بسم الله الرحمن الرحيم قال رحمه الله تعالى:(لا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ([1]). خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَرَبَلَهُمْ آجَالاً. وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ. وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً. وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ. لا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ. آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ). التعليق: قال المؤلف رحمه الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . هٰذه آية من كتاب الله عز وجل جعلها المؤلف رحمه الله ضمن ما قرره من عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية المنصورة، وقد تقدّم الكلام على نفي المثلية عن الله جل وعلا في موضعين مما تقدم من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (لا شَيْءَ مِثْلُهُ)، وفي قوله: (ولا يُشْبِهُ الأَنَامَ) . ثم قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . ولعل المؤلف رحمه الله أراد بهٰذه الآية بيان إثبات الصفات، أو لعل المؤلف رحمه الله أراد بهٰذه الآية الرد على من ضلّ في باب الأسماء والصفات، وليس مقصوده تقرير نفي المثلية؛ لأن نفي المثلية تقدم في قوله: (لا شَيْءَ مِثْلُهُ) و(لا يُشْبِهُ الأَنَامَ). لكنه ساق هٰذا ليرد على طائفتين ضالتين، وفريقين منحرفين عن صراط الله المستقيم، عن مذهب أهل السنة والجماعة وعقيدة الفرقة الناجية المنصورة، وهم: أهل التعطيل وأهل التمثيل، فإن هٰذه الآية ردت على جميع البدع الواقعة في باب أسماء الله وصفاته، على اختصار هٰذه الآية ووجازة لفظها وقلة كلماتها إلا أنها ردت وسدت أبواب الضلال فيما يتعلق بالأسماء والصفات. قال الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهٰذا رد على الممثلة، رد على أهل التمثيل الذين يثبتون لله عز وجل مثيلاً ونظيراً وسمياً وكُفْئًا في أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو ما يجب له. وفي قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد على أهل التعطيل الذين عطلوا صفات الله جل وعلا، فأهل التعطيل عطلوا الله عن صفاته وأخلوه منها، إما على وجه الكلية أو تعطيلاً جزئياً. والمقصود أن هٰذه الآية ردّت على هاتين الفرقتين. إذا سُئلت: ما هي أبواب الضلال في أسماء الله وصفاته؟ تقول: بدعتان، جميع البدع في هٰذا الباب ترجع إلى بدعتين: بدعة أهل التمثيل، وبدعة أهل التعطيل. والممثلة والمعطلة يصلون إلى التمثيل والتعطيل من طريقين: أما الممثلة فيصلون إلى التمثيل عن طريق التكييف، فيطلبون كيفية ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن صفاته. ولذلك كان من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، فنفي التمثيل هو نفي الغاية والمنتهى والمقصد، ونفي التكييف هو نفي للطريقة والواسطة التي يتوصل بها المبتدعة إلى التمثيل. وكذلك من عقيدتهم أنهم لا يعطّلون الله جل وعلا عن صفاته، بل يثبتون له ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غير تعطيل. ومن لوازم نفي التعطيل نفي الطريق الموصل إليه، وهو التأويل، التحريف، الذي يسميه أهله تأويلاً، ولذلك كان من العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، فنفي التحريف هو نفي للطريق الموصل إلى التعطيل. ونفي التعطيل هو نفي للغاية والمقصد الذي ينتهي إليه طريق هؤلاء، وهم القسم الثاني من أقسام المبتدعة في باب أسماء الله وصفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . ولما كانت هٰذه الآية متضمنة هذين المعنيين من إثبات كمال الصفات ونفي مماثلة المخلوقين ضاق بها صدور نفاة الصفات، حتى إن أحدهم اقترح على المأمون أن يبدل بقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ([2]) قولَه: وهو العزيز الحكيم، فقال له: أزل من ستار الكعبة قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ،فاكتب: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم. حتى ينفي إثبات هاتين الصفتين، اللتين يظن أن إثباتهما يقتضي إثبات المماثلة للمخلوق. وتعالى الله عما يقول علوّاً كبيراً، فالله جل وعلا كلامه حق: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} ([3]) بل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهٰذا فيه نفي المماثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فيه إثبات كمال الصفات للرب جل وعلا. بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من تقرير ما يتعلق بصفات الرب سبحانه وتعالى انتقل إلى تقرير أمر من أصول الدين، وهو من أصول الإيمان، وهو ما يتعلق بالقضاء والقدر، فقال رحمه الله: (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ). الخلق هو الإيجاد والإبداع والإنشاء، والله جل وعلا خلق كل شيء، فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق، فهو الخالق جل وعلا لكل شيء، كما تقدم ذكر ذلك في كلام المؤلف رحمه الله حيث قال: (خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ). فالله جل وعلا خالق بلا حاجة، خلق كل شيء جل وعلا، فكل شيء مخلوق للرب سبحانه وتعالى. وليس مراد المؤلف رحمه الله في هٰذه العبارة إثبات الخلق، فإنه قد تقدم ذكره، إنما مراد المؤلف في هٰذه العبارة أن يقرر أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ خلق الخلق وهو عالم بهم، ولا شك أنه لا يمكن أن تثبت صفة الخلق لله عز وجل إلا بالعلم؛ لأنه لا يمكن أن يكون خالقاً إلا من كان عالماً، ولذلك قال رحمه الله: (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ). الباء هنا للملابسة والمصاحبة، وهي التي تفيد المعية، يعني: خلق الخلق مع علمه أو حال كونه عالماً بهم، خلق الخلق عالماً بهم سبحانه وتعالى، فالباء هنا للمصاحبة، ومعنى المصاحبة أنها تفيد المعية، يعني: خلق الخلق مع علمه بهم أو عالماً بهم، فإما أن تقدّر (مع) أو أن تقدِّر (حالاً) حتى يتبين معنى الملابسة والمصاحبة. (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ) ولا شك في ذلك، وقد قرر الله سبحانه وتعالى علمه بكل شيء، فعلم الله جل وعلا متعلق بكل شيء، فهو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى. والعلم -يا أخي- هو من أوسع الصفات تعلقًا؛ بل هو متعلق بكل شيء: فهو متعلق بالماضي وبالحاضر وبالمستقبل، متعلق بالممكن، ومتعلق بالواجب، ومتعلق بالممتنع، فهو من أوسع الصفات تعلقاً، ولذلك لا تخصيص في قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ([4])؛ لأنه يتعلق بكل شيء، حتى يتعلق بالمعدوم ويتعلق بالممتنع، أي الذي لا يكون. مثال تعلقه بالممتنع قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ([5]). هل يمكن أن يوجد آلهة حق غير الله؟ الجواب: لا، ومع ذلك قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فأخبر بماذا سيكون لو كان هناك آلهة. ومما يدل على تعلق العلم بالممتنع قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ([6]). والرد بعد الموت هل هو ممكن أو ممتنع؟ ممتنع، وهل هو ممتنع لعدم القدرة عليه أو لحكمة رب العالمين؟ للحكمة، لحكمته جل وعلا، فإنه يمنع أن يرد الناس بعد موتهم، ومع ذلك أخبر سبحانه وتعالى بحال الناس لو ردوا بعد موتهم كيف يكونون. فالمراد أن الله جل وعلا عالم بكل شيء، وعلمه من الصفات التي تعلقت بكل شيء، تعلقت بذاته وبصفاته وبأفعاله وبخلقه، فكل شيء يتعلق به العلم، بل تعلق بالممكن والواجب والممتنع. ثم اعلم أن الله سبحانه وتعالى استدل على علمه بخلقه بثلاث صفات من صفاته، قال سبحانه وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ([7]). فأثبت الله جل وعلا علمه بخلقه فـ {مَنْ} هنا فيها وجهان: إما أن تكون في محل رفع فاعل. وإما أن تكون في محل نصب مفعول به. على الأول: ألا يعلم الذي خلق؟ يعني :كيف لا يعلم الذي خلق؟ فجعل من لوازم إثبات صفة الخلق وأنه خالق أنه عالم بكل شيء، وهٰذا المعنى صحيح، ولا إشكال فيه. المعنى الثاني: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} يعني: ألا يعلم مخلوقه؟ ولا إشكال في أن الله سبحانه وتعالى عالم بمخلوقه. فعلى المعنى الأول وأن {مَنْ} مرفوعة ،في محل رفع فاعل، يكون من دلائل علمه جل وعلا وشواهد علمه بخلقه أنه خلقهم سبحانه وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . يعني: كيف لا يعلم الخالق؟ كيف لا يعلم بخلقه وهو الخالق لهم؟ فاستدل على علمه بخلقه بهٰذه الصفة أنه خالق جل وعلا. الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . فجعل هاتين الصفتين دالتين على علمه بخلقه. و {اللَّطِيفُ} هو من يدرك الدقيق من الشيء، هو من يدرك ما دق من الأشياء. و {الْخَبِيرُ} هو من يدرك ما خفي من الأشياء. فإذا كان يدرك الدقيق ويدرك الخفي فكيف لا يعلم بخلقه؟ فهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير العالم بما دقّ وبما خفي، فإذا كان يعلم الدقيق والخفي فهو جل وعلا عالم بخلقه لا إله غيره، هو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى، سبحانه وبحمده. إذاً قول المؤلف رحمه الله: (خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ) يدل على إثبات علم الله المتقدم على خلق كل مخلوق، ولا إشكال في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وهو جل وعلا عالم بكل شيء قبل خلقه، وسيأتي مزيد تقرير لهٰذا في تقرير المؤلف رحمه الله لمسألة القدر. والمؤلف رحمه الله وغفر له فرّق ما يتعلق بمبحث القدر، لم يجمعه في موضع واحد، بل أعاد وأبدأ ورد وكرر في هٰذه المسألة، ولعل ذلك لأهميتها وشدة الحاجة إليها في وقته رحمه الله. ثم قال: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا). الآن تقدّم أن الله سبحانه وتعالى عالم بخلقه، وأنه خلقهم بعلمه، فعلمه محيط بخلقه جل وعلا، فهو محيط بكل شيء، عالم بكل شيء. الآن أتى إلى تقرير أنه ما من شيء إلا بقدر فقال: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا). قدّر لهٰذا الخلق الذي خلقه أقداراً، فالله جل وعلا خلق كل شيء بقدر ،كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ([8]). فما من شيء إلا وهو مقدّر سبق به تقدير رب العالمين، فلا يخرج شيء مما يكون عن تقدير الله جل وعلا العليم القدير، فالعباد كلهم أحاطت بهم قدرة الله جل وعلا، قال الله سبحانه وتعالى في بيان إحاطة علمه وإحاطة تقديره بخلقه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ،([9]) {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} ([10]) وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء بقدر: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} ([11]) وما إلى ذلك من الآيات التي لا تحصر في إثبات أن الله جل وعلا قدّر لخلقه أقداراً. ثم قال رحمه الله: (وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالاً). (ضَرَبَ) أي حدّد، (لَهُمْ آجَالاً) أي مُدداً مضروبة لا يتجاوزونها، فكل عباده لا يتجاوزون ما قدره الله جل وعلا من الآجال، بل هي آجال محتومة وآجال مقدرة، لكل أجل كتاب، وقد دل على هٰذا كتاب الله جل وعلا، ودلت على ذلك السنة. الكتاب قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ([12]). ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))([13]). فالله جل وعلا قدّر لخلقه الأقدار وبينها ووضحها وكتبها وأثبتها، فلا يخرج شيء عن قدره، ومن تمام تقديره أنْ ضرب لهم آجالاً. ثم قال رحمه الله: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ). هٰذا فيه تأكيد ما تقدّم من أنه عالم بهم قبل الخلق. (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ) جل وعلا (شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ)، بل هو المحيط بهم العالم بهم قبل خلقه. ثم قال: (وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ). هٰذا تأكيد لمعنى الجملة السابقة وما تقدم من إثبات علم الله عز وجل بالخلق قبل أن يخلقهم. فالله جل وعلا عالم بكل شيء قبل خلقه. يقول: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ). طيب، المؤلف رحمه الله لما قال: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ): هل مراده بهٰذا مجرد تأكيد ما تقدم؟ الجواب: أنه أكد ما تقدم، وأجاب عن قول خُصماء الله في القدر، فإن قوله رحمه الله: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ.وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ). هٰذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله ردٌّ على خُصماء الله في القدر، وخُصماء الله في القدر فريقان: الفريق الأول: هم الذين نفوا تقدير الله للأشياء قبل وجودها، الذين نفوا القضاء والقدر، وهم غلاة المعتزلة، غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله لم يقدر شيئاً، وإن الأمر أنف، وهٰذه بدعة ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وردّها ابن عمر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل هٰذه البدعة كانت في الذين خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين في القدر، كما جاء حديث أبي هريرة أن المشركين جاؤوا يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ([14]). فإن هٰذا جواب على من خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الله عز وجل للأشياء قبل وقوعها. إذاً الفريق الأول الذين خاصموا الله في القدر هم الذين نفوا القضاء والقدر، عطلوا القضاء والقدر، قالوا: إن الله جل وعلا لم يقدر شيئاً. هٰذا الفريق الأول والقسم الأول من خُصماء الله في القدر. القسم الثاني هم الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأمر والنهي، وهم الجبرية، الذين قالوا: إنه ما من شيء إلا بقضاء الله وقدره، وعلى هٰذا لا يلام العاصي على معصيته، ولا يشكر المحسن على إحسانه؛ لأن إحسان المحسن بقدر الله، ومعصية العاصي بقدر الله، فعلى هٰذا جعلوا القدر حجة على تعطيل الشرع، وهٰذا قد ذكره الله جل وعلا عن الكفار في مواضع من كتابه، منها قوله جل وعلا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ([15]). فجعلوا تعطيل الطاعة والتوحيد محتجين على ذلك بالقدر. ومن المواضع التي أبطل الله جل وعلا فيها الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ([16]). هناك الاحتجاج بالقدر على ترك التوحيد، وهنا الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة. بقي الاحتجاج بالقدر على المعصية، وهو في قول إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} ([17]). فجعل فعله ومعصيته بسبب إغواء الله عز وجل، فنسبها إلى الله جل وعلا، واحتج بها على استمراره في الغي والضلال. فتبين أنه: لا حجة في القدر على ترك التوحيد. ولا حجة في القدر على المعصية. ولا حجة في القدر على ترك الطاعة. بل الحجة لله بالغة على كل أحد، فإنه ما من أحد إلا وله الاختيار الكامل في فعل ما شاء، وترك ما شاء، وهٰذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الله عز وجل كما سيأتي. المراد أنّ كلام المؤلف رحمه الله في هٰذا الموضع ردّ فيه على فرقتين ضالتين في باب القضاء والقدر وهما: غلاة القدرية والجبرية، الذين عارضوا الشرع بالقدر والذين نفوا القدر وعطلوه. ثم قال رحمه الله: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ). هٰذا الرد على الفريق الثاني ممن خاصم الله في القدر. قال رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ ). (كُلُّ شَيْءٍ ) يشمل جميع الأشياء، فكل مَشِيءٍ في الكون وكل موجود ومخلوق فهو بتقدير الله جل وعلا، لا نَظَر في ذلك إلى كونه محبوباً لله أو غير محبوب، فإن الله جل وعلا شاء ما كان وما يكون لحكمة بالغة، ولا تعلُّق لذلك بالمحبة، فلا يلزم أن يكون ما وقع محبوباً لله جل وعلا، بل كثيرٌ مما يقع يكون مبغوضاً لله جل وعلا، فكل شيء يجري بتقديره. وإذا اعتقد المؤمن أن كل شيء يجري بتقدير الله عز وجل اطمأن قلبه فيما يتعلق بالمصائب، ورضي بما قدره الله له، ولم يقع في قلبه معارضة لتقديره جل وعلا، ولا ضيق لما يجري عليه من الأقدار. قال رحمه الله: (وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ). لما قرر ما تقدم يبين المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع أن إثبات المشيئة والإرادة للمخلوق ليس ذلك على وجه الاستقلال والانفصال والانفكاك عن مشيئة الله عز وجل، بل (فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ)، ولذلك قال: (وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ ) مشيئة من؟ مشيئة الرب جل وعلا، (تَنْفُذُ) أي تجوز، ولا يحدّها حد، فهو جل وعلا ذو المشيئة النافذة والقدرة النافذة، لا رادّ لما شاء ولا مانع لما قدر وقضى جل وعلا، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. (وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ). فإثبات المشيئة للعبد لا يعطِّل مشيئة الله عز وجل، وليس خارجاً عن مشيئة الله عز وجل، بل مشيئة الله عز وجل محيطة بمشيئة عبده، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ([18]). وكما قال الله جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ([19]). فمشيئة الله سبحانه وتعالى محيطة بمشيئة العبد، لا خروج للعبد عن مشيئة الله عز وجل. (فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ). هٰذه المشيئة المذكورة في قوله: (مَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ). تدخل في أي نوع من أنواع الإرادة؟ في الإرادة الكونية، الإرادة الكونية هي معنى قول المؤلف رحمه الله وقول المسلمين: (مَا شَاءَ الله كَانَ) أي حصل ووجد (وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) أي لا حدوث له ولا حصول. ثم بعد أن أثبت عموم مشيئة الرب سبحانه وتعالى لكل شيء، وأنه لا خروج لمشيئة العبد عن مشيئة الله عز وجل قال رحمه الله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً) جل وعلا. وفي هٰذه العبارة الرد على المعتزلة والقدرية الذين قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه، فالهدى والضلال ليس من فعل الله عز وجل ولا من مشيئته ولا من إرادته، إنما هي من مشيئة العبد وإرادته وفعله المستقل عن الله جل وعلا. واضح يا إخوان؟ فقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يرد بذلك على من؟ على المعتزلة القدرية الذين قالوا: إن الله لا يخلق فعل العبد، بل أفعال العباد خارجة عن قدرته ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى. ثم كيف يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب؟ يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب بأنها هداية البيان والإرشاد والدّلالة، فيحملون كل آية أضاف الله جل وعلا فيها الهداية إليه على أنها هداية بيان وإرشاد ودلالة. وهٰذا لا إشكال أنه تحريف للكلم عن مواضعه، فإن الآيات التي فيها أن الله سبحانه وتعالى (يهدي من يشاء ويضل من يشاء) الهداية المثبتة هي هداية الدلالة والإرشاد والبيان وهداية التوفيق للعمل، فإنه إذا لم يوفق الله جل وعلا العبد للعمل فإنه لا إصابة في عمله ولا توفيق له. ومما يدل على أن الهداية المضافة إلى الله جل وعلا تشمل هداية التوفيق للعمل قول الله جل وعلا فيما ذكره في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ([20]). فالهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم هي هداية التوفيق والعمل، وأما الهداية المثبتة لله عز وجل فهي هداية الإرشاد والدلالة والبيان، وهداية التوفيق إلى العمل. فقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً) أي إن الهداية منه سبحانه وتعالى فضل ومنة على العبد. وهٰذا فيه الجواب عن قول من يقول: كيف يهدي فلاناً ولا يهدي فلاناً؟ نقول: الهداية فضل الله ومنته ورحمته، وهو جل وعلا أعلم بمحالّ الفضل من غيره، فإن الله سبحانه وتعالى يمنّ على من يشاء من عباده بالهداية؛ لعلمه بأن الممتن عليه بالهداية المتفضل عليه بالاستقامة أهلٌ لذلك، أي إنه يستحق ذلك، وإنه صالح لهٰذا. قال الله سبحانه وتعالى- في جواب المعترضين على الرسل في أنهم خصوا بالرسالة، قال الله جل وعلا-: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ([21]). فالله سبحانه وتعالى جعل الفضل في محله، وجعله لفضل الرسالة في الرسل لعلمه بأنهم أهل لها. قال ابن القيم رحمه الله: والله جل وعلا أعلم بمحالّ الفضل في الرسل وأتباعهم. فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ([22]). أي أعلم بمن يستحق الهداية فيوفقه إلى الهداية، أعلم بمن يستحق الاستقامة فيوفقه إليها، وهٰذا معنى قوله رحمه الله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً). الهداية إلى الصراط المستقيم توفيقاً وعملاً، ويعصم من المعاصي ويعافي من الذنوب والخطايا فضلاً منه سبحانه وتعالى. (وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً). أي عدلاً منه، فهو جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، {وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}([23]). ما منعهم الله جل وعلا الفضل وهم أهل له، بل الأمر كما قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ([24]). فإنهم لما استحقوا الزيغ أضلهم وخذلهم وخلّى بينهم وبين أنفسهم، ولذلك اعلم أن كل معصية تقع فيها فإنها من خذلان الله جل وعلا؛ لأنه خلى بينك وبينها، ولو أن الله جل وعلا أكرمك لعافاك وعصمك. وهٰذا معنى قوله رحمه الله في هٰذه العبارة: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً). ثم قال رحمه الله: (وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ). نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله تعالىٰ في الدرس القادم