايا ما يدرسه فيما يتعلق بالفقه على وجه الخصوص، حتى يكتسب هذا من أول الوقت، لأن بعض الناس يقول: ما نحتاج إلى قراءة النوازل، خلونا نقرأ بس ما ذكره الفقهاء في المتون التقليدية المعروفة، نفهم كلام صاحب "الدليل"، كلام صاحب "الزاد"، ونتقنه، وإذا انتهينا ذهبنا نرى النوازل، هنا خلل في التعلم، وسينعكس هذا الخلل على مسيرتك العلمية، من المهم أن تقرن بين الاهتمامين: الاهتمام بمسائل العصر، وبين ما تقرأه من متون علمية، ولهذا أعد من المتقدمين المبرزين في الربط بين مسائل النوازل والواقع والفقه التقليدي الذي تكلم عنه العلماء المتقدمون في مؤلفاتهم، من الرواد في هذا: شيخنا عبد الله البسام –رحمه الله- في مؤلفاته حيث كان يكثر في حواشي ما حشى على كتب الفقه من ذكر المسائل النازلة بقراراتها إذا كانت مجمعية، بالفتاوى، بالاجتهادات، وهذا مما تميز به وهو فطنة ومهم لتدريب طالب العلم على أن الفقه يجيب عن المسائل التي يعيشها، وأن الفقه ليس فقه القرن العاشر إنما هو فقه القرن خامس عشر الذي يحتاج فيه إلى الاستفادة من الفقه القديم مع ما جد من مسائل الناس.

هذه بعض الكلمات المفرقة التي فتح الله –تعالى- بها، أسأل الله أن تكون مسددة، ما كان فيها من صواب فمن الله ومن توفيقه ومن تسديده، وما كان فيها من قصور أو تقصير فمني والشيطان، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعفو عني وعنكم، وأن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، والعمل بالتنزيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : الخوف من الله تعالى ( عدد المشاهدات42475 )
3. خطبة : الحسد ( عدد المشاهدات29250 )
4. خطبة: يوم الجمعة سيد الأيام ( عدد المشاهدات24289 )
5. خطبة : الأعمال بالخواتيم ( عدد المشاهدات22101 )
6. حكم الإيجار المنتهي بالتمليك ( عدد المشاهدات20671 )
7. خطبة : احرص على ما ينفعك ( عدد المشاهدات20166 )
8. خطبة : الخلاف شر ( عدد المشاهدات15563 )
9. خطبة: يا ليتنا أطعناه ( عدد المشاهدات12210 )
10. خطبة : يتقارب الزمان ( عدد المشاهدات12188 )
11. خطبة : بماذا تتقي النار. ( عدد المشاهدات10858 )
12. خطبة: أثر الربا ( عدد المشاهدات10726 )
14. خطبة : أحوال المحتضرين ( عدد المشاهدات10505 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف