بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ، فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ، وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ، وَلا يَثْبُتُ الإِيمَانُ إِلاَّ بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ). التعليق: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله في سياق كلامه عن القدر: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ). (هَذَا) يعني ما تقدم تقريره من المسائل فيما يتعلق بالقدر، والذي تقدم تقريره سبْق علم الله جل وعلا للأشياء، وتقدم أيضاً أن القدر سرّ الله في خلقه، وأنه قد منع الله جل وعلا من التعمق والنظر فيه، فإن ذلك من أسباب الخذلان والحرمان والطغيان. ثم قال رحمه الله: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ). (مُنَوَّرٌ) وإنما يحصل النور في القلب من القرآن الكريم، فهو النّور الذي يَفْرقُ الله به بين الحق والباطل. قال الله جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} ( ). فالقرآن نور وروح، فكلّما عظُم في قلب العبد هٰذا النور تبددت الشّبهات، وانقشعت الظلمات، وزالت كل المكدرات. وكلما خَفي هٰذا النور التبس الأمر على الإنسان وضل وأُصيب بالحيرة والوسوسة والتيه والاضطراب والتناقض، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} ( ). والله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والنور الذي أخرجهم إليه هو نور النبوة والقرآن. فمنوّر القلب وهو من اقتصر على ما في القرآن واكتفى بذلك. منور القلب هو الذي لم يجاوز ما جاء في الكتاب والسنة في هٰذا الباب، ولم يدخل في هٰذا الأمر بعقله ولا برأيه الفاسد، بل اقتصر على ما جاءت به النصوص. وقوله رحمه الله: (وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ). أي إدراك ما تقدم درجة الراسخين في العلم، فليس الرسوخ في العلم التعمق فيما منع الله عزوجل العباد من النظر فيه، بعض الناس يظن أن الرسوخ في العلم هو أن يتعمق الإنسان في مثل هٰذه الأمور، وأن يبحث وأن يطيل النظر وأن يكرر الكلام في ما حُظر ومنع من الكلام فيه، ويظن ذلك تحقيقاً ورسوخاً، وهو مزلة ومضلة: مزلة عن الطريق المستقيم، ومضلة يَضِلُّ بها عن سبيل الله القويم. فالواجب على المؤمن، الواجب على من نصح نفسه أن يقتصر على ما في الكتاب والسنة من هٰذا الباب، وأن لا يجاوزه، فإنه نور القلب، وهو درجة الراسخين في العلم. ثم قال رحمه الله في تعليل أن هٰذا هو المطلوب وهٰذا هو الكفاية وأنه لا حاجة بالناس إلىٰ طلب المزيد والنظر والتعمق في مسائل القدر، قال رحمه الله: (لأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ) وهو علم الشريعة، (عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ) وهو علم الشريعة، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القرآن والسنة. (وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ) وهو علم الغيب، ومن جملته علم الأقدار، فإن الله جل وعلا غيّب عن الخلق الأقدار، فلم يطّلع على ما في اللوح المحفوظ، وهو ما رقم فيه وكتب ما كان وما يكون وما سيكون، لم يطّلع على ذلك أحد، لم يُطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبيّاً مرسلاً: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)} ( ). كل هٰذا احتياط، يعني حتى ما يظهره الله جل وعلا للأنبياء من غيبه في غاية الاحتياط لهٰذا الغيب، حيث جعل من يرصد ما يقوله النبي ويُحصي ما يبلغه؛ لئلا يضل أو يزيد أو ينقص. فعلم الغيب علم مفقود، وهو المشار إليه في قوله: (وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ). ثم يقول رحمه الله: (فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ). إنكار علوم الشريعة كفر، فمن قال: إن الله لا يعلم ما الخلق عاملون، فإنه كافر بالله العظيم؛ لأن الله جل وعلا أخبر في كتابه أنه بكل شيء عليم، وأنه يعلم ما الخلق عاملون: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ( )، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ( ) جل وعلا. (وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ). ادعاء علم الغيب كفر: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ( ). يعني لا يعلمون متى يبعثون: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } ( ). فالله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً، فالعلم عنده سبحانه وتعالى كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ( ) سبحانه وتعالى . فمن ادعى علم الغيب كذّب القرآن، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ). ثم قال رحمه الله: (وَلا يَثْبُتُ الإِيمَانُ إِلاَّ بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ). لا إشكال، لا يثبت الإيمان ولا تَقَرُّ القدم على الإسلام إلا بقبول العلم الموجود، قبولاً مجملاً، قال الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ( ) وقوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} هو القبول، فيقبل ذلك قبولاً لا منازعة فيه. يقول رحمه الله: (وَلا يَثْبُتُ الإِيمَانُ إِلاَّ بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ). لا إشكال؛ لأن العلم المفقود لا سبيل إلى تحصيله، فالغيب لا طريق إلى تحصيله إلا من طريق النبوة، فكل من زعم أن له طريقاً يوصله إلى ما غاب وخفي من علم الله عزوجل فقد كذّب بالقرآن، فالواجب عليه أن يترك ذلك، ولا يثبت إيمانه إلا بذلك. ثم قال رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ؛ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ؛ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ). يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ). هٰذا من صلة وتمام البحث في مسائل القدر: الإيمان باللوح والقلم. اللوح هو اللوح المحفوظ، وقد ذكره الله جل وعلا في كتابه في مواضع عديدة منها قول الله جل وعلا: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ( ). فذكره الله جل وعلا بهٰذا الاسم في كتابه، وسماه جل وعلا ذكراً: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} ( ). فالذكر هو ما كتبه الله جل وعلا في اللوح المحفوظ، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -في جواب من سأله عن أول هٰذا الأمر، قال-: ((وكتب في الذكر كل شيء)). فالذكر هو اللوح المحفوظ، وقد كتب الله جل وعلا في هٰذا اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقد حوى كل شيء من أفعال الرب ومن أفعال الخلق، ومن جملة ما في اللوح المحفوظ القرآن العظيم، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في قوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . وأما القلم، فالقلم المراد به القلم الأعظم الأول الذي كتب الله به مقادير كل شيء، فإن الله سبحانه وتعالى خلق القلم، وقال له في أول خلقه: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء فيما رواه أصحاب السنن من حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إن أول ما خلق الله القلمَ -بالنصب- قال له: أكتب. قال: ما أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء، أو: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)).( ) وقد ثبت سبْق الكتابة في أحاديث كثيرة، بل في آيات من الكتاب الحكيم: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} ( ). أي من قبل أن نخلقها، هٰذا من القرآن. وأما السنة، ففي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)).( ) فالله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء، وهٰذه الكتابة هي الكتابة العامة الشاملة، ثم تلاها كتابات دون هٰذه الكتابة في المنزلة والمكانة والعظم، وهي متنوعة، ولها أقلام، كل كتابة لها قلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به مما جرى ليلة المعراج أنه بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام، وصريف الأقلام صوت جريها وكتابتها، وهٰذه الأقلام هي التي تكتب قدر الله اليومي، كما قال الله جل وعلا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} ( ) . يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، يحيي ويميت، يدبر أمر مملكته جل وعلا لا إله إلا هو، فقول المؤلف رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ). اللوح هو الذي كُتب فيه المقادير، والقلم هو الذي كتب بأمر الله ما يكون . قال: (وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ) أي كُتِب. وهٰذا إيمان مجمل، وهو من مقتضيات ومن لوازم القدر؛ لأن من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله كتب كل شيء، ولا يتم إيمان أحد إلا بالإيمان بهٰذه المرتبة. يقول رحمه الله: (فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ). الخلق ليسوا خلق زمانه، بل هم الخلق كلهم منذ أن خلق الله الخلق إلى آخر من يخلق الله جل وعلا، لو اجتمع هؤلاء كلهم على شيء كتبه الله تعالى أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، لا إله إلا الله. وهٰذا يبين لك عظيم قدرة الرب سبحانه وتعالى، وأنه لا مبدل لخلقه ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن ينفعوك بأمر لم يكتبه الله لك ما نفعوك، ولو اجتمعوا كلهم على أن يردوا عنك قضاء الله في أمر كتبه الله عليك ما ردوه، وهٰذا قد ضمنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الوصية العظيمة، في وصيته لابن عباس :((احفظ الله يحفظك))، كان من جملة ذلك أن قال له: ((واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).( ) رفعت الأقلام أي فرغ من التقدير السابق، وجفت الصحف، الصحف المقصود بها ما رقم في اللوح المحفوظ، أو ما استنسخته الملائكة من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب من اللوح المحفوظ ما يكون بالنسبة لكل مخلوق، قال الله جل وعلا: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} ( ). والاستنساخ هنا هو الكتابة قبل الوقوع، فإن الاستنساخ نسخ، والنسخ يكون من منسوخ، والمنسوخ هو ما في اللوح المحفوظ تكتبه الملائكة، ثم يُجري الله جل وعلا قضاءه وقدره، ثم يقابل ما وقع مما قدره الله من فعل المخلوق على ما في هٰذه النسخ، ثم يثبت ما فيها من خير ومن شر، فقوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} المراد به الكتابة، كتابة الملائكة من اللوح المحفوظ، لا الكتابة التي يكتبها الملائكة على الإنسان كقوله تعالىٰ: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} ( ). فهٰذه كتابة سابقة. ثم قال رحمه الله بعد أن قرر هٰذا الكلام: (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). القلم الذي جف ما هو؟ القلم الأول السابق الذي كتب الله به مقادير كل شيء. (جفّ) أي انقطعت كتابته، وقد ذَكَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم هٰذا أصحابه في مواضع عديدة، فلما استأذنه أبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الاختصاء أعرض عنه، ثم كرر مرة ثانية وثالثة قال: ((جف القلم بما أنت لاقٍ))( ) كما في صحيح البخاري. أي إن الأمر قد فرغ منه سواء فعلت هٰذا أو لم تفعل، فما كتبه الله عليك لا محالة أنه سيدركك. قال المؤلف رحمه الله: (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ). ما أخطأ العبد يعني ما تجاوزه إلى غيره، (وَمَا أَصَابَهُ) أي ما ناله ونزل به (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ) أي لم يكن ليتجاوزه إلى غيره.وهٰذا من كلام الصحابة رضي الله عنهم ، وورد مرفوعاً، ونُقل عن جماعة منهم: إنك لو أنفقت مثل جبل أحد ذهباً في سبيل الله لم يتقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. نُقل هٰذا عن عبادة بن الصامت وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم . وهٰذا فيه عظيم منزلة القدر وصدق ما قاله ابن عباس: القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض توحيده. ثم قال رحمه الله: (وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ، وَلا مُزِيلٌ وَلا مُغَيِّرٌ، وَلا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الإِيمَانِ، وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، وَالاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ( )، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ( )). يقول رحمه الله فيما يجب عقده في مسائل القدر،يقول: (وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ). سبق تقرير هٰذا بأدلته، وأن الله جل وعلا تقدّم علمه الخلق، وأنه علم بهم قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى ، ثم قال: (فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا) أي قدر ما علمه (تَقْدِيرًا مُحْكَمًا) أي متقناً، فالإحكام يطلق على الإتقان، قال الله جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} ( ). أحكمت أي أتقنت، فالله جل وعلا أتقن هٰذا القدر إتقاناً عظيماً يدل على عظيم قدره جل وعلا وعظيم قدرته، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعريف القدر قال: القدر قدرة الله؛ لأن من كذب بالقدر فقد كذب بقدرة الله جل وعلا، القدر قدرة الله سبحانه وتعالى . يقول رحمه الله: (فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا) أي متقناً (مُبْرَمًا) أي لا ناقض له، فما أبرم هو الشيء الذي أحكم وعقد بما لا نقض له، ولذلك قال رحمه الله بعد أن وصف حكم الله وتقديره بالإبرام: (لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ) أي يزيل الحكم بالكلية، فلا أحد يقدر أن يرد قدر الله جل وعلا، بل قدر الله نافذ؛ لنفوذ قدرته ومشيئته سبحانه وتعالى ، فهو ذو القدرة البالغة والمشيئة النافذة سبحانه وبحمده لا إله إلا هو. (لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ) أي لا مؤخر، فلا يؤخر قدر الله، فإذا جاء أجل الله لا تأخير ولا تقديم، لكل أجل كتاب، أي مكتوب لا يتجاوز هٰذا ولا يتعداه: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا } ( ) .فالله سبحانه وتعالى لا يؤخر ما قضى وقدر، ولا يستطيع أحد أن يؤخر ما قدره الله جل وعلا وقضاه. (وَلا مُزِيلٌ وَلا مُغَيِّرٌ). (لا مُزِيلٌ) أي لا رافع، فهو في معنى لا ناقض (وَلا مُغَيِّرٌ) أي مبدل، ويشمل التبديل التخفيف، ويشمل التبديل التحويل، ويشمل التغيير التأخير، فهو أعم من قوله: (وَلا مُعَقِّبٌ). يعني: لا يمكن أن يحول ولا يزول، فهم -أي الخلق- لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، لا يملكون كشف ما قدره الله ولا تحويله. قال رحمه الله: (وَلا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ ). أي لا ناقص عما كتب في اللوح المحفوظ وما سبق به العلم، ولا زائد، بل كل ذلك بتقدير محكم مطابق ،كما قال الله سبحانه وتعالى : {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} ( ). فكل زيادة في الأعمار،ر وكل نقص فيها،سواء في أعمار العموم أي جنس بني آدم أو أعمار الخصوص، يعني عمر الفرد من حيث الزيادة والنقص إلا في كتاب، فإنه لا مبدل لحكمه جل وعلا، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير. قال رحمه الله: (مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ)، (لَيْسَ فِيهِ) أي في حكمه وقدره (نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ، وَلا مُزِيلٌ وَلا مُغَيِّرٌ، وَلا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ). ثم قال رحمه الله: (وَذَلِكَ) أي ما تقدم من وجوب الاعتقاد والعلم بأن الله سبحانه وتعالى علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وقدّر ذلك قبل خلقهم، وكتب ذلك قبل خلقهم، يقول رحمه الله: (وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الإِيمَانِ، وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ). أي من أصول الإيمان والمعرفة بالله سبحانه وتعالى ، فبهما يكمل للعبد الإيمان، قال رحمه الله: (وَالاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ). أي ذلك من الاعتراف بتوحيد الله وربوبيته . ومن هٰذا نعلم يا أخي أن من تمام التوحيد -توحيد الربوبية- أن يؤمن الإنسان بالقدر، فمن ضل في مسألة القدر فإنه لم يحقق الإيمان بتوحيد الربوبية؛ لأنه من توحيد الربوبية الإيمان بأن الله خالق، وأنه مالك، ولابد للخلق والملك من قدرة ومشيئة وعلم. قال رحمه الله: (كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ( )). خلق كل شيء فقدره تقديراً محكماً، وتأكيد التقدير هنا بالمصدر توكيد للمعنى وأنه بقدر، وأنه ما من شيء مخلوق إلا بقدر الله جل وعلا، قال سبحانه وتعالى : {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ( ). أمر الله ما معناه؟ أمر الله هل هو قوله أو خلقه؟ أمر الله خلقه، أي مأموره سبحانه وتعالى وهنا فائدة: أن المصادر التي تضاف إلى الله عزوجل قد تضاف على جهة الصفة ويقصد مسمى الصفة، وقد يرد المصدر ويراد به المفعول، مفعول تلك الصفة. فقول الله عز وجل: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} ( ). المشار إليه هل هو خلق الله الذي هو صفته، أو خلق الله الذي هو مخلوقه؟ المخلوق، فأطلق المصدر على مفعول الصفة، فيطلق المصدر في لغة العرب كثيراً ويراد به المعمول، المفعول لتلك الصفة، كما قال تعالىٰ: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} ( ). هل الذي أتى هو صفة الله عزوجل ، أو مفعول الصفة؟ مفعول الصفة {أَتَى أَمْرُ اللّهِ} أي أتى مأمور الله، أي مخلوق الله الذي قضاه سبحانه وتعالى ، ومن ذلك هٰذا الذي في هٰذه الآية قوله تعالىٰ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ( ). أي كان مأمور الله سبحانه وتعالى ، أي ما أمر به سبحانه وتعالى ، وقضى بخلقه قدراً مقدوراً، أي قدراً محدداً لا يتجاوز ما حُدد ولا يتعدى ما قضى سبحانه وتعالى . وبهٰذا ينتهي ما ذكره المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع من كون الإيمان بالقدر من لوازم الإيمان وأصول المعرفة، ومن لوام الاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته. ثم قال رحمه الله: (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا، وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا). نعم،ذكر رحمه الله في ختام مبحث القدر في هٰذا المقطع -وهو سيعيد بعض ما يتعلق بالقدر- يقول: (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا). (خَصِيمًا) فعيل بمعنى فاعل، يعني مخاصم، فويل له، ويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، فخاصم قدر الله كما فعل إبليس عليه من الله ما يستحق من اللعن، حيث قال: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} ( ). فخاصم الله جل وعلا في قدره، فهؤلاء الذين خاصموا الله في قدره بأن أنكروه أو كذبوه أو جعلوه حجة على ترك الشريعة ومخالفة الأمر، (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا). (ويل) كلمة وعيد، قيل: إنها واد في جهنم، وهٰذا ليس بصحيح، لا يثبت هٰذا بسند صحيح، وإنما (ويل) كلمة عذاب فهي كلمة إنشاء وإخبار: إنشاء أي دعاء، فإذا قلت: ويل. أنت تدعو بالويل على هـٰذا. وإخبار أي إنك تخبر بأنه استحق الويل. وهٰذا ليس بغريب في اللغة أن تأتي كلمة وتفيد معنيي الجملة؛ لأن الجمل إما أن تكون إنشائية أو خبرية، ويل تضمنت هذين المعنيين: المعنى الإنشائي والمعنى الخبري. طيب. قال: (وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ) يعني في القدر (قَلْبًا سَقِيمًا). وهٰذا فيه أنه لا يسلم الإنسان من غوائل البحث في القدر إذا كان صاحب قلب سقيم ملئ بالمعارضة وعدم التعظيم للنصوص. ثم قال: (لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهَمِهِ ) أي ظنه الكاذب وتوهمه الفاسد (فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا) ولا يمكن أن يصل إلى شيء، سرّاً كتيماً، كتيماً فعيل بمعنى مفعول، أي سرّاً مكتوماً لم يظهره الله سبحانه وتعالى لأحد، كما قال سبحانه وتعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)} ( ). ثم قال: (وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ) أي بما قال فيه وقد استصحب القلب السقيم والنظر الكليل والوهم الفاسد (وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ ) يعني في القدر (أَفَّاكًا) أي كذاباً (أَثِيمًا) أي مأثوماً، فأثيم فعيل بمعنى مفعول، أي مأثوم، أي قد حصّل الإثم من رب العالمين. ثم قال رحمه الله: (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ). هٰذا إن شاء الله تعالى نقرؤه في الدرس القادم. شرح العقيدة الطحاوية لفضيلة الشيخ الدرس الحادي عشر www.almosleh.com بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ. وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ. مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الإِحَاطَةِ خَلْقَهُ. وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا. وَنُؤْمِنُ بِالْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ). بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله: (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) كما جاء بذلك الكتاب والسنة، والعرش والكرسي خلقان عظيمان من خلق الله جل وعلا. أما العرش فهو سرير المُلك، هكذا هو معنى العرش في لغة العرب، وهو من أعظم خلق الله جل وعلا، اصطفاه الله سبحانه وتعالى وخصه دون سائر الخلق بأن أضاف إليه الاستواء، فقال الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ( ) في عدة مواضع من الكتاب الحكيم. ووصف العرش بأنه عظيم، ووصفه بأنه مجيد، ففي قراءة: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ (15)} ( ) وصف للعرش، والقراءة الثانية: {ذُو الْعَرْشُ الْمَجِيدُ (15)} وصف للرب جل وعلا. فالله سبحانه وتعالى عظم شأن هٰذا العرش، وخصه بما خصه به من أنه استوى عليه جل وعلا استواءً يليق بذاته، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. وهٰذا العرش هو أول ما خلق الله جل وعلا؛ لأنه سابق على خلق السمٰوات والأرض، وسابق لكتب القلم الذي كتب الله جل وعلا به مقادير كل شيء، فإنه دلت السنة على أن العرش سابق للتقدير، والتقدير إنما كان وقت خلق القلم، فإن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. فهو منذ خلقه ابتدأ الكتابة، والعرش سابق لذلك ،كما في حديث عمران بن حصين، حيث ذكر الخلق -خلق السمٰوات والأرض- وذكر فيه قال: ((وكتب في الذكر كل شيء، ثم استوى على العرش)).( ) فدل ذلك على أن العرش موجود قبل خلق السمٰوات والأرض، وقبل أن يكتب في الذكر كل شيء، وهٰذا الذي عليه جمهور أهل العلم. وقد ذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى أن أول الخلق القلم. ولكن الصحيح ما عليه الأكثرون من أن خلق العرش سابق على خلق القلم، والعرش أعظم المخلوقات، أعظم خلق الله فيما نعلم العرش. ثم قال رحمه الله: (وَالْكُرْسِيُّ). والكرسي جاء ذكره في القرآن الحكيم في قول الله تعالىٰ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضَ} ( ). واختلف العلماء في حقيقة الكرسي: فمنهم من قال: إن الكرسي هو العرش. والصحيح أنه ليس العرش، بل هو شيء غير العرش؛ لورود التفريق بين الكرسي والعرش في عدة نصوص من الكتاب والسنة. أيضاً قال آخرون في الكرسي: إنه موضع قدمي الرب جل وعلا، فهو بين يدي العرش، وجاء هٰذا عن ابن عباس موقوفاً، ومعلوم أن مثل هٰذا لا يقال بالرأي، ولذلك قبله جماعة من العلماء وأثبتوا له حكم الرفع، ما لم يكن نقله عن أهل الكتاب، فإن ابن عباس له رواية عن أهل الكتاب وإن كان ينكر الأخذ عنهم رضي الله عنه ،كما في صحيح البخاري، لكن المشهور أنه أخذ عنهم، فلعل ما أنكره هو الإقبال على ما عندهم والأخذ بما يقولون واعتماد ما يقولون. على كل حال من قال: إن العرش موضع القدمين. استند في هٰذا إلى أثر ابن عباس. وقال آخرون: إن الكرسي خلق عظيم من خلق الله عز وجل غير العرش، ولم يقيدوه بأنه موضع القدمين ولا بغير ذلك. وهٰذا القول الأخير هو قول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وذلك لأن الأثر الوارد عن ابن عباس ضعيف. فمن صححه عمل بما جاء في الأثر من أن الكرسي موضع القدمين، كما ذكر ابن القيم رحمه الله في نونيته. ومن رأى ضعف الأثر لم يستند إليه في إثبات هٰذا الوصف، وقال: الكرسي خلق من خلق الله عظيم الله أعلم به، واقتصر على هٰذا. ولاشك على كل حال أن العرش والكرسي حق -كما قال المؤلف رحمه الله- لثبوت ذلك بالنصوص. ثم قال رحمه الله: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ). يشير بهٰذا رحمه الله إلى استواء الله عزوجل على العرش، فإن الله سبحانه وتعالى استوى على العرش، واستواؤه ثابت بالكتاب والسنة ثبوتاً لا ريب فيه ولاشك، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر باستوائه على العرش في مواضع عديدة من كتابه الحكيم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ( ). تكررت في ستة أو سبعة مواضع من الكتاب الحكيم،( ) وجاء ذلك أيضاً في حديث عمران: ((ثم استوى على العرش)). وهو في الصحيحين. ( ) فاستواء الله على العرش ثابت لا مرية فيه ولا شك، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الاستواء على ما جاء في الكتاب والسنة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فقالوا: الرحمـن على العرش استوى كما قال الرب جل وعلا. وأنكر هٰذا من أنكره من المتكلمين، على رأسهم الجهمية الذين أنكروا استواء الله عزوجل على عرشه، وتبعهم على هٰذا جماعة من مثبتة الصفات كالأشاعرة، فأنكروا الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة، وأثبتوا الاستواء بمعنى الاستيلاء، قالوا: استوى على العرش أي استولى عليه، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وتركوا المعنى المتبادر الذي فسره السلف وبينوه إلى معنى غير ثابت في اللغة، بل في ثبوته في اللغة خلاف: هل يطلق استوى على استولى أو بمعنى استولى؟ فإن العلماء مختلفون في ذلك. والصحيح أن الاستواء معناه العلو والارتفاع، وقد جمع ابن القيم رحمه الله في نونيته كلام أهل العلم في تفسير الاستواء فقال: قد حُصلت للفارس الطعان ولهم عبارات عليه أربع تفع الذي ما فيه من نكران وهي استقر وقد علا وكذلك ار ....................................... وكذاك قد صعد الذي هو رابع أي رابع المعاني، فالمعاني أربعة: ارتفع وعلا وصعد واستقر. ثم اعلم أن الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة لا يلزم عليه نقص؛ لأن كلام الله حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما كان حقّاً فلا يمكن أن يلزم عليه لازم باطل مهما كان وكيف ما كان، وإنما اللوازم الباطلة التي يلزم بها أهل الباطل أهل السنة والجماعة إنما جاءت من الأفهام السقيمة والآراء الباطلة والأقوال المنحرفة والآراء الضالة، فلما كان أهل السنة والجماعة، لما كان سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم سالمين من هٰذه البدع كانوا على الصراط المستقيم، يعملون بما في الكتاب من الهدى والحق ويقبلون به فكانوا في روح ونور: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء} ( ). فالقرآن روح ونور، وأعظم الروح والنور ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم لم تدخلهم هٰذه البدع التي حصل بها التحريف والتضليل والانحراف عن الصراط المستقيم، وكل من سار على طريقهم فله من الروح وهو الحياة والنور وهو الهداية بقدر ما يستمسك بالكتاب المبين. والمؤمن إذا عمل بهٰذا وفق إلى خير كثير، وصرف عنه شر كثير، أما إذا تبع هٰذه الأقوال الباطلة والآراء المنحرفة خفت صوت الحق في قلبه، وخبا نور الهدى من فؤاده، ووقع في أنواع الضلال والردى. ثم قال رحمه الله -في الجواب عما ألزم به أهل الباطل أهل الحق من إثبات صفة الاستواء، قال-: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ) سبحانه وبحمده، فهو الغني الحميد، لا حاجة به إلى شيء من خلقه، وإنما استواؤه تعظيم واصطفاء ، فهو دال على عظمته سبحانه وتعالى ، وهو المتصف بصفات الكمال: لله المثل الأعلى، وهو اصطفاء واختيار لهٰذا المخلوق من سائر الخلق حيث أضاف الاستواء إليه، والله جل وعلا لا معقب لحكمه يخلق ما يشاء ويختار، فمن جملة ما اختاره هٰذا العرش، اختاره وخصه بهٰذه الخاصية العظيمة أن الرحمن جل وعلا استوى عليه، لكن لا تتوهم أنه محتاج إلى العرش، بل هو الغني عن كل شيء، فالغنى وصف له ذاتي سبحانه وتعالى ، كل شيء مفتقر إليه، لا غنى بالخلق عنه سبحانه وتعالى ، وهو الغني الحميد جل وعلا، ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} ( ). فكل خلقه مفتقرون إليه، هو الصمد سبحانه وتعالى الذي تذل له الرقاب وتنزل به الحوائج، مع كمال غناه سبحانه وتعالى، فقول المؤلف: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ). أي من سائر الخلق؛ لئلا يتوهم متوهم من إثبات صفة الاستواء افتقار الله جل وعلا للعرش، ولله المثل الأعلى، الآن السماء فوق الأرض، هل هي محتاجة في استقرارها إلىٰ الأرض؟ لا، فلا، يلزم من علو الشيء على الشيء في خلق الله أو استوائه عليه أن يكون محتاجاً إليه، فاقطع هٰذه الأوهام الباطلة، وإياك أن تصغي إلى شبه المشبهين، فإنهم يوقعون في الردى. قال رحمه الله: (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ). هٰذا بيان لاستغنائه سبحانه وتعالى ، فإنه محيط بكل شيء، محيط بكل شيء لعظمه وسعته وكبره سبحانه وتعالى ، فهو الكبير المتعال، وهو الذي أحاط بكل شيء، بل قال سبحانه وتعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } ( ) .فأحاط بخلقه علماً، وأحاط بخلقه قدرةً سبحانه وتعالى ، فهو الأول الآخر الظاهر الباطن. الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. وبهٰذا ثبت له جل وعلا الإحاطة الزمنية والإحاطة المكانية سبحانه وبحمده، فالله جل وعلا (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ). أي وهو عليه، مستعلٍ على كل شيء سبحانه وتعالى، عالٍ على كل شيء، ولاشك أنه هو العلي العظيم سبحانه وبحمده، ولذلك ختمت أعظم آية في كتاب الله بهذين الوصفين بإثبات: صفة العلو. والعظمة. فعلو الله ثابت على كل شيء. وفوقيته سبحانه وتعالى ثابتة على كل شيء. والعلو والفوقية الثابتة له سبحانه وتعالى هي علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، كل هٰذه المعاني الثلاثة ثابتة للرب جل وعلا. وأهل التحريف والانحراف لم يثبتوا علو الذات، بل قالوا في كل ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات العلو لله عز وجل: إنه علو القدر أو علو القهر. وهٰذا ثابت للرب جل وعلا، لكن لا نعطل المعنى الثالث، وهو صفة كمال للرب سبحانه وتعالى . قال رحمه الله: (وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الإِحَاطَةِ خَلْقَهُ). صحيح أعجز عن الإحاطة خلقه، فخلقه مهما بلغت قُدَرُهم وقدراتهم لا يتمكنون من الإحاطة بالرب جل وعلا، لا الملائكة ولا غيرهم، كلهم لا يتمكنون من الإحاطة به سبحانه وبحمده، فهو الكبير المتعال، وهو المحيط بكل شيء، قال الله جل وعلا: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} ( ). وهٰذا في شيء مما اتصف به وهو العلم، لا يتمكنون من الإحاطة بشيء من ذلك. وقال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} ( ). أي لا يتمكنون من الإحاطة بعلمه سبحانه وتعالى ، فنفى الله عزوجل الإحاطة بشيء من صفاته والإحاطة به جل وعلا، وأيضاً نفى الإحاطة الحسية، وذلك بإدراك البصر فقال سبحانه وتعالى : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} ( ). لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سبحانه وبحمده، فنفى الله جل وعلا أن تدركه الأبصار، وذلك لعظمه وكماله وأنّ خلقه لا يتمكنون من الإحاطة به. وعلى هٰذا يحمل ما جاء في الأثر من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم في تفسير الآية، قال رضي الله عنه: لو أن الخلق كلهم الملائكة والإنس والجن والشياطين صفوا صفّاً واحداً منذ خلقهم الله عزوجل إلى آخرهم ما أحاطوا بالله جل وعلا، مع تعددهم واختلاف قدراتهم وكثرتهم لا يحيطون بالرب جل وعلا، وقد ورد هٰذا الأثر مرفوعاً، إلا أنه لا يصح مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. المراد أن الخلق عاجزون عن أن يحيطوا بالرب سبحانه وتعالى ، وإذا كان كذلك فالواجب عليهم أن ينزهوا الله جل وعلا عن أن يتوهموا الإحاطة به، أو العلم بحقائق ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى. ثم قال رحمه الله: (وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا). يقول رحمه الله: (نقُولُ) أي في عقدنا وما ندين الله به وما نتعبد له سبحانه وتعالى به: (إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً). اتخذ أي اصطفى وصير إبراهيم خليلاً له سبحانه وتعالى ، وفي هٰذا إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى ، إثبات أنه يحب وأنه يحَب؛ لأنه إنما اصطفاه وصيره خليلاً له لكونه يحبه، ففي هٰذا إثبات أنه سبحانه وتعالى يحب عباده وعباده يحبونه. وقد أنكر الجهمية أن يحب الله عزوجل عباده أو أن يحبوه، فقالوا: لا يُحِب ولا يُحَب، الله لا يحرمنا فضله، لا يُحِب ولا يُحَب قالوا: لماذا قلتم كذا ؟ قالوا: لأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، وإنما يحب الإنسان ما يناسبه، فالمحبة تكون بين المتناسبين ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق، ضلوا ضلالاً مبيناً حيث أنكروا ما أثبته الله في كتابه، فإن الله أثبت أنه يُحِب من عباده وأنه يُحَب منهم، قال سبحانه وتعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ( ). وفي غير ما آية قال الله سبحانه وتعالى :يحب: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ( )، {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ( )، {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ( ). والآيات في إثبات المحبة كثيرة، في محبة الله لعباده. وأما محبتهم، محبة العباد لله فهي ثابتة أيضاً في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، وفي قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} ( ). وهٰذا فيه إثبات المحبة من الله لعباده ومن العباد للرب جل وعلا. فيقال لهؤلاء الضالين: أي مناسبة أعظم من مناسبة الذي خلقك ورزقك ومن كل خير أمدك؟ فما بك من نعمة فمنه سبحانه وتعالى ، إن مناسبة الخلق أعظم مناسبة؛ لأنه من أعظم النعم التي ينعم بها على الإنسان أن الله خلقه وأوجده من العدم ورزقه وأمده بالخيرات وعافاه وأصلح شأنه وتولى أمره، فهو الرب جل وعلا الذي بلغ بالإنسان غاية الكمال، فتدرج به في مدارج الفضل والإحسان إلى أن بلغه درجة الكمال في الخلق ودرجة الكمال في الاهتداء، حيث دله وهداه الصراط المستقيم، كما قال سبحانه وتعالى : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} ( ). فمن ضل فإنما يضل على نفسه، لكن الله جل وعلا دل الناس على سبيل النجاة، فأعظم مناسبة هي ما بين الخالق والمخلوق، لكن {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} ( ) نعوذ بالله من الخذلان. وضل في هٰذه الصفة -صفة المحبة- ضل فيها أيضاً مثبتة الصفات حيث قالوا: إن الله لا يحب المحبة التي يثبتها أهل السنة والجماعة، إنما محبة الله إرادته الثواب؛ لأنهم لا يثبتون الصفات الاختيارية، الصفات الفعلية لله جل وعلا، والمحبة صفة فعلية؛ لأنها معلقة بالمشيئة، فمن شاء الله أحبه ومن شاء لم يحبه. والصحيح ما عليه أهل السنة والجماعة من إثبات هٰذه الصفة العظيمة للرب سبحانه وتعالى . قال رحمه الله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). هٰذا فيه إثبات صفة الكلام لله عزوجل ، وقد أثبت الله جل وعلا هٰذه الصفة إثباتاً واضحاً بيّناً حيث أكد ذلك بالمصدر: (تَكْلِيمًا) فهٰذا فيه تأكيد هٰذه الصفة، وقد ثبتت هٰذه الصفة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولذلك يثبت الكلام مثبتة الصفات الذين يخالفون أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات، لكن إثباتهم للكلام فيه انحراف. على كل حال هم في الجملة أثبتوا صفة الكلام، لكنه كلام غير الذي يثبته أهل السنة والجماعة للرب، فإنهم أثبتوا كلاماً نفسانيّاً، لا الكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة ويعقله أهل اللغة. وقد تقدم شيء من الكلام على هٰذه الصفة. المقصود أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه أنه كلم موسىٰ، وهٰذا التكليم هو غاية ما خص الله سبحانه وتعالى به بني البشر، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر مراتب الإيحاء فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} هٰذا الذي جرى لموسى {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} ( ). وهٰذه ثالثة المراتب التي يكون بها الوحي ويكون عليها الوحي، موسى الذي جرى له هو أن الله سبحانه وتعالى كلمه؛ ولذلك لم يذكر موسى بوجه التفضيل إلا وذكر الله امتنانه عليه بالكلام، فالذي خصّ الله به موسى وصف لم يدركه أكثر الخلق، بل ما حصل له من هٰذه الصفة لم يدركه أحد، فهو من خصائصه، قال الله تعالىٰ: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} ( ). فتأكيد التكليم بالمصدر فيه تأكيد الكلام، وفيه أنه تكليم عظيم اختص الله به موسى دون غيره من الرسل. نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلمه الله في ليلة المعراج من غير رسول -أي من غير واسطة-، لكن مع هـٰذا الذي اختص به موسى فوق ذلك. ومعلوم أن إثبات الفضل في شيء معين لا يلزم منه التفضيل من كل وجه، فثبوت هٰذه الفضيلة لموسى لا يلزم منها أن يكون أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وهو أفضل الرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أفضل أولي العزم. فالذي اختص به موسى أمران: الأمر الأول: أن الله ابتدأ الوحي إليه بالتكليم مباشرة، كما قال سبحانه وتعالى : {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} ( ) فذكر المناداة، وقد جرت لغيره: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} ( ) فقد جرت المناداة لغيره، لكن قال: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وهٰذا لم يحصل لأحد، وهٰذا مما اختص الله به موسىٰ. فالذي خص الله به موسى أنه ابتدأ الوحي إليه بالتكليم المباشر، بخلاف غيره من الرسل، فإن ابتداء الرسالة إليهم كان بالواسطة، بالرسول جبريل . الثاني مما اختص الله به موسىٰ في التكليم: أنه أعطاه من التكليم ما لم يعط غيره، واذكر قوله تعالىٰ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} . فإن هٰذا لم يذكر لغيره، فما خص الله به موسى من التكليم في صفة التكليم أمر لم يدركه أحد من النبيين، ولذلك قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)-ثم قال:- وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} ( ). فبعد أن ذكر الله جل وعلا الإيحاء الذي اشترك فيه النبيون والمرسلون ذكر ما اختص به موسىٰ ، فقال بعد ذكر الإيحاء العام: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . فعلم من هٰذا أن ما خص الله به موسى مختلف عما أدركه أولئك حتى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنتم أدركتم أن ثبوت الفضيلة الخاصة لا يلزم منه التفضيل من كل وجه، فإن الله عزوجل يصطفي من خلقه ما يشاء: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} ( ). ثم قال: (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ). يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ). الإيمان بالملائكة من أصول الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ( ). فذكر الله جل وعلا بعد الإيمَان به وباليوم الآخر الإيمَان بالملائكة، فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمَان، قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته)). فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان. والذي يتضمنه الإيمان بالملائكة أن نؤمن بأنهم خلق من خلق الله، خلقهم جل وعلا من نور، وأن الله سبحانه وتعالى اصطفاهم فأسكنهم السمٰوات كما قال جل وعلا: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَٰوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} ( ). فهم أهل السمٰوات، واصطفاهم الله جل وعلا بأن جعل منهم رسلاً بينه وبين الخلق من بني آدم، كما اصطفى جبريل ، واصطفى منهم أيضاً من أوكل إليه شؤون الخلق :كالمطر، وكرصد أحوال الناس وما إلى ذلك، عددهم لا يعلمه إلا الله. نؤمن بمن ذكره الله منهم تعييناً كجبريل وميكال وإسرافيل. ونؤمن بمن ذكره الله جل وعلا منهم على وجه العمل والوظيفة، كقوله سبحانه وتعالى : {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} ( ). وكملك الموت ومن يعينه في قبض الأرواح. ونؤمن بمن ذكر على وج