الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم وليس منهم وقد بين الله تعالى هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم} إلى قوله قبل ذكر إبراهيم عليه السلام: { يَا بَنِي إِسْرائيل} ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون، وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم. هذا هو الأصل الرابع في هذه الرسالة المباركة، وهذا الأصل ملخصه هو أن الشريعة جاءت ببيان العلم النافع وحَمَلَتِه، وبينت الضلال وصفات أهله بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا شك ولا شبهة فيه ولا ريب، فلا يلتبس الحق بالباطل، ولا يلتبس العلم بالجهل، ولا يلتبس الفقه بغيره لمن قرأ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: ( الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء )، العلم: وهو موضوع هذا الأصل، والعلماء: وهم حملة هذا العلم، والفقه: أي هذا الأصل مخصوص ببيان حقيقة الفقه ومن هم الفقهاء، وليس مراد المؤلف رحمه الله بالفقه هنا معناه بالاصطلاح الخاص، الذي هو: معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بل المراد بالفقه هنا: إدراك الشريعة وفهمها، وهو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) فليس المراد بذلك معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية فقط. قال رحمه الله تعالى: ( وبيان من تشبه بهم وليس منهم ) تشبه بهم أي: بالعلماء والفقهاء، وليس منهم أي: وحاله في الحقيقة ليس منهم، وذلك بأن الله سبحانه وتعالى بين صفات العلماء الربانيين، وبين من تشبه بهم في أخذه بالعلم، ولكنه لم يكن هذا العلم قد آتى ثماره، وحصّل به حامله مقصوده، لأن العلم يحمله من الناس صنفان: عامل به، فذاك الموفق المحصل للمقصود، ومهمل له، وذاك الخاسر المحروم، لأن من تعلم العلم ولم يعمل به كان حجةً عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( والقرآن حجة لك أو عليك )) وحجة لمن أخذ به وقرأه، وعمل به، وهو حجة على من أخذ به وأعرض عنه، أخذ به، يعني: قراءةً وأعرض عنه، وكذلك حجة لمن أعرض ابتداءً لا قراءة، ولا عمل، فكلاهما يدخل في كون القرآن حجة عليه، لكن من أخذ بالقرآن وأعرض عنه، فإنه أعظم جرماً ممن لم يأخذه من الأصل، والسبب: أن من أخذ القرآن فقد أبصر، وصار عنده آلة الاهتداء، وسبب سلوك الطريق المستقيم، بخلاف الذي أعرض عنه بالكلية، فإنه لم ينل البصيرة، ولم يحمل النور، ولذلك كان الذم للجهل في بعض الآيات، والذم الشديد الذي ورد في القرآن هو لمن أخذ القرآن وأعرض عنه، فأسوأ مثلين ذكرهما الله عز وجل في كتابه هما: فيمن أخذ العلم ولم يعمل به، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } آتيناه آياتنا أي: البينات الواضحات، فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فانسلخ منها كما يسلخ الجلد من الشاة، أي: لم يبقَ معه شيء منها، كما أنك إذا سلخت الشاة لا يبقى شيء من جلدها عليها، فكذلك الواقع في هذا الذي منّ الله عليه بالعلم، ولم ينتفع به، { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ } هذا فيه بيان أن الضلال والانحراف كان منه، مأخوذ من قوله: { فَانْسَلَخَ مِنْهَا } ومن قوله: { أَخْلَدَ} وأعانه على هذا اتباع الشيطان له، { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي: إنه في عناءٍ دائم، ولهثٍ غير منقطع عند قيام سببه، وعند عدم قيام سببه، وذلك أنه أعرض عن النور والهدى بعد البصر، وهو من أشد ما يكون على القلب أن يعرض الإنسان بعد البصيرة، والمثل الثاني في سورة الجمعة، حيث قال سبحانه وتعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } فجعل إعراضهم عن مقتضى ما حملوه من العلم التكذيب، ومقتضى ذلك أنهم كذَّبوا بما حملوا من العلم، لأنهم لو كانوا صادقين مصدِّقين لهذا العلم لعملوا به، فلا يمكن لإنسانٍ أن يصدق ويعتقد ما يحمله من العلم أن يعرض عنه، وأن يتخلى عنه. وهذا في الإعراض الكلي، أما كون الإنسان يخالف ما علمه في بعض الأحيان بداعي الهوى، أو الشهوة، فهذا يقع، ولكنه لا يستمر على الإعراض، ولا يستمر على الانسلاخ، بل يعود ويستعتب، ويستغفر، ويرجع. المهم: أن كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بينا العلم النافع، وبينا أهله بياناً واضحاً شافياً، وميَّزا ذلك عما يلتبس بهما من مدعي العلم، الذين هم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم يدعون الناس إلى النار، بأفعالهم، بل في بعض الأحيان بآرائهم، وأقوالهم، حيث إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسوِّغون للناس الشرّ والضلال، وبيان من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله تعالى هذا الأصل في أول سورة البقرة في قوله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} إلى قوله قبل ذكر إبراهيم عليه السلام: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } فإن الله عز وجل قص في هذه السورة نبأ اليهود، وما كان منهم من تكذيبٍ وإعراض، وما قابلوا به الدعوة، ذكّرهم جل وعلا بعظيم ما أنعم عليهم من العلم والهدى والاصطفاء وغير ذلك، وما كانوا عليه، وكيف قابلوا تلك النعم، فكانت حجةً عليهم لا حجةً لهم. ثم قال رحمه الله تعالى: (ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البيِّن الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات)، ويزيده وضوحاً أي: يزيد هذا الأصل وضوحاً وبياناً: ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البيِّن الواضح للعامي البليد، أي: الذي ضعف إدراكه، وقلّ ذكاؤوه، ثم صار هذا أغربَ شيءٍ، يعني: أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وهذا من الانحراف الكبير، فإن العلم واضح، وهو العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح، وماعداه فهو جهل، بخلاف الحال في كثيرٍ من الأحيان، حيث يعد تشقيق الكلام بما لا يدل عليه الكتاب والسنة، وتفريعه بما يحصل به قسوة القلب هو: العلم، وإذا ذكَّرهم الإنسان بقول الله، أو بقول رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: هذه ظاهرية، هذا جمود على النصوص، هذا كذا وكذا. . . ، وخلعوا عليه من الألقاب والأوصاف ما يزهد الناس في الإقبال على الكتاب والسنة، وما يجرِّئُهم على الوقوع في البدعة، والدعوة إلى الضلالة، وهذا منحى خطير، ومسلك يجب على المؤمن أن يحذر منه، فإنه لا يحصل كمال الإيمان، ولا تمام الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ بالتسليم بالنصوص، فبقدر ما مع الإنسان من تعظيم الوحيين والعمل بهما يكون حظه ونصيبه من العلم والعمل به، ومن المهم لنا نحن طلبةَ العلم ومن يشتغل بطلب العلم: أن نعرف ونتلمس صفاتِ العلم النافع، ولذلك نطلب منكم أن نجمع ما هي صفات العلم النافع من خلال الكتاب والسنة، وكلام السلف، لأن فيهما من الإشارات إلى العلم النافع ما ينبغي لنا أن نقف عليه، حتى نعرف ما الذي ينفع فنأخذه ونقبل عليه، وما الذي لا يدخل في إطار العلم النافع فنشتغل بغيره عنه، لأن العلم كثير. ثم قال رحمه الله تعالى: ( وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل ) وهذا هو شأن كل من أعرض عن الكتاب والسنة، فإنه في لبسٍ وخلط وتخبط وتناقضٍ واضطراب، (وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به - على حدِّ فهم هؤلاء الناكبين عن الصراط - إلاَّ زنديقٌ أو مجنون، ) يعني: في تقييم الناس كما تقدم ذلك، فالناس يصفون من تكلم بالعلم من الكتاب والسنة بهذين الوصفين، ولكن هذا ولله الحمد ليس هو الغالب، لاسيما في زماننا هذا، بل من تكلم بالحقِّ والهدى فمهما وصف من الأوصاف المقذعة القبيحة فإن الله تعالى يدفع عنه، والعاقبة للمتقين. ثم قال رحمه الله تعالى: ( وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم. . . ) ولا يخفى عليكم أن الشيخ رحمه الله عاش في عصرٍ أصبح المتكلم آنذاك بالكتاب والسنة والداعي إلى نبذ الشرك والبدعة غريباً بين الناس، بل يُتهم بما ذكره رحمه الله من الزندقة، والجنون، والخروج عن سنن العلماء، والخروج عن طريقة أهل العلم، وصار الذي يؤلف ويناصر: هو من مشى على تقرير ما عليه عامة الناس من البدع والشرك وتعظيم غير الله، فهذا هو العالم الجهبذ المتبع من جهّال الناس ومبتدعيهم. فالشيخ رحمه الله يتكلم عن زمانه، وقد فتح الله عز وجل بعد ذلك ببركة دعوته ودعوة من تلاه من أئمة الدعوة وأهل العلم، في كل عصرٍ ومصر، وهم أهل العلم المتبعون للكتاب والسنة من أهل السنة والجماعة، السائرون على طريق السلف الصالح ما جعل القول بالكتاب والسنة هو الحجة والبرهان، والذي تطمئن إليه النفوس، ومن نعمة الله أن الدعوة السلفية تكتسح الدعوات اكتساحاً بالغاً واضحاً، وهذا من نعمة الله عز وجل على هذه الأمة، وهو تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )) فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم.