إِنَّ الحَمْدُ للهِ، نَحْمْدَهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لا إِلَهُ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى، فَتَقْوَى اللهِ اسْتِقامَةٌ عَلَى أَمْرِهِ، فِعْلًا لما طَلَبَ وَتَرْكًا لما نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، تَقْوَىَ اللهِ تَبْتَدِئُ بِصَلاح القلب واستقامته، وقيامه بمحبة الله وتعظيمه، ثم ينعكس ذلك على القول صلاحًا، وَعَلَى العَمَلِ اسْتِقامَةً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } سورة آل عمران : الآية 102.
عِبادَ اللهِ, اللهُ تَعالَى فَتَحَ أَبْوابَ الخَيْرِ بِأَنْواعِها لِلنَّاسِ فَقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سُورةُ الحَجَّ : الآية 77فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى كُلِّ بِرٍّ، وَحَثَّهُمْ عَلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ. بَدَأَ بِرَأْسِ ذَلِكَ في الأَعْمالِ البَدَنِيَّةِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ وَذاكَ لما في الصَّلاةِ مِنَ كَمالِ العُبُودِيَّةِ للهِ في القَلْبِ وَفي القَوْلِ وَفي العَمَلِ، ثُمَّ قالَ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يَشْمَلُ كُلَّ خَيْرٍ وَكُلَّ بِرٍّ وَكُلَّ طاعَةٍ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالفَلاحِ؛ رَجَّاهُمْ، وَبَيّنََ عِلَّةِ ذَلِكَ فَقالَ: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أَيْ: لأَجْلِ أَنْ تُفْلِحُوا، فَمَنَ طَلَبَ فَلاحَ الدُّنْيا وَفَوْزَ الآخِرَةِ، فَلْيُقْبِلْ عَلَى اللهِ تَعالَى بِالطَّاعَةِ، اسْتَمْساكًا بِما أَمَرَ وَقِيامًا بِما فَرَضَ، وبُعْدًا عَنْ كُلِّ ما نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ جَلَّ في عُلاهُ؛ بِذَلِكَ يُدْرِكُ الفَلاحَ وَيَبْلُغُ الإِنْسانُ مَبْلَغَ النَّجاحِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ هَذا النَّدْبَ لِطاعَةِ اللهِ تَعالَى لَيْسَ خَاصًّا في زَمانٍ وَلا مَقْصُورًا عَلَى مَكانٍ، بَلْ هُوَ في كُلِّ لَحْظَةٍ وَحَيْثُما كانَ، فَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِطاعَةِ اللهِ، عُمْرُكَ مِنْحَةٌ، أَيَّامُكَ فُرْصَةٌ، ما أَسْرَعَ ما تَتَقَضَّى، العَدَّادُ لا يَقِفُ ما دامَتِ الأَنْفاسُ تَتَرَدَّدُ في صَدْرِكَ فَأَنْتَ في فُرْصَةٍ وَمِنْحَةٍ مِنَ اللهِ تَعالَى، فَازْدَدْ خَيْرًا بِطاعَتِهِ، وَازْدَدْ بِرًّا بِالقُرْبِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ «لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا»، هَكَذا قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسلم(2682) في بَيانِ أَنَّ المؤْمِنَ لا يَزالُ في خَيْرِ ما تَرَدَّدَ نَفَسُهُ، خَيْرُهُ؛ اسْتِقامَةُ قَلْبِهِ عَلَى طاعَةِ اللهِ، تَوْحِيدُهُ، مَحَبَّتُهُ، تَعْظِيمُهُ، وَلَوْ كانَ ما كانَ مِنَ اشْتْغالٍ أَوْ عَمَلٍ في أَمْرِ دُنْيا يُقِيمُ بِها دُنْياهُ، وَيُصْلِحُ بِها حالَهُ، إِنَّما الشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ في أَنْ يَسْتَقِيمَ القَلْبُ عَلَى طاعَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، ثُمَّ تَنْقادُ الجَوارِحُ بِالفَرائِضِ وَالواجِباتِ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَيَّنَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ العَبْدُ الوِلايَةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } سُورَةُ يُونُسَ : الآيةُ 62 الوِلايَةُ يا إِخْوانُ؛ لَيْسَتْ مَرْتَبَةً خاصَّةً بِفِئَةٍ وَلا مُنْحَصِرَةٍ في أَشْخاصٍ، الوِلايَةُ يَسْتَحِقُّها كُلُّ مَنْ حَقَّقَ التَّقْوَى، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } سُورَةُ يُونُسَ : الآية 62 مَنْ هُمُ؟ {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} سُورَةُ يُونُسَ : الآية 63 فَبِقَدْرِ ما تُحَقِّقُ مِنْ خِصالِ التَّقْوى، بِقَدْرِ ما يَقُومُ بِكَ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ، تُحَقَّقُ الوِلايَةُ الَّتي هِيَ غايَةُ السَّعادَةِ، الَّتي هِيَ الأَمْنُ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ، الَّتي هِيَ الفُوْزُ بِكُلِّ عَطاءٍ.
جاءَ في صَحِيحِ الإِمامِ البُخارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «إِنَّ اللهَ قالَ: مَنْ عادَى لِي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ» صَحِيحُ البُخارِيِّ: بابُ التَّواضِعِ، حَدِيثُ رقم(6137) اللهُ لا يُخْلِفُ الميعادَ، وَقَدْ تَكَفَّلَ لأَوْلِيائِهِ بِالدِّفْعِ وَالذَّبِّ وَالنَّصْرِ، «مَنْ آذَي لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ»، وَحَرْبُ اللهِ لا يَقُومُ لَها النَّاسُ، وَإِنْ أَمْهَلَ اللهُ المعْتَدِينَ المحارِبينَ إِلَّا أَنْ العاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ. فاللهُ يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} سورة هود : الآية 102.
ثُمَّ بَيَّنَ الطَّرِيقَ الَّذِي تُدْرِكُ بِهِ هَذِهِ المنْزِلَةَ العُلْيا؛ وَهِيَ وِلايَةُ اللهِ وَمُدافَعَتُهُ؛ فَقالَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى: «وَما تَقَرَّبَ إِلَّي عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»هَذا الطَّرِيقُ الأَوَّلُ الَّذِي تُدْرِكُ بِهِ وِلايَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ تَشْتَغِلَ جَهْدَكَ وَطاقَتَكَ بِالقِيامِ بِما فَرَضَ اللهُ عَلَيْكَ في قَلْبِكَ تَوْحِيدًا وَتَعْظِيمًا، وَفي لِسانِكَ اسْتِقامَةً، وَفِي عَمَلِكَ امْتِثالًا لما أَمَرَ، وَقِيامًا بِما فَرَضَ في صَلاةٍ وَزَكاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ في حُقُوقِهِ، وَفي حُقُوقِ الخَلْقِ مِنْ بِرِّ الوالِدِيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحامِ، وَأَداءِ الأَماناتِ، وَسائِرِ ما فَرَضَهُ اللهُ تَعالَى، هَذِهِ المرْتَبَةُ الأُولَى الَّتي فَتِّشْ نَفْسَكَ عِنْدَها لِتَتَيَقَّنَ وَتَتَحَقَّقَ مِنْ سُلُوكِكَ طِرِيقَ الاسْتِقامَةِ، طَرِيقُ الوِلايَةِ، طَرِيقُ تَحْصِيلِ مَحَبَّةِ رَبِّ العالمينَ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قالَ: «وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ» هَذِهِ المرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تَنْعَكِسُ عِنْدَهُ المرْتَبَةُ فَتَخْتَلُّ الأَوْلَوِيَّاتُ، يُقَدِّمُ النَّوافِلَ عَلَى الفَرائِضِ وَيُقَدِّمُ المسْتَحَبَّاتِ عَلَى الواجِباتِ، «وَلا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوافِلِ» بَعْدَ الفَرائِضِ «حَتَّى أُحِبَّهُ»، إذًا المحَبَّةُ تَكُونُ بِعَمَلَيْنِ: أَداءِ الفَرائِضِ، وَالاجْتِهادِ في الطَّاعاتِ، وَالمسْتَحَبَّاتِ بَعْدَ ذَلِكَ «فإذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها» هَذِهِ مَعِيَّةٌ تامَّةٌ مِنْ رَبِّ العالمينَ، تَسْدِيدًا وَإِعانَةً وَتَوْفِيقًا وَحِفْظًا في كُلِّ جَوارِحِهِ، سَمْعًا وَبَصَرًا وَحَرَكَةً وَانْتِقالًا، ثُمَّ يَقُولُ: «وَلَئِنْ اسْتَنْصَرَني لأَنْصُرَنَّهُ» العوارِضُ لا يَخْلُو مِنْها الإِنْسانُ، فَإِنَّ ثَمَّةَ عوارِضُ في الدُّنْيا هِيَ لازِمَةٌ لَهُ، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} سورة البلد : الآية 4، يِحْتاجُ فِيها الِإنْسانُ إِلَى مَنْ يَلْجَأُ إِلَيْهِ، إِلَى مَنْ يَفْزَعُ إِلَيْهِ طَلَبًا لِلعَوْنِ وَالإِغاثَةِ، «وَلَئِنِ اسْتَنْصَرَنِي لَأَنْصُرَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعاذَنِي» مِمَّا يَخافُ «لأُعِيذَنَّهُ»، وَإِنِ اسْتَنْصَرَنِي فِيما يُؤَمِّلُ وَما يُحِبُّ لأَنْصُرَنَّهُ.
هَكَذا يُبَيِّنُ رَبُّ العالمينَ في هَذا الحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَصِلُ العَبْدُ إِلَى هَذِهِ المرْتَبَةِ العُلْيا، ما هِيَ السَّعادَةُ الَّتي يُدْرِكُها أُولَئِكَ الَّذِينَ أَقْبَلُوا بِقُلُوبِهِمْ عَلَى اللهِ، وَأَقْبَلُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ ذِكْرًا وَتَعْظِيمًا لَهُ وَبِجوارِحِهِمْ امْتِثالًا لأَمْرِهِ، فَأَسْلَمُوا لَهُ ظاهِرًا وَباطِنًا.
أَقُولُ هَذا القَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
***
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدِ للهِ حَمْدَ الشَّاكِرينَ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ، هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى وَاعْمُروا لَحظاتِكُمْ وَأنَفْاسَكُمْ بِطاعَةِ اللهِ تَعالَى، وَعَمِّرُوا أَوْقاتَكُمْ بِما يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ، فَأَنْتُمْ تَشْتَغِلُونَ بِفَكِّ أَنْفُسِكُمْ مِنْ كُلِّ أَهْوالِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ إِذا أَقْبَلْتُمْ عَلَى اللهِ، المقْبِلُ عَلَى اللهِ سَعِيدٌ، المقْبِلُ عَلَى اللهِ فَائزٌ، المقْبِلُ عَلَى اللهِ رَاغِبٌ وَناجِحٌ؛ فَإِنَّ التِّجارَةَ مَعَ اللهِ أَسْعَدُ التِّجارَةِ، فَإِنَّها لا بَوارَ فِيها وَلا خَسارَةَ، بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ ما عَمِلَ وَلَوْ بِنِيَّتِهِ حَسَنَةٌ، وَبَيْنَ أَنْ يُضاعِفَ لَهُ عَمَلَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً؛ إِذا صَدَقَ وَأَقْبَلَ عَلَى اللهِ بِنِيَّةٍ صادِقَةٍ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, جاءَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» صَحِيحُ البُخِارِيِّ: بِابُ فَضْلِ العَمَلِ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، حَدِيثُ رقم(926).
هَذا البيانُ النَّبَوِيُّ بِفَضْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ؛ وَهِيَ أَيَّامُ العَشْرِ يُبَيِّنُ أَنَّها دَوْحَةٌ مِنْ دَوْحاتِ التَّقْوَى، رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الخَيْرِ وَالبِرِّ، فَتْرَةٌ مَنَحَها اللهُ تَعالَى عِبادَهُ لِيُقْبِلُوا عَلَيْها تَعَرُّضًا لِهباتِهِ وَأَخْذًا بِما مَنَّ بِها عَلَيْهِمْ مِنْ عَظِيمِ العَطاءِ وَجَزِيلِ الإِحْسانِ، فَأَقْبَلُوا عَلَى اللهِ تَعالَى بِكُلِّ طاعَةٍ، أَقْبِلُوا عَلَى اللهِ بِقُلُوبِكُمْ، وَهَذا هُوَ مِفْتاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَسَعادَةٍ «أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ القَلْبُ» صَحِيحُ البُخارِيُّ: بابُ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، حَدِيثُ رقم(1946( لَيْسَ الشَّأْنُ في سَيْرِ الأَبْدانِ إِلَى اللهِ، الأَبْدانُ قَدْ تَتَخَلَّفُ لِعاهَةٍ، لَكِنَّ السَّيْرَ الَّذي يَنْبَغِي أَنْ تَعْتَنِيَ بِهِ هُوَ سَيْرُ قَلْبِكَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَطْعُ المسافَةِ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلا بِسَيْرِ القُلُوبِ لا بِسَيْرِ الأَبْدانِ.
قَطْعُ المسافَةِ بِالقُلُوبِ إِلَيْهِ *** لا بِالسَّيْرِ فَوْقَ مَقاعِدِ الرُّكْبانِ
فَأَقْبِلُوا عَلَى اللهِ بِقُلُوبِكُمْ مَحَبَّةً للهِ؛ فَكَمْ فِيكُمْ وَكَمْ مَعَكُمْ، وَكَمْ يَأْتِيكُمْ مِنْ نِعَمِهِ جَلَّ وَعَلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} سُورَةُ النَّحْلِ : الآية 53، لا تَقُلْ: عِنْدِي قُصُورٌ في كَذا أَوْ كَذا، فَما عِنْدَهُ مِنَ الخَيْرِ يَفُوقُ كُلِّ قُصُورٍ، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}النحل:18.
أَقْبِلْ عَلَى اللهِ حَمْدًا وَثَناءً وَتَعْظِيمًا وَتَعَرُّفًا عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَسْعَدُ بِهِ في دُنْياكَ، وَتَفُوزُ بِهِ في أُخْراكَ، أَقْبِلُوا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في أَداءِ الفَرائِضِ في حَقِّهِ صَلاةً وَزَكاةً وَصَوْمًا وَحَجًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ ما يُتَقَرَّبُ بِهِ المؤْمِنُونَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَّشِوُا في حُقُوقِ الخَلْقِ؛ فَإِنَّ السَّيْرَ إِلَى اللهِ لا يَسْتَقِيمُ بِالتَّفْرِيطِ وَإِضاعَةِ حُقُوقِ الخَلْقِ، قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا مِنَ الوالِدَيْنِ وَالأَرْحامِ وَالجِيرانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الحُقُوقِ، فَتِّشُوا أَنْفُسَكُمْ في الأَماناتِ، وَأَدائِها؛ فَإِنَّ اللهَ تَعالَى قَدْ قالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} سُورَةُ النِّساءِ : الآية 58، فتِّشُوا أَنْفُسَكُمْ في كُلِّ ما أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ تعَالَى وَنَهاكُمْ عَنْهُ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجاتِ وَالأَوْلادِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَزْواجِ يَظْلِمُونَ زَوْجاتِهِمْ وَكَثِيرًا مِنَ الزَّوْجاتِ يُقَصِّرْنَ في حُقوقِ أَزْواجِهِنَّ، وَكَذلِكَ الآباءُ وَالأُمَّهاتُ يُقَصِّرُونَ في حُقُوقِ أَوْلادِهِمْ، كُلُّ هَذِهِ حُقُوقٌ، فُرْصَةٌ وَمِنْحَةٌ أَنْ نُراجِعَ أَنْفُسِنا فِيها خِلالَ هَذِهِ المدَّةِ، لِنَرَى مَدَى قِيامِنا بِحَقِّ اللهِ وَأَدائِنا لِلأَماناتِ، «مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ لا يَشْكُرُ اللهَ»التَّرْمِذِيُّ(1954), وَقالَ: صَحِيحٌ، طاعَةُ اللهِ لا تَسْتَقِيمُ بِالكُلِّيَّةِ لِمَنْ فَرَّطَ في حُقُوقِ الخَلْقِ «وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ» قِيلَ: مَنْ يا رَسُولَ اللهِ ؟ قالَ: «الَّذِي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ» صَحِيحُ البُخارِيِّ حَدِيثُ رقم(5670)، وَأَفْضَلُ الأَعْمالِ في هَذِهِ الأَيَّامِ ذَكَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا، فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللهِ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ، وَلَيْسَ ذِكْرُ قَلْبِ غائِبٍ عَنِ اللَّسانِ، بَلْ الذِّكْرُ الَّذي يَتَرافَقُ فِيهِ القَلْبُ مَعَ اللِّسانِ، فَإِنَّهُ الَّذي يُثْمِرُ المحَبَّةَ وَالتَّعْظِيمَ.
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِالإِلْحاحِ بِالدُّعاءِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنْفُسِكُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَكُلُّكُمْ ذُو حاجَةٍ، لَيْسَ مِنَّا مَنْ هَوَ غَنِيٌّ عَنْ فَضْلِ اللهِ وَعطائِهِ، فَأَكْثِرُوا مِنْ دُعاءِ اللهِ، بُثُّوا إِلَيْهِ شَكْواكُمْ، وَأَنْزِلُوا بِهِ حَوائِجَكُمْ، وَأَمِّلُوا العَطاءَ؛ فَإِنَّ اللهَ بِيَدِهِ مَفاتِيحُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ، يُعْطِي جَلَّ في عُلاهُ عَطاءً بِغَيْرِ حِسابٍ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جَلَّ في عُلاهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى، تَعَرَّضُوا لِهَذا العَطاءِ بِسُؤالِهِ وَطَلَبِهِ فَي أَنْفُسِكُمْ وأَهْلِيكُمْ وَمَنْ تُحِبُّونَ، وَلا تَنْسَوْا أُمَّتكُمْ الَّتي تَئِنُّ مِنْ كَثْرَةِ الجِراحِ وَالمصائِبِ، فَإِنَّ أُمَّتَكُمْ فِيها مِنَ اللَّأْواءِ وَالبَلاءِ ما لا يَعْلَمُهُ إِلَّا رَبُّ الأَرْضِ وَالسَّماءِ، فادْعُوا اللهَ لَها بِالفَرَجِ وَاعْلَمُوا أَنَّ المخْرَجَ مِنْ هَذا الضِّيقِ الَّذِي تَعِيشُهُ الأُمَّةُ لَيْسَ بِكَثْرَةِ بَيانٍ وَلا كَلامٍ، وَلا بِكَثْرَةِ تَحْلِيلٍ وَتَفْصِيلٍ، إِنَّما هُوَ بِالأَعْمالِ الصَّادِقَةِ، وَالنَّوايا الصَّالِحَةِ، وَالبَذْلِ لِلمُسْتطاعِ في النَّفْسِ وَالمحِيطِ؛ فَإِنَّهُ إِذا صَدَقَ العَبْدُ في إِقْبالِهِ عَلَى اللهِ وَجَدَ مِنْهُ عَوْنًا وَأُمَّتُهُ تَئِنُّ مِنْ دَاخِلِها وَخارِجِها، وَأَقُولُ مَهْما بَلَغَتِ الكُرُوبُ وَتَوالَتِ الخُطُوبُ عَلَى أُمَّتِنا، فَيَنْبَغِي أَلَّا تَتَزَحْزَحَ قَضِيَّةٌ ثابِتَةٌ، وَهِيَ راسِخَةٌ رُسوخَ الجِبالِ في الأَرْضِ، أَنَّ الدِّينَ للهِ، فَلا تَخافُ عَلَى دِينِ اللهِ، بَلْ خَفْ عَلَى نَفْسِكَ مِنْ أَنْ تُقَصِّرَ في أَداءِ حَقِّهِ تَجاهَ دِينِ رَبِّكَ، أَمَّا اللهُ فَهُوَ ناصِرُ دِينِهِ، وَمُظْهِرُ كِتابِهِ، فَقَدْ قالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} عَلَى كُلِّ مِلَّةٍ وَدِينٍ {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} سُورَةُ التَّوْبَةِ : الآية 33، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لَنا أَلَّا نَكْتَرِثَ كَثِيرًا خَوْفًا عَلَى مُسْتَقْبِلِ الِإسْلامِ، فَالأَرْضُ للهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ، وَاللهُ لا يُخْلِفُ الميعادَ، وَقَدْ مَرَّ الإِسْلامُ بِمِحَنٍ وَبَلايا عِظامٍ أَخْرَجَهُ اللهُ فِيها ظافِرًا مُنْتَصِرًا، إِنَّما الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقْلِقَنِي وَيُقْلِقُكَ وَأَنْ يُخْيفَنِي وَأَنْ يُخِيفَكَ هُوَ مَدى قِيامِنا بِحَقِّ هَذا الدِّينِ نُصْرَةً في أُنْفُسِنا بِالاسْتِقامَةِ عَلَيْهِ، وَفي مُحيِطِنا بِالدَّعْوِةِ إِلَيْهِ، بِالِإحْسانِ وَالحِكْمَةِ، وَالبَيانِ الَّذِي يُقَرِّبُ الحَقَّ للِقُلُوبِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْها.
أَيُّها المؤْمِنُونَ، ادْعُوا اللهَ تَعالَى بِكُلِّ خَيْرٍ وَاغْتَنِمُوا كُلَّ لَحْظَةٍ، لا تَقُلْ هَذا في اللَّيْلِ، في النَّهارِ، في آخِرِ الصَّلاةِ، في وَقْتِ السَّحَرِ، بَيْنَ الأَذانِ وَالإِقامَةِ، ادْعُ اللهَ وَأَنْتَ قائِمٌ وَقاعِدٌ في بَيْتِكَ وَفي مَكْتَبِكَ وَبَيْنَ أَهْلِكَ؛ فَعطاءُ اللهِ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ، رُبَّ دَعْوَةٍ وَافَقَتْ عَطاءً فَفَتَحَتْ أَبْوابَ الخَيْرِ لِلإِنْسانِ.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا، وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، وَاسْلُكْ بِنا سَبِيلَ الرُّشْدِ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ، وَاتَّبعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ مَنْ في نُصْرِهِ عِزُّ الإِسْلامِ، اللَّهُمَّ انْصُرْ عِبادَكَ الموَحِّدِينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللَّهُمَّ انْصُرِ السُّنَّةَ وَأَهْلَها، اللَّهُمَّ انْصُرْ كِتابَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ وَعِبادَكَ الموَحِّدِينَ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا وَانْصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنا، آثِرْنا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنا، اهْدِنا رَبَّنا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا لَكَ ذَاكِرينَ شاكِرينَ رَاغِبينَ رَاهِبينَ أَوَّاهِينَ مُنِيبينَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنا وَثَبِّتْ حُجَّتنا وَاغْفَرْ زَلَّتَنا، وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَخُذْ بِنواصِينا إِلى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ إِذا أَرَدْتَ بِعبادِكَ فِتْنَةً فاقْبِضْنا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ, اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ.
اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.