إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد ..
فاتقوا الله أيها المؤمنون، تقوى الله تجلب كل خير وتدفع كل سوء وشر، في الدنيا والآخرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران:102 ، عباد الله قَصَّ الله تعالى في كتابه الحكيم قصصًا كثيرة فيها من العبر والعظات ما تحيا به القلوب، وتستنير به البصائر، ويعتبر به أولو الألباب، وينتفع به أصحاب القلوب الحية المؤمنة.
قال الله جل في علاه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾ المائدة:27 ، خبرٌ أمر الله تعالى نبيه بأن يقصه وأن يتلوه على أمته، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ المائدة:27 وهما ابناه لصلبه، ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾ المائدة:27 فقال الذي لم يتقبل منه: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المائدة:27 يعني لا شأن لي في ذلك فلمَ تقتلني! لم تقتلني والله تعالى هو الذي يتقبل ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المائدة:27 .
﴿لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ المائدة:28 فذكر الحاجز الذي يمنعه عن أن يقابل اعتدائه باعتداء أنه يخاف الله رب العالمين، فليس عجزًا، ولا قعودًا عن المدافعة عن نفسه، ولا ضعفًا بل هو خوف الله الذي حجزه عن أن يقابل هذا التهديد بمثله، ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ المائدة:29 فأخبر أن من قتل نفسًا بغير نفس فإن جزاءه النار، وأنه من الظالمين فلا فرق في ذلك بين أن يقتل نفسًا واحدة أو أن يقتل أنفسًا، طوى الله الحديث قال: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ المائدة:30 قوله: ﴿فَطَوَّعَتْ﴾ المائدة:30 يدل على أنه كان في منازعة هل يقدم أو لا؟ هل ينفذ تهديده أو يمتنع؟
لكنه غلبه شيطانه ونفسه الأمارة بالسوء فطوعت له أي: سوغت له، أوجدت له مبررًا للقتل، ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ المائدة:30 فماذا كانت النتيجة؟ مباشرةً ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ المائدة:30 حكم رب العالمين على كل قاتل يقتل نفسًا بغير حق أنه من الخاسرين، والخسار هنا هو ضد الربح، وليس مقصورًا على مرحلة أو فترة أو دنيا دون آخرة، أو آخرة دون دنيا بل هو خسار مطبق لا يخرج منه الإنسان فأصبح من الخاسرين.
ومن خساره أنه لما قتله عجز عن أن يتعامل مع هذه الجريمة كيف يفعل بأخيه، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ المائدة:31 أقام الله له في نفسه من الحسرة والندامة ما يلازمه ولا ينفك عنه، وهكذا كل قاتل يقتل نفسًا بغير حق فإنه يصاحبه من الكدر والضيق والندامة والحسرة والخسار ما لا يمكن أن ينفك عنه. يقول الله جل في علاه معقبًا على هذه القصة ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ المائدة:32 أي من أجل ما تقدم في الخبر السابق من عظيم جرم قتل النفس ﴿كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ المائدة:32 لا فرق بين أن تقتل نفسًا واحدة، أو أن تقتل أنفسًا كثيرة فإن من تجرأ على نفس واحدة فقتلها بغير حق لم يمتنع عن قتل جميع الناس، ومن امتنع عن قتل نفس واحدة فإنه سيمتنع عن قتل جميع الناس؛ لأن الحاجز في نفسه موجود وهو خوفه من الله، وتعظيمه لما عظمه الله.
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ المائدة:32 مسرفون في سفك الدماء، مسرفون في الخروج عن حدود الشريعة، مسرفون في التورط فيما يغضب الله جل وعلا.
ومن خسار ذلك الرجل الذي قتل تلك النفس أنه ما من نفس تقتل إلى يوم القيامة ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول شطر من دمها؛ لأنه أول من سن القتل، فكل نفس تزهق وتقتل لذاك الذي قتل نصيب منها.
وهنا يتبين لنا أن جريمة القتل لا ينحصر شؤمها ووزرها على المباشر لها على القاتل بل يشترك فيه ذاك الذي لم يحضر، وذاك الذي لم يشهد، بل ذاك الذي لم يتزامن من حادثة القتل ابن آدم الأول الذي سن القتل كل نفس تقتل في الدنيا من ذلك العهد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها له نصيب منها. وكذلك لكل من رضي بالقتل، وكل من شارك فيه، وكل من أعان عليه، وكل من برره أو رضي عنه فإنه مشارك في وزر القتل المحرم.
ولهذا لما أقدم قوم صالح على قتل الناقة التي بعثها الله لهم آية، قال جل وعلا: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ هود:65 ، لم يضف القتل إلى واحد بل أضاف القتل إلى المجموع لما كانوا راضين، فعقروها مع أن الذي قتل الناقة واحد منهم لكنهم لما رضوا وقبلوا، ووافقوا، كانوا مشاركين فأضاف الله إليهم القتل، قال: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ هود:65 العقوبة كيف كانت؟ هل هي على القاتل وحده؟
﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ﴾ الشمس:14 وليس عليه، وهذا يبين أن كل من رضي وقبل وبرر وفرح بسفك الدم الحرام فإن له من ذلك الدم نصيبًا يلقى به الله يوم القيامة. أيها المؤمنون مضى الناس بعد ذلك العهد على حالٍ الله أعلم بها من حيث القتل لكن القتل ما زال في بني آدم، القتل بغير حق ما زال في بني آدم لكنه في آخر الزمان يكثر ويزيد كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: «يَتَقارَبُ الزَّمانُ، ويَنْقُصُ العَمَلُ، ويُلْقَى الشُّحُّ، وتَظْهَرُ الفِتَنُ» ثم بعد هذه الثلاثة بلايا قلة العلم، وكثرة الشح، وظهور الفتن ذكر قال: «ويَكْثُرُ الهَرْجُ» وهو القتل، «قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أيُّمَ هُوَ؟» يعني أيش هو الهرج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «القَتْلُ القَتْل« صحيح البخاري (1036)، وصحيح مسلم (157) .
إن القتل ثمرة قلة علم، ثمرة كثرة شح، ثمرة ظهور الفتن وانتشارها بين الناس، لذلك يكثر فيهم القتل كما قال صلى الله عليه وسلم، ويبلغ الأمر في القتل كثرة ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نَفْسِي بيَدِهِ» يحلف، «لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ لا يَدْرِي القاتِلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يَدْرِي المَقْتُولُ علَى أيِّ شيءٍ قُتِلَ» صحيح مسلم (2908) فلا القاتل يدري لما قتل، ولا المقتول يدري لما قُتل، إنما هي فتنة عمياء تصيب الناس يستحلون بها الدماء.
ولقد جاء في الترمذي من حديث الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً» ثم قال: «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ، وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا لَهُ» أي لدمه وماله وعرضه، «وَيُمْسِي مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ، وَيُصْبِحُ مُسْتَحِلًّا لَهُ» سنن الترمذي (2198)، وقال الألباني: صحيح الإسناد عن الحسن أي لدمه وعرضه وماله.
إن الأمر خطير جد خطير، سفك الدماء والرضا عنها هو من أعظم الذنوب والأوزار، لذلك قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الصحيحين: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فيها أبْصارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُها وهو مُؤْمِنٌ» قال في رواية البخاري: «وَلاَ يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» صحيح البخاري (2475)، وصحيح مسلم (57) ، لا يقتل وهو مؤمن، فإن الإيمان يحول بين الإنسان وسفك الدم الحرام.
لخطورة الأمر ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم عظيمًا إلا وأكد فيه على حرمة الدماء «إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا» صحيح البخاري (67)، وصحيح مسلم (1218) إن القتل لا يأتي فجأة، إن القتل يأتي نتيجة ضعف إيمان، وتسلط شيطان، وكثرة فتن فلا يحجز الإنسان عن أن يتهوك في الدماء إلا أن يعلم عظيم خطرها وأن الله تعالى يوقع الإنسان فيما لا مخرج له إذا سفك الدم الحرام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ العبدُ في فَسْحَةٍ من دِينِه ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا» صحيح البخاري (6862) ، فسحة يعني براح وسعة ما لم يصب دمًا حرامًا، فإذا أصاب دمًا حرامًا بأي مسوغ: عصبية، قبلية، حزبية، فتنة، أمر ظالم، كل ذلك لا يسوغ للإنسان أن يقتل نفسًا حرمها الله تعالى. ولذلك جاء في الحديث في زمن اشتباه الأمور: «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» مسند أحمد (21064)، وصححه الاباني في الإرواء ، إلى هذه الدرجة عند اشتباه الأمر إذا كان بين أن تكون قاتلاً أو تكون مقتولاً فكن مقتولاً فإنه أبرأ لذمتك عند الله عز وجل، واسلم لدينك، وتكون شهيدًا لأنه من قتل مظلومًا فهو شهيد.
أيها المؤمنون نصوص تحريم الدماء كثيرة، وآياته عديدة، وذاك من أصول الشريعة ومقاصدها حفظ النفوس، عندما يضعف العلم ويكثر الجهل، ويزين للناس الباطل تتلاشى تلك الحرمة، ويهون ويضعف ذلك التعظيم الذي جاءت به النصوص فنحتاج أن نذكر أنفسنا بعظيم حرمة الدماء، أول ما يقضي الله تعالى بين الناس الدماء وليس فقط الدماء بمعنى القتل بل الدماء في كل صورها، ولو وخزت شخصًا بإبرة أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة الدماء ولو كان الدم قطرة دم فإن الله سيسألك، ويوم القيامة يأتي المقتول وقد أخذ بتلابيب القاتل فيقول: ربي سل هذا فيما قتلني؟ سل هذا فيما قتلني؟ والذي فرح بالقتل سيقول المقتول بين يدي الله: ربي سل هذا فيما برر وسوغ قتلي؟
فاحفظوا أنفسكم واتقوا الله، كل شيء يمكن أن يستعتب منه الإنسان إلا الدم الحرام فإن شأنه خطير، اللهم احفظنا بحفظك، واكفنا شر أنفسنا والشيطان، واجعلنا نلقاك بما ترضى عنا، أعِنا على القيام بحقك، وصيانة شرائعك، وتعظيم حدودك.
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
* * *
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلي على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد ..
أيها المؤمنون عباد الله، هذه الفتن التي تحيط بالناس القتل بالجزاف ليس وحدانًا بل بالمئات والألوف، ذاك أمر يؤرق نفوس المؤمنين، لاسيما وأن الظلم بادٍ ظاهرٌ في هذا القتل الكثير العظيم الذي لا يُعرف له سبب إلا الظلم والتجبر والتكبر على الناس.
إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بمخرج يخرج به الإنسان في زمن كثرة القتل، في الصحيح من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ» صحيح مسلم (2948) جملة مختصرة يقول صلى الله عليه وسلم: «العِبادَةُ في الهَرْجِ» يعني في زمن القتل وكثرة الفتن «كَهِجْرَةٍ إليَّ» وهذه وصية من النبي صلى الله عليه وسلم لتنجو من تلك الآثام، وتسلم من تلك البلايا والأوزار، ولا يطولك شيء من تلك الدماء يوم العرض والنشور، يوم الفصل بين العباد الجأ إلى الله تعالى بالعبادة فإن العبادة تصلح القلب، وإذا صلح القلب صلح العمل، وإذا صلح القلب والعمل رزقك الله نورًا يضيء لك الطريق، وتتميز لك الأمور، وينكشف لك المشتبه من القضايا.
ولذلك يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾ الأنفال:29 وهذا لا يكون إلا بتحقيق العبودية لله، ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ الأنفال:29 أي يجعل لكم نورًا تميزون به بين الحق والباطل، ينكشف لكم به زيف المزيفين، وتضليل المضلين، وكل ما يدعوك إلى معصية الله يتبين لك، ويتضح لك السبيل لهذا من المهم للمؤمن أن يقبل على العبادة في هذه الأيام، وفي هذا الزمان، ليخرج من شر هذه الفتن، ويستبصر أين يضع قدمه فربما يضع الإنسان قدمه فيما يكون سببًا لهلاكه في الدنيا والآخرة.
ولا نجاة للعبد إلا بتوفيق الله وإعانته، وتسديده، وتيسيره، فلنلجأ إلى الله، واللُّجوء إليه بالعبادة، ورأس العبادة توحيده والإقبال عليه بالدعاء فإن الدعاء هو العبادة. رسول الله كان إذا وقف في مصلاه في صلاة الليل يقول: «اللهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ثم يقول بعد هذا التوسل: «اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِك» صحيح مسلم (770) ، هذا نوع من العبادة الذي يخرج به الإنسان من سيئات الفتن وتلاطمها، كم من الناس يتكلم في العظائم من الأمور، يتكلم في الدماء والوقائع، ويفلسف قضايا كثيرة وهو عارٍ عن تقوى الله، عارٍ عن ملاحظة أنه سيقف بين يدي الله ويسأله فقد قال الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ق:18 ، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن لا ينصر المظلوم، وأن لا يبين الخطأ من المخطئ بل قبل ذلك نحتاج إلى قوة إيمان، وصدق إقبال على رب العالمين حتى يهدينا إلى السبيل القويم، فإن نصر المظلومين من العبادة التي أوجب الله تعالى على أهل الإيمان فهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: «العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ»، كهجرة إلي يعني في الثواب والأجر هذا معناه.
لكن هناك معنى آخر وهو أن الهجرة أمان لأصحابها، فالناس كانوا تتخطفهم الفتن، ويؤذيهم المشركون في أوطانهم، فكانوا إذا هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمنوا واطمأنوا وأقاموا دينهم فكذلك العبادة في الهرج أمان للعابدين يأمنون به من الفتن، يأمنون به من أن تتخطفهم الضلالات، يأمنون به من كل شر كما لو هاجروا من بلدانهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث الأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
وصيتي لنفسي ولكم أن نجتهد في طاعة الله، وطاعة الله تبدأ في النظر في حق الإله الواجب من صلاة وصيام وزكاة وحج وبر الوالدين وحقوق الخلق، ثم بعد ذلك أبواب الخير مشرعة بالنوافل والطاعات والإحسان، وبذل الممكن لنصر المظلومين وإزالة الظلم عنهم ولو بالدعاء، فهذه المجازر وذلك القتل الذي لم تشهد له الدنيا التي أدركناها من قريب في بلاد الإسلام نظيرًا يوجب أن يفزع الناس إلى الله عز وجل، وليس بيننا وبين الله نسب فما نراه في بلاد غيرنا لم يكن أهله يتصورون أن يكون فيما بينهم، لكن الله أوقع ذلك بينهم.
وكذلك نحن قد نكون في يوم من الأيام على تلك الحال إذا لم نرجع إلى الله بصدق، فليس بيننا وبين الله نسب فلنستعتب، ولنتب إلى الله عز وجل، ولنسأله السلامة، ولنحفظ أنفسنا بطاعة الله، وبلادنا بإقامة الحق فيها، والتعاون على البر والتقوى، وفعل ما يرضى الله تعالى به عنا عند ذلك سنخرج من ذلك ولو يا أخي تخرج بنفسك سالما فتلقى الله وليس لأحد من الخلق عليك حق يطلبه لا في دم، ولا في مال، ولا في عرض.
اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا من حقوق العباد، وأقمنا على الطاعة والإحسان يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف والرشاد والغنى، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم أمِّنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا ربنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم في كل البلدان، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شر أشرارهم، اللهم عليك بالظالمين المعتدين حيث كانوا، اللهم كف ظلمهم وانتقم للمظلومين منهم، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم يا حي يا قيوم أنجِ إخواننا المستضعفين في سوريا، اللهم أنجهم من هذا الظالم الغاشم، اللهم أنجهم من المعتدي الغاصب، اللهم عليك به فإنه لا يعجزك، اللهم عليك به وبمن أعانه يا رب العالمين فإنك على كل شيء قدير.
اللهم اجمع كلمة إخواننا في مصر على ما فيه الخير يا رب العالمين، ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وولِّ عليهم خيارهم، واكفهم شر المتربصين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.