بسم الله الرحمن الرحيم قال رحمه الله تعالى:(وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ، لا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ. آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى. وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ، وَكَافَّةِ الْوَرَى، بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ). التعليق: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فصلة ما تقدم من كلام المؤلف رحمه الله في مسائل القدر، قال رحمه الله: (وَكُلُّهُمْ) أي كل عباده وخلقه (يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ). فالله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، بل الخلق لا يخرجون عن فضل الله جل وعلا، فإن قَصُروا عن الفضل فلا يخرجون عن العدل، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} ( ). فالله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فمن هداه فبفضله، ومن وقع في الضلال، فإنما يضل على نفسه، كما قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ( ). والله جل وعلا أعلم بالمهتدين، وهو سبحانه وتعالى يعلم محالّ الفضل والاختيار، ومحالّ المنّ ومواضعه.فلذلك لا يعترض على الله جل وعلا في هداية فلان وفي إضلال فلان. فهٰذا مما ينبغي أن يقر في قلب المؤمن أن الله جل وعلا حكم عدل، ليس في حكمه الكوني ولا في حكمه الشرعي نقص ولا ظلم، بل الظلم منتفٍ عن الرب، حرمه الله جل وعلا على نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} ( ). قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الإلهي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) ( ). فنفي الظلم عن الله يدل على أنه سبحانه وتعالى العَدْلُ الذي لا ظلم في شيء من أحكامه. وقد اعترض بعض من بُلي في مسائل القدر، فسأل أحد العلماء فقال له: أرأيت إن منعني الهدى ثم أمرني به، أيكون قد ظلمني؟ فقال له العالم الرباني العالم بربه جل وعلا: إن كان قد منعك شيئاً لك فقد ظلمك. والله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، بل الله جل وعلا لا ينفكّ عباده -مسلمهم وكافرهم- من خيره وفضله، فلا أحد أصبرُ على الأذى من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، فإنهم يشتمونه ويسبونه وينسبون إليه الولد، وهو جل وعلا يعافيهم ويرزقهم ويمدهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ بما تقوم به حياتهم ويصلح به معاشهم. فكل العباد -المسلم والكافر- يتقلبون في مشيئته، يعني: فيما يقدره ويقضيه بين فضله وعدله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ. ثم انتقل المؤلف رحمه الله فقال: (وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ). الأضداد: جمع ضد، والضد هو المناوئ، المعارض، المقابل، والله جل وعلا لا ضد له، فإنه لا يقوم شيء لإرادته، ولا يقوم شيء أمامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، بل هو القوي العزيز الذي لا رادّ لقضائه جل وعلا. وقول المؤلف رحمه الله: (مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ ) يردّ بذلك على المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وإن العبد يشاء ما لا يشاؤه الله، وإن العبد يخرج بأفعاله عن أقدار الرب جل وعلا، فهٰذا فيه الرد على هؤلاء. وهٰذه الكلمة (مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ ) يستعملها أهل العلم رحمهم الله في كلامهم، فافتتح بها ابن القيم رحمه الله كتاب إغاثة اللهفان أو ذكرها في افتتاح كتاب إغاثة اللهفان، ومعناها ما ذكرنا: أنه لا أحد يقوم في مضادة الرب جل وعلا، فهو سبحانه وتعالى الذي لا يقوم له شيء. وأما قوله: (وَالأَنْدَادِ) فالأنداد جمع ند، والند هو المثيل والمكافئ والنظير، ويطلق أيضاً على المناوئ، لكن المراد به هنا المثيل والنظير. فنزه المؤلف رحمه الله الرب جل وعلا عمن يُعِارضه ويضاده ويخالف أمره، ويخرج عن تقديره، ونزهه سبحانه وتعالى أن يكون له ند ونظير ومثيل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} ( )، وكما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ( ) فهٰذا أمر واضح وقد تقدم تقريره. ثم قال رحمه الله: (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ) جل وعلا. (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ) فلا أحد يقوم لرد قضاء الله جل وعلا، بل: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35)} ( ). فأمر الله جل وعلا، قضاؤه جل وعلا ماضٍ لا راد له، والقضاء هنا المراد به القضاء الكوني الخلقي القدري. وأما القضاء الشرعي فإنه يُرد؛ لأنه ليس لازم الوقوع، فقوله: (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ) أي إنه لا يرد ما قضاه وقدره سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: فإذا قضى الله جل وعلا بالموت على أحد فلا يمكن لأحد أن يرده، إذا قضى بالنجاح لأحد فلا يمكن أن يرده ، إذا قضى بالسعادة لأحد فلا يمكن أن يرده أحد. لا راد لما أعطى ولا معطي لما منع، بل قضاؤه جل وعلا ماضٍ. المراد أن القضاء هنا المراد به إيش؟ القضاء الكوني. وأما القضاء الشرعي هل يُرد؟ نعم يُرد، ولذلك ردّ أهل الشرك قضاء الله عز وجل بعبادته، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} ( ) فردّوا هٰذا القضاء وعبدوا غيره. فقول المؤلف: (لا رَادَّ لِقَضَائِهِ) أي لا راد لقضائه الكوني القدري الخلقي. قال رحمه الله: (وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي لا مؤخّر لحكمه، معنى (مُعَقِّبَ) أي مؤخر، فإذا قضى الله جل وعلا أمراً فإنه لا يؤخر، بل: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} ( ). فإذا قضى الله أجلاً معيّناً في وقت معين فإنه لا يتأخر ولا يتقدم، لا معقب لحكمه، هٰذا من معاني (وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ). وقد وصف الله جل وعلا نفسه بذلك في قوله: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ( ). فإنه لا معقب لحكم الله جل وعلا. كذلك (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي لا متتبع لحكمه، فحكمه نافذ لا يتتبعه أحد وينظر فيه ويتأمل ويرد البعض ويقبل البعض، بل حكمه جل وعلا نافذ. فحكمه الكوني لا شك أنه لا معقب له، ولا رادّ له، ولا متتبع له، بل هو جل وعلا الحكيم الخبير الذي إذا حكم وقضى فإنه لا يُرد قضاؤه، ولا يعقب حكمه سبحانه وتعالى. ثم قال: (وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ). بل الله جل وعلا غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون( ). فالله سبحانه وتعالى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، قد جعل الله لكل شيء قدراً، يسوق الله جل وعلا المقادير إلى المقدورات أي إلى مواضع القدر، فهو سبحانه وتعالى يسوق عباده إلى ما قضاه وقدره، فكل ميسر لما خلق له. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأَمْرِهِ) سبحانه وتعالى. والحكم والقضاء والأمر هنا هو كله في القضاء والحكم والأمر الكوني. وكذلك يمكن أن يقال: لا معقب لحكمه الشرعي من حيث إنه لا يبدل ولا يغير، لكن من حيث الفعل فإنه قد يُرد وقد يعقب عليه وينتقد، لكن هٰذا لا يضر حكم الله جل وعلا بشيء. والظاهر أن الجميع: القضاء والحكم والأمر في هٰذه العبارات كلها تدور على معنى القضاء والحكم والأمر الكوني. ثم قال رحمه الله: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ). أي آمنا بما تقدم مما تقرر في هٰذه العقيدة (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ). أي كل ما قضاه الله جل وعلا وقدّره وشاءه أن ذلك كله بتقديره: فسعادة السعيد بتقديره، وشقاء الشقي بتقديره. والمؤلف رحمه الله ختم هٰذا المقطع بهٰذه العبارة؛ لأنه سينتقل إلى تقرير عقد أو أصل جديد من أصول الاعتقاد وأصول الإيمان، فناسب أن يَختم ما تقدم بهٰذه العبارة تأكيداً وتقريراً لما تضمّنه قوله رحمه الله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). إلى آخره، فيقول: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ) يعني بكل ما ذكرنا من أننا نعتقده (وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ). أي إن اعتقادنا ذلك إنما هو امتثال لله عز وجل، وامتثال لما جاء في كتابه، وما جاءت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك انتقل المؤلف رحمه الله إلى تقرير الأصل الثاني الذي لا يصحّ الإيمان والإسلام إلا به، وهو شهادة أن محمداً رسول الله، فقال: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى). طيب هكذا عندي في هٰذه النسخة بفتح همز (إِنَّ)، والصحيح الكسر؛ لأنه معطوف على قوله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى). ومعلوم أن همز (إن) يُكسر بعد القول وما في معناه. قال رحمه الله: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا) محمد المذكور في هٰذه الجملة هو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، وهو خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تفصيل ما يجب اعتقاده في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، المهم أن محمداً هو نبينا صلى الله عليه وسلم، أتى به بعد ذكر ما يتعلق بالله؛ لأن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو ثاني ما يطلب من المكلَّف، فإن المكلف مطالب بعبادة الله وحده، ومطالب بالإقرار برسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو الأصل الثاني من الأصول التي يُطلب من المكلفين الإقرار بها: الإيمان بالله والإيمان برسله، فإن الإيمان بالرسل من أصول الإيمان التي لا يَقَرُّ الإيمان ولا يستقيم إلا بها. (إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ) عبد من؟ عبد الله جل وعلا، الذي قال المؤلف: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ) فذِكر الضمير هنا عائد إلى ما تقدم في قوله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ ..وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى) عبد الله المصطفى، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية من أعظم ما يوصف به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، خلافاً لما يظنه كثير من الجهال أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية نقص في حقه، ونزول في رتبته، بل وصفه بالعبودية هو أكمل ما يكون، ولذلك ورد وصف الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم. فوصفه بالعبودية في أشرف لياليه صلى الله عليه وسلم، في الإسراء حيث قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا} ( ). وصفه في مقام الدعوة، وهو من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)} ( ). وصفه بالعبودية في مقام المنافحة والمدافعة عنه في مقام التحدي حيث قال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} ( ). وصفه بالعبودية في مقام الإيحاء في ليلة المعراج فقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ( ). وهٰذه أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم ،لم يصفه الله جل وعلا بوصف زائد على هٰذا( )، فدل ذلك على أنه من أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم. وقول المؤلف رحمه الله: (الْمُصْطَفَى) هٰذا فيه بيان ما خص الله عز وجل به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من الاصطفاء، فإن الله اصطفى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. والاصطفاء هو الاختيار، الاصطفاء افتعال من الاختيار، وأصله اصتفى لكن الصاد إذا ولتها التاء- يعني إذا جاءت بعدها التاء- فإنها تنقلب إلى طاء، وهٰذا مطرد: فحيث ما جاءت الصاد وجاء بعدها تاء فإنها تنقلب التاء طاء للمناسبة بينهما، فإن الصاد من حروف الاستعلاء وكذلك الطاء، بخلاف التاء، فالاصطناع أصلها اصتنع، والاصطلام( ) أصلها اصتلم، وهلم جرًّا. المراد أنّ الاصطفاء معناه الاختيار، والاختيار حق لله جل وعلا دون غيره، قال الله سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ( ). فذكر الله جل وعلا فعلين من أفعاله: الخلق وهٰذا لا منازع له فيه. والاختيار وهٰذا الذي وقعت فيه المنازعة من المشركين لرب العالمين. فقال الله جل وعلا: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} . قِفْ على هٰذا، هنا تتم الجملة، ثم قال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} فنفى الخيرة عن غيره ممن نازعه جل وعلا الاختيار {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} ( ). فنزه نفسه عن الشركة في الاختيار؛ وذلك لأن الاختيار حق الله جل وعلا، فالله يخلق ما يشاء ويختار من خلقه ما يشاء. ولذلك اصطفى الله جل وعلا من خلقه زماناً ومكاناً وشخصاً ما شاء الله أن يختار. فمن الأزمان اختار على سبيل المثال الجمعة، اختار شهر رمضان، اختار أشهر الحج، وهٰذا اختيار من رب العالمين، اختار الأشهر الحرم. ومن الأماكن: اختار مكة فاصطفاها بما اصطفاها به، وخصها بما خصها به من الأحكام. الأشخاص: اختار الله عز وجل من خلقه الرسل والأنبياء، فخصهم بخصائص دون غيرهم: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} ( ). فالاصطفاء واقع من الملائكة ومن الناس، يصطفي الله جل وعلا من يرسلهم، فالله عز وجل اصطفى رسوله صلى الله عليه وسلم وخصه بخصائص كثيرة، سيأتي ذكر بعض هٰذه الخصائص في كلام المؤلف رحمه الله. لكن هل هٰذا الوصف أخص أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا. ومن هٰذا نعلم أن الذين لا يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم إلا بقولهم: المصطفى. قال المصطفى، وفعل المصطفى. يقصرون في حق النبي صلى الله عليه وسلم عن رتبته التي أنزله الله إياها؛ لأن الاصطفاء ليس خاصّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو له ولكثير من خلقه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} ( ). فالمصطفَوْن من خلق الله كُثُر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم له من الاصطفاء الغاية، فله أوفر حظ ونصيب من اصطفاء رب العالمين جل وعلا. لكن الذي اختص به ورضيه صلى الله عليه وسلم هو أن يكون عبد الله ورسوله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))( ). فهٰذا أفضل ما يوصف به النبي صلى الله عليه وسلم.ولو أن المؤلف رحمه الله ذكر هٰذا في مقدم أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم لكان أوفق للسنة. قال: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى). فالله اصطفاه من بين الخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم))( ). فهو اصطفاء وراء اصطفاء، خيار من خيار صلى الله عليه وسلم. قال: (وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى). المجتبى من الاجتباء، والاجتباء معناه مطابق للاصطفاء، فالاجتباء والاصطفاء معناهما واحد. قال رحمه الله: (وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى). والمؤلف رحمه الله تدرّج في أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم تدرجاً رُتبياً، فبدأ بالعبودية، ثم انتقل إلى النبوة، ثم انتقل إلى الرسالة. فالعبودية ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم ،بل له ولغيره، والنبوة له ولكثير من الناس، أخص وأرفع هٰذه الدرجات الرسالة، فهي له صلى الله عليه وسلم ولخاصة خلق الله عز وجل، لخاصة البشر (وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى). المرتضى مأخوذة من الارتضاء، وهو مأخوذ من الرضا، والرضا هو معنى يَثبت به للمرضي الخير الكثير، وهو أن يكون ممتثلاً للأمر منتهياً عن النهي مسارعاً إلى الخير. فالمرتضى هو المرضي أو المرضو، والنبي صلى الله عليه وسلم مرضي من رب العالمين، ولذلك خصه سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ بما لم يخص به غيره. وعلى كل حال الرضا فيه معنى زائد على الاصطفاء والاجتباء؛ لأنه اصطفاء واجتباء وزيادة، فقول بعض الشرّاح: إن الاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقاربة في المعنى، فيه نوع نظر، بل الارتضاء فيه زيادة على معنى الاصطفاء والاجتباء؛ لأنه اصطفاء واجتباء وزيادة. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَإِنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ). هٰذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الأنبياء، والخاتَم هو الذي لا يأتي بعده شيء، الذي لا يأتي بعده شيء، فالله عز وجل ختم النبوات بالنبي صلى الله عليه وسلم، دليل ذلك قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ( ). فهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ختم الله به النبوات، فلا نبي بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد جاء تقرير ختم النبوة في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه عديدة: منها ضرب الأمثال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للنبوة فقال: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بناءً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة في زاوية، فجعل الناس يطوفون بهٰذا البناء يقولون: ما أجمله إلا هٰذه اللبنة. فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين))( ). وهٰذا ضرب مثل لختم النبوات به صلى الله عليه وسلم، وهٰذا أحد الطرق التي قرر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ختم النبوة. الطريق الأول ضرب الأمثال. الثاني من الطرق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته في ختم النبوة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بمجيء كذابين فقال: ((سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يدعي- أو كلهم يزعم- أنه نبي، لا نبي بعدي))( ). فتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء في دعوى النبوة دلّ ذلك على أنه خاتم النبيين. مما يستدل به من السنة على ختم النبوة أسماؤه صلى الله عليه وسلم ،فإن من أسمائه (العاقب)، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هٰذا الاسم فقال: ((العاقب الذي لا نبي بعده)). ( ) فلا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ومما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في تقرير ختم نبوته أنه في جملة ما ذكر من الخصائص ذكر ختم النبوة، وذلك في بعض روايات حديث: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي)). ( ) في بعض رواياته: ((أعطيت ستا))، وذكر آخرها: ((وختم بي الرسل)) ( ) فختم الله عز وجل بالنبي صلى الله عليه وسلم الرسل. طيب. لو قال قائل: إن ختم النبوة لا يستلزم ختم الرسالة، فما الجواب؟ الجواب: هٰذا كذب؛ لأنه ما من رسول إلا ولا بد أن يكون نبيّاً، فالرسالة مرتبة أعلى من النبوة، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، فإذا ختم الله بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النبوات دلّ ذلك على أنه خاتم الرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فختم النبوة يدل على ختم الرسالة، فما يدعيه الكذّابون ممن يدعون الرسالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بختم الرسل إنما أخبر بختم النبوات، حجتهم داحضة باطلة واضحة العوار. قال رحمه الله: (وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ). النبي صلى الله عليه وسلم لا ريب أنه إمام الأتقياء، والإمام هو المقدم، ودليل هٰذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له))( ). فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتقى الأمة للرب جل وعلا. فإمام الأتقياء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مقدمهم هٰذا واحد. وهو إمام الأتقياء أيضاً؛ لأنه محل الأسوة لهم، فبه يتأسون وبه يقتدون، وعن فعله يصدرون صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} ( ). وقال الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ( ). فجعله الله إماماً لهم في العمل وفي الأسوة، فهو إمام الأتقياء صلى الله عليه وسلم. إذاً قول المؤلف رحمه الله: (وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ) يشمل معنيين: الإمامة بمعنى التقدم، ودليل ذلك قسم النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بأنه أتقى الأمة. والإمام بمعنى محل القدوة والأسوة والاهتداء بهديه، وهٰذا أدلته كثيرة في الكتاب والسنة. ثم قال رحمه الله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ). ولا إشكال في أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، لكنه لم يرد في ما أعلم وصفه صلى الله عليه وسلم بذلك في السنة، وإنما الذي ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))( ). فأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وورد ذلك مطلقاً حيث قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر في الدنيا وفي الآخرة))( ). وإنما استعمل العلماء أو خص العلماء سيادة النبي صلى الله عليه وسلم للمرسلين؛ لأن صفوة ولد آدم هم المرسلون، صفوة ولد آدم هم المرسلون، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سيدهم، فهو سيد ولد آدم جميعاً. وعندي أن الأحسن أن يوصف صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما وصف به نفسه، فإن قول القائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم. أكمل من كونه سيداً للمرسلين؛ لأنه أوسع معنىً وأوسع مدلولاً، فهو سيد ولد آدم: المسلم والكافر، البر والفاجر، وهٰذا هو المعنى الذي يلمح من قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)). فإن تخصيص السيادة بيوم القيامة؛ لأنه يظهر بها مكانه وفضله، حيث يتخلى الجميع ولا يجدون من يقوم بالشفاعة العظمى إلا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فينبغي أن يقتصر في الوصف على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مهما بالغ الإنسان في إيفاء النبي حقه لا يبلغ ما جاءت به النصوص. ثم قال: (وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). هٰذا فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة، وأنه (حَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي محبوب رب العالمين، فـ(حَبِيبُ) فعيل بمعنى مفعول، فهو محبوب رب العالمين جل وعلا. ولا شك في إثبات محبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أن في هٰذا قصوراً عما ينبغي أن يكون عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن، خليل رب العالمين، والخلة مرتبة أعلى من المحبة، فالخلة هي الغاية والمنتهى في مراتب المحبة، والخلة أخص من مطلق المحبة، وتخصيصها من وجهين: الوجه الأول: أن الخلة تكون محبة لذات الشيء، أي محبة ليست لغرض إلا لكون المحبوب مستحقّاً للمحبة، هٰذا الوجه الأول. الوجه الثاني: أن الخلة تمنع الشركة، فلا شركة في الخلة، بخلاف المحبة فإنها تقبل الشركة. وهٰذان الوجهان واضحان في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً))( ). أي صيرني خليلاً له جل وعلا، فهو خليل الرحمن، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل خلة: لأن الخلة لا تقبل الشركة. ولأن المحبوب سبحانه وتعالى محبوب لذاته. فهٰذا ما اختصت به الخلة. ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الخلة تستلزم كمال العبودية، تستلزم كمال العبودية( )، وهٰذا في الحقيقة ليس لازماً لمعنى الخلة، أو ليس من لوازم الخلة في كل مكان؛ لأن الخلة تكون بين الناس ولا تستلزم أن يعبد الخليل خليله، لكن ما تختص به الخلة عن المحبة هما الوجهان السابقان. بعض العلماء يرى أن المحبة أعلى من الخلة، ويستدلون بحديث ضعيف: ((إبراهيم خليل الله، وأنا حبيب الله ولا فخر)).( ) لكن الحديث لا يصح، وكل حديث في هٰذا المعنى لا يصح، بل الخلة أعلى درجة من المحبة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)).( ) نقف على قوله: (وَكُلُّ دَعْوَى النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوًى). والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.