الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
كنا قد فرغنا في درس أمس من قواعد في أدلة الأسماء والصفات، في مجلسنا اليوم إن شاء الله تعالى نشرع فيما ذكره المؤلف –رحمه الله-من الإشكالات التي أوردها المخالفون لطريق أهل السنة والجماعة على هذه القواعد، وهذا الفصل قرر فيه المؤلف ـ رحمه الله ـ أولا أنه قد ورد على طريق أهل السنة والجماعة سلف الأمة طرأ ورد على هذا الطريق اعتراضات، وهذه الاعتراضات لا بد من الجواب عليها لبيان بطلانها، وعدم صحتها وثبوتها ومسلك الإبطال لهذه الاعتراضات، والرد لهذه الشبه هو واحد من طريقين:
الطريق الأول: الجواب المجمل وهو الجواب الذي يصلح لكل اعتراض أو شبهة ترد على ما قرره أهل السنة والجماعة، فهو جواب موحد على كل الاعتراضات على اختلافها وتنوعها.
النوع الثاني: من الأجوبة هو الجواب المفصل على مفردات الشبه يعني الجواب على كل شبهة على وجه الانفراد هذا هو النوع الثاني من الأجوبة على هذه الاعتراضات.
إذًا الاعتراضات يجاب عليها من طريقين: من طريق مجمل، ومن طريق مفصل.
الطريق المجمل: هو جواب على الشبهة إجمالًا وعمومًا، فيصلح في الجواب على كل ما يرد من الشبه، وأما الجواب المفصل: فإنه جواب على كل شبهة على وجه الانفراد، فهو جواب خاص.
إذًا المجمل جواب عام والمفصل جواب خاص، الجواب المجمل يصلح لكل شبهة، والجواب المفصل تعالج به كل شبهة على وجه الانفراد أو على وجه الخصوص نقرأ المقدمة التي ذكرها المؤلف –رحمه الله-في هذا الفصل وبين فيها الطريق الذي سيسلكه في الجواب على الشبه الواردة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
قال شيخنا العالم الجليل محمد بن عثيمين –رحمه الله-وغفر له ولنا ولشيخنا وللحاضرين.
فصل: اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات، ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها، ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل، أو المداهنة فيه. وقال: كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه؟. ونحن نجيب بعون الله عن هذه الشبهة بجوابين: مجمل ومفصل.
الآن قاعدة هذا الفصل شبهة اعترض بها أصحاب التأويل نحن ذكرنا في بيان معالم وأوصاف طريق أهل السنة والجماعة أنه في باب الأسماء والصفات تثبت الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقلنا أن التحريف يسميه أصحابه تأويلًا.
فلذلك قول المؤلف –رحمه الله-اعلم أن بعض أهل التأويل المقصود بالتأويل هنا التحريف، وهو التأويل المذموم، وليس المقصود به التأويل الصحيح السليم ؛ لأن كلمة التأويل ترد في كلام الله ـ تعالى ـ وفي استعمالات العرب على ثلاثة أنحاء؛ أولا ترد ويراد بها التفسير فيقول تأويل الكلام كذا أي تفسيره وبيانه وإيضاحه ومنه ما جرى عليه استعمال ابن جرير –رحمه الله-في تفسيره حيث قال أقوال أهل التأويل وما أشبه ذلك مقصوده أقوال أهل التفسير، فالتأويل يطلق ويراد به التفسير، فلما أقول تأويل كلامك كذا يعني تفسيره، تأويل الحديث كذا يعني تفسيره وإيضاحه وبيانه هذا المعنى الأول من معاني التأويل، وهذا معنى صحيح سليم.
المعنى الثاني من معاني التأويل هو حقيقة الكلام وما ينتهي إليه، فإذا أخبر الله ـ تعالى ـ بخبر مما يكون في المستقبل متى يأتي تأويله؟ إذا وقع فتأويل الكلام حقيقته التي تطابق الخبر ومنه قول يوسف ـ عليه السلام ـ لأبيه بعد أن حصل ما حصل من سجوده وسجود أخوته﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾[يوسف: 100] تأويل أي حقيقة الرؤية التي رآها وأخبر عنها في أول السورة ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾[يوسف: 4] فالتأويل هنا بمعنى حقيقة الخبر كنه، كيفيته، واقعه، هذا معنى من معاني التأويل، والمعنى الثالث من معاني التأويل صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى معنى يحتمله النص لكنه مرجوح من غير سبب ويمكن أن نختصر التأويل نقول: صرف الألفاظ عن معانيها الظاهرة وبس ما نحتاج إلى أكثر من كذلك صرف الألفاظ عن معانيها الظاهرة هذا تأويل وهو من التأويل المذموم، وهو تحريف في الحقيقة هذا تحريف في الحقيقة وإن سماه أهله وأصحابه تأويلًا.
إذًا هذه هي الاستعمالات لهذه الكلمة، مقصود المؤلف في قوله: اعلم أن أهل التأويل أي صرف أهل الألفاظ عن ظاهرها وهو التأويل المذموم، أورد على أهل السنة شبهة في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه يعني قال أنتم تنكرون علينا التأويل الذي هو التحريف المذموم الذي هو صرف اللفظ عن معناه، وأنتم قد وقعتم فيه فإما أن توافقون على ما نحن عليه من تأويل في كل النصوص، وإما أن تسكتوا عنا ولا تذموا طريقتنا وهذا معنى قوله: أو المداهنة فيه يعني السكوت وعدم الإنكار عليهم فيما هم عليه من انحراف.
وقال: كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه يعني أنتم وقعتم فيما أنكرتم علينا؛ فنحن وقعنا في التأويل وأنكرتموه علينا، وأنتم وافقتمونا فيما انكرتم علينا فيه، فجاء بعد سياق هذه الشبهة الجواب.
ونحن نجيب بعون الله عن هذه الشبهة بجوابين: مجمل ومفصل.
الجواب المجمل: هو الجواب العام الذي يصلح في رد كل اعتراض، والجواب المفصل: هو الجواب الخاص الذي يخص كل شبهة على وجه الانفراد هذا الفرق بينهما ومن المهم لطالب العلم أن يفهم أن الجواب المجمل ضرورة لماذا؟ لأن الخصم قد يورد عليك إرادة أو شبهة لا يحضرك جوابها، فعند ذلك ماذا تستعمل في الجواب؟ الجواب المجمل لأنه يصلح في رد كل شبهة وإبطال كل شبهة سيأتي الآن سنطبق هذا في الأمثلة التي ذكرها المؤلف ذكر خمسة عشر مسائل، فالكلام على أنه الجواب المجمل يصلح في إبطال كل اعتراض يرد عليك فإذا وفقت إلى معرفة جواب خاص على الشبهة، كان ذلك نورا على نور وردت الشبهة إجمالًا وتفصيلًا.
إذًا الآن سيسلك المؤلف –رحمه الله-في الجواب مسلكين؛ مسلك الإجمال، ومسلك التفصيل.
أما المجمل فيتلخص في شيئين: أحدهما: أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات وجمل، يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض. ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف عن ظاهرها، فإن لهم في ذلك دليلاً من الكتاب والسنة، إما متصلاً، وإما منفصلاً، وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الجواب المجمل، بناه المؤلف –رحمه الله-على أمرين؛ يعرفان في مقام المناظرات والمناقشات وهما الجواب بالمنع والتسليم، الجواب المجمل مركب من جوابين: منع، وتسليم.
المنع: هو عدم الإقرار بالدعوة، عدم الإقرار بكلام المعترض لما تمنعه تقول: لا كلامه غير صحيح والدليل على أنه غير صحيح كذا وكذا، هذا إجابة مجملة ؛ لكن بالمنع يعني لم أقر لك بما ادعيت هذا المنع، المنع هو عدم الإقرار بالدعوى بدعوى المدعي، التسليم هو افتراض صحة كلام الخصم فتقول: أنا أسلم أنا أوافقك فيما تقول نفرض أن الكلام صحيح، فالجواب عنه كذا وكذا.
إذًا الآن الجواب المجمل حتى تتصورونه إجمالًا مركب من أمرين: منع، وتسليم ما معنى المنع؟ رد الدعوة عدم القبول لما ادعاه رد دعواه وإقامة الحجة على الرد ليس فقط ردًا مجردًا، بل تقيم الحجة على الرد.
المسلك الثاني: في الرد التسليم وهو عدم الرد نسلم، ومعنى التسليم يعني أنا افترض أن كلامك صحيح، أقدر أن ما ذكرته من اعتراض صحيح، فالجواب عنه كذا وكذا، ننظر ماذا قال المؤلف –رحمه الله-أولا في مقام المنع قال: لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها هذا منع كيف لا تسلم؟ لماذا لا تسلم؟ لماذا تمنع هذه الدعوة؟ قال: فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى وهو يختلف باختلاف السياق أو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام، وهذا إشارة إلى القاعدة الرابعة من قواعد أدلة الصفات أن الظاهر يختلف باختلاف السياق، ويختلف باختلاف ما أضيف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام والكلام مركب من كلمات وجمل يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض.
إذا كان كذلك فعند ذلك لا نسلم أن تأويل السلف لما ذكروه هو من التأويل المذموم، لا نسلم أنهم صرفوها وأزالوها عن معناها المتبادر، بل هذا هو معناها ؛ لأنه لا يعلم من هذا اللفظ وهذا السياق إلا المعنى الذي ذكره السلف، فالكلمة تأتي ويبين معناها سياقها وما أضيفت إليه، فمثلا لو قلت لك اشتريت بيتًا بعين عندي عين هل يتبادر إلى ذهن السامع إني اشتريت البيت بعيني فكيت عيني من موقعها واشتريت بذلك بيتًا؟ ما يمكن أن يفهم أحد هذا الكلام، إنما يفهم بعين إما ذهب ؛ لأن الذهب يطلق عليه عين، وإما بعين يعني بشيء من المال عندي ؛ لأن الأموال إما أعيان، وإما ديون.
فهذا ما الذي حدد أنه المقصود هنا ليس العين الباصرة، إنما هو إما ذهب وإما شيء من المال ما الذي حدده؟ السياق وما أضيف إليه الكلام، وبالتالي لا يمكن أن نقول أن تفسيرنا العين هنا هو من صرف الكلام عن ظاهره، لأنه لا يمكن أن يفهم إلا هذا المعنى، وتوهم غير هذا المعنى هو صرف للفظ عن ظاهره هذه دعوى المنع كيف رددنا على هذه الشبهة بالمنع؟
منعنا أن السلف ـ رحمهم الله ـ أولوا وصرفوا الكلام عن ظاهره، إنما هم فسروا الكلام بالنظر إلى سياقه ودلالة ما أضيف إليه الكلام، وبالتالي لا يكون هذا تأويلًا بل التأويل هو ضده.
الشق الثاني من الجواب وهو الجواب بالتسليم نقول إننا لو سلمنا هذا يفهمك أن المقام مقام افتراض وتقدير ومجارة ومسايرة للمدعي أننا لو سلمنا أن تفسيرها صرف عن ظاهرها، فإن لهم في ذلك دليلًا وهذا ما ليس موجودًا في تأويلكم، فصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إذا كان يعتضد بدليل فهذا ليس مشكل، ولا هو مذموم ولم ينكره السلف، فمثلا قول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾[يوسف: 82] هذا القرية تطلق على البناء الذي يسكنه الناس، وتطلق على أهل البناء الآن في قوله: واسأل القرية السؤال هل فهم يعقوب أن السؤال موجه إلى أهل القرية هذا من صرف اللفظ عن ظاهره؟ لا ليس صرفًا للفظ عن ظاهره، ولو سلمنا أنه صرف للفظ عن ظاهره، فإن هناك قرينة ما يمكن يسأل الجدران هل القصة التي قص أبنائي صحيحة أو غير صحيحة؟ لم يجد جوابا ولن يحيط صوابا من جماد لا يتكلم، إنما هناك دليل لهذا الصرف وهو أن المقصود بالقرية هنا أهلها وليس بنيانها وأفنيتها.
وبالتالي أجاب المؤلف –رحمه الله-بجواب مجمل في كل موقع يعترض فيه أو في كل مورد يعترض فيه المؤولون ويقول أنتم أولتم هنا فإذا أولتم هنا، فلما تلومون علينا التأويل فيما أولناه، الجواب إننا ما نسلم أن هذا تأويل مذموم، ثم لو قدرنا أنه تأويل فإنه مبني على حجة ودليل وصرف اللفظ عن ظاهره إذا كان يستند إلى حجة ودليل فإنه ليس من التأويل المذموم.
يقول –رحمه الله-: فإن لهم في ذلك دليلًا من الكتاب والسنة، إما متصلا يعني إما أن يكون الدليل الصارف للفظ عن ظاهره المتبادر، إما أن يكون متصلا وإما منفصلا، وسيأتي مثال للمتصل والمنفصل في الأمثلة التي يذكرها وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذًا هم لا يصرفون إلا لدليل، والدليل إما أن يكون متصلًا، وإما أن يكون منفصلًا، وأما المؤولون فإنهم يعتمدون في صرفهم النصوص عن ظواهرها على عقولهم وما استحسنته أراءهم لا يستندون في ذلك إلى بينات وبراهين وأدلة تسوغ هذا التأويل وذلك الصرف.