ثانيا: أن كتاب الله تعالى الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ونورًا مبينا، وفرقانا بين الحق والباطل، لم يبين الله تعالى فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاؤن، وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان. ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات، أو يمتنع عليه، أو يجوز. إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالى وسمّوه تأويلاً. وحينئذ إما أن يكون النبيصلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك، وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة. وكلا الأمرين باطل. رابعا: أن كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليس مرجعا للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلههم، الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع، بل هو زبدة الرسالات. وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة، وما خالفها فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً إن لم يتمكنوا من تكذيبه. خامسا: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيقال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ}: إنه لا يجيء. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا": إنه لا ينزل. لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم. وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه ونفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره، لأنه ليس في السياق ما يدل عليه. ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء أيضا. ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية، أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه. فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه، يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه، كما هو ثابت بالدليل السمعي. مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة. أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها. أما السمع: فمنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة. ونفوا الرحمة قالوا: لأنها تستلزم لين الراحم، ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى. وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل، أو إرادة الفعل، ففسروا الرحيم بالمنعم، أو مريد الإنعام. فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددًا وتنوعا من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} والصفة مثل: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}، والفعل مثل: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ}. ويمكن إثباتها بالعقل، فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين؛ دالة على ثبوت الرحمة لله عز وجل، ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس. وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة. فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها، فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة. وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك. فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق. أمكن الجواب بمثله في الرحمة، بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق. وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل، سواء كان تعطيلاً عاما أم خاصا. وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية، وذلك من وجهين: أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة، وإنما تدفع بالسنة. الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقليا، وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقليا، ونؤول دليله السمعي؟، فلنا عقول كما أن لكم عقولاً، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة؟، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة؟، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى. وهذه حجة دامغة، وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه، إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيها لا تعطيل فيه ولا تحريف، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. تنبيه علم مما سبق أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل. أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله: فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فمثل أولاً، وعطل ثانيا، كما أنه بتعطيله مَثَّلَهُ بالناقص وأما تمثيل الممثل فظاهر، وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه: الأول: أنه عطل نفس النص الذي أُثبتت به الصفة، حيث جعله دالاً على التمثيل، مع أنه لا دلالة فيه عليه، وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل. الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه. الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب، حيث مثله بالمخلوق الناقص.