بسم الله الرحمـٰن الرحيم (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ. نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلا نُقَنِّطُهُمْ. وَالأَمْنُ وَالإِيَاسُ يَنْقُلانِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لأَهْلِ الْقِبْلَةِ). التعليق: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فيقول رحمه الله: (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ). تقدم أن هٰذا الكلام ينفي فيه المؤلف رحمه الله عقْد المرجئة الغلاة الذين يقولون: لا يضرّ مع الإيمان ذنب مهما كان. ويعرفون الإيمان بأنه المعرفة، ولاشك أن هٰذا من أردى الأقوال في تعريف الإيمان، وفي هٰذا تجرئة لكل صاحب عصيان أن يقع فيما شاء من مخالفة الملك الديان؛ لأنه إذا كان لا يضر مع الإيمان ذنب فالإيمان لا يتأثر ولا ينقص ولا يتغير بما يرتكب الإنسان من الذنوب وما يواقع من السيئات، فإن هٰذا يحمل العاصي على الاستمرار في عصيانه، والتمادي في خروجه عن الصّراط المستقيم، وتقدم الكلام على هٰذا. ثم قال المؤلف رحمه الله: (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المحسنون من أهل الإيمان هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن قصروا فهم يعبدون الله جل وعلا موقنين بأنه يراهم، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعريف الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).( ) والمراد أنهم عملوا بالطاعات وانتهوا عن المعاصي والسيئات الظاهرة والباطنة، هؤلاء نرجو لهم (أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما يكون من التقصير والخطأ، فإنه مهما بلغ الإنسان في الإحسان فلا بد وأن يكون عنده تقصير وإخلال، مهما كان، حتى الأنبياء، حتى الرسل يكون منهم شيء من التقصير. ولذلك لا يأمن أحد على نفسه، ولا يجوز أن يأمن من مكر الله سبحانه وتعالى ، كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، بل يجب عليه أن يلاحظ ما معه من التقصير، وأن يراقب الله جل وعلا، وأن يخاف أن يؤاخذه سبحانه وتعالى بذنبه وسيئاته. يقول رحمه الله: (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ). يعني الله جل وعلا، أن يعفو عنهم ما كان من التقصير، والعفو يتضمن الستر والتجاوز والصفح، فيسترها عليهم، يستر عليهم ما كان من الذنوب، ويعفو ويتجاوز ويصفح عما كان من الذنوب. قال: (وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ). يدخلهم الجنة برحمته لا بعملهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((واعلموا أنه لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)).( ) وهٰذا يوجب للإنسان عدم الاغترار بما يكون معه من الأعمال، مهما زكت ومهما صلحت ومهما كثرت ومهما اجتهد في إتقانها، فإنه إن لم تدركه رحمة الله جل وعلا فلا فلاح له ولا نجاح، ومن توفيق الله ورحمته أن يوفّق الله جل وعلا العبدَ إلى العمل الصالح، فلا نجزم لأحد بفوز، ولا نقول: إنه من أهل الجنة، كما قال رحمه الله: (وَلا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ). أي لا نأمن أن يغير الله حالهم، ولا نأمن أن يعاقبهم الله جل وعلا، فقد يغير الله حال المحسن إلى الإساءة، وقد يؤاخذ الله جل وعلا من ظاهره الإحسان بسيئ عمله، فيوبق عمله، ومعلوم أن من أعمال القلوب ما لا يظهر للناس يكون سبباً لحبوط العمل مهما زكا وحسن، فينبغي لأهل السنة أن لا يأمنوا على أحد، ومن ذلك أن لا يأمنوا على أنفسهم، فإنه من أمن على نفسه مكر الله جل وعلا فإنه داخل في قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} ( ). وهٰذا نفي الأمن إلا من الخاسرين: { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} . أتى في تقرير ذلك بالنفي والإثبات الدال على أن كل من أمن من مكر الله فهو خاسر، ومكر الله جل وعلا يدرك العبد بسيئ عمله فـ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} ( ). فإذا تمادى الإنسان في معاصيه ولو كانت صغيرة، أو أنه اغترّ بعمله الصالح وأعجب به ورأى لنفسه فضلاً على الناس وارتفاعاً وعلوّاً ما يأمن أن يؤاخذه الله بما في قلبه، فيفضحه ويسيء خاتمته، وهٰذا معنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -في بعض الروايات: فيما يرى الناس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار. فالواجب على المؤمن أن يحذر من الأمن من مكر الله، وأن لا يغتر بحاله الحاضرة، بل يكون على وجل مما يستقبل. قال: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ). أي لا نقول: إن فلاناً منهم في الجنة بعينه، (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) يعني: على وجه التعيين، أما على وجه الإجمال فإننا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، فقوله: ولا نشهد لهم أي على وجه التعيين، أما على وجه الإجمال فإن أهل الإيمان وأهل الإحسان في جنات النعيم،كما جاء ذلك في آيات كثيرة، أثبت الله جل وعلا فيها الجنة لأهل الإيمان. ومما يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) الشُّهود لهم بموجب الجنة، فمن قُتل في سبيل الله لا نشهد له بأنه شهيد؛ لأننا إذا شهدنا بأنه شهيد فقد شهدنا له بالجنة، ولذلك عقد البخاري رحمه الله باباً في صحيحه فقال: باب لا يقال: فلان شهيد؛ لما في ذلك من الشهادة له بأنه من أهل الجنة، بل الواجب أن لا يُشهد له بموجب الجنة. ومما يلاحظ على هٰذا العبارة وهي قول المؤلف: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) أنه أطلقها، وهٰذا يشمل كل أحد، وهٰذا ليس بصحيح، فإننا نشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، فنشهد للعشرة المبشرين بالجنة، ونشهد لكل من بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أنه من أهل الجنة، ولذلك كانت عبارة الإمام شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية رحمه الله أتقن من عبارة المؤلف هنا، فإنه قال: (وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وهٰذا معناه في مفهوم المخالفة أنهم لا يشهدون لمن لم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهٰذا أحسن من قولنا: (وَلا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ). والذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كثر، وقد جمعهم بعض طلبة العلم من الأحاديث التي فيها الشهادة لهم بالجنة، ومن أبرز من شهد لهم بالجنة العشرة المبشرون بالجنة، وكذلك ثابت بن قيس بن شماس، وكذلك أمهات المؤمنين، وغيرهم كثير. المراد أننا لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقيد هٰذا الإطلاق بهٰذا القيد. ثم قال رحمه الله: (وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ). الضمير يعود إلى من؟ للمسيء من المؤمنين؛ لأنه قال: (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) والجملة معطوفة على ذاك، والمعنى: ونستغفر للمسيء من المؤمنين، والمسيء: إما بترك ما وجب عليه من الطاعات، أو بفعل ما نهاه الله عنه من المعاصي والسيئات، بهٰذا تكون الإساءة. (وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ). أي نطلب من الله المغفرة لمسيئهم، (وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ) أي نخاف أن يدركهم ما ذكره الله جل وعلا في حق العصاة والمسيئين. (وَلا نُقَنِّطُهُمْ) أي ولا نؤيِّسهم من رحمة الله، ولا نقطع طمعهم في فضله ورحمته، بل نقول كما قال الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ( ). وهٰذا يشمل كل ذنب صغير أو كبير، الشرك فما دونه: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لكن الشرك لا بد فيه من التوبة، ولا بد فيه من الإقلاع، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} ( ). فالشرك لا يغفره الله سبحانه وتعالى إلا بالتوبة منه والإقلاع عنه، وأما ما عدا ذلك من الذنوب فإنه تحت المشيئة: إن شاء غفر الله لصاحبه، وإن شاء أخذه به. والمراد أننا نرجو لأهل الإحسان الخير، ونخاف على أهل الإساءة من المؤمنين أن يدركهم العذاب وما ذكره الله للمسيئين. المؤلف رحمه الله لم يذكر الشهادة بالنار، والشهادة بالنار كالشهادة بالجنة: لا نشهد لأحد بعينه أنه في النار، إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من أهل النار، كأبي جهل، وفرعون، وأبي لهب وغيرهم ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم في النار. ومن عدا ذلك من الناس ولو كان من الكافرين فإننا لا نشهد له بعينه أنه في النار، فإذا مات كافر من الكفار لم نشهد له بعينه أنه من أهل النار؛ لأننا ما ندري ما الذي ختم له، وهٰذا الذي يظهر من اعتقاد أهل السنة والجماعة. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكافر إذا مات على الكفر، وأدركنا عدم إسلامه بأن استمر على كفره إلى موته فإنه يشهد عليه أنه من أهل النار، واستدلوا لذلك بحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حيثما مررت بقبر عامري أو قرشي فبشره بالنار)). وفي رواية: ((حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار)) ( ). وهٰذا الحديث في ثبوته نظر، وإذا نظرنا إلى الكتاب والسنة، نجد أنهما لم يشهدا بالنار في غالب الموارد إلا على الأوصاف لا على الأشخاص، فلا نشهد على أحد معين بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، لكن نقول: ظاهر حاله أنه في النار، الظاهر لا إشكال فيه، لكن الشهادة التي هي القطع والجزم لا تكون إلا عن علم، والعلم لا يكون إلا ممن لا ينطق عن الهوى، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم قال رحمه الله: (وَالأَمْنُ وَالإِيَاسُ يَنْقُلانِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ). الأمن هو عدم الخوف والخشية، والإياس هو قطع الأمل، والقنوط من الرحمة. وهٰذان داءان متقابلان: الأمن يحمل على الاسترسال في المخالفة والمعصية، وعدم العمل بالطاعة. والإياس يحمل على اليأس وقطع الرجاء، والقنوط من رحمة الله. وكلا هذين مما جاء التحذير منه. أما الأمن من مكر الله فقد قال الله جل وعلا في إنكار من أمن مكره، قال سبحانه وتعالى : {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} ( ). وحذر فقال: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ( ).متين أي شديد، وهٰذا يوجب الحذر من كيد الله ومكره. وأما اليأس الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وَالإِيَاسُ) فقد جاء أيضاً ما يدل على النهي عنه، وذلك في قوله: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (86)} ( ). وقال سبحانه وتعالى : {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56)} ( ). فوصفهم الله عزوجل بالكفر، ووصفهم بالضلال، ونهى أهل الإيمان وأهل الإسلام أن ييأسوا من رحمته فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ( ).والنهي يقتضي التحريم. فالأمن والإياس محرمان في شريعة الإسلام، ولكن هل ينقلان عن ملة الإسلام بمعنى أنه ينتقل إلى الكفر؟ هٰذا فيه تفصيل، فليس كل أمن ينقل عن ملة الإسلام، ولا كل يأس ينقل عن ملة الإسلام، بل منه ما ينقل ومنه ما لا ينقل، فاليأس التام من رحمة الله هٰذا ينقل، وكذلك الأمن التام ينقل. أما ما كان دون ذلك، كما يعرض لبعض أصحاب الذنوب، أو يعرض لأصحاب الشهوات، فإنه سيئة وخطيئة وذنب لكن لا ينقل. ومما يدلك على أن اليأس من رحمة الله لا ينقل في كل أحواله وموارده أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه كما ذكرنا لكم في الدرس السابق أصابه شدة يأس من جراء استباحته ما حرم الله من الخمر، فكتب له عمر رضي الله عنه ما كتب مما ذكر الله في أول سورة غافر، ثم قال: فلا أدري أي ذنبيك أعظم، استباحتك الخمر، أو يأسك من رحمة الله؟ فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من رحمة الله مهما عظم ذنبه، فإنه جل وعلا تتلاشى في جانب مغفرته وعفوه ورحمته وكرمه وبره وإحسانه الذنوب،فينبغي للمؤمن أن لا يتعاظم ذنباً أن لا يغفره الله. ولا يعني هٰذا أن يستسيغ المعاصي والسيئات وأن يهونها، فتكون كالذباب يقف ويقع على أنفه ويقول به هكذا ويطير، بل ينبغي أن تكون في خاطره وباله، ويكون منها على حذر ووجل، فإن الله إذا أدرك العبد بسيئته أهلكه، ولو كانت صغيرة. ولذلك جاء التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم عن الذنوب الصغير والجليل، فقال: ((إياكم ومحقرات الذنوب)). محقرات أي ما يحقره الإنسان وما يراه سهلاً ((فإنهن يجتمعن على الرجل فيهلكنه)). ( ) نعوذ بالله من الخذلان، ومن خلّى الله بينه وبين ذنوبه وأخذه بها فلا تسأل عنه، فإنه الهلاك الواضح المبين، لكن نسأل الله أن يعاملنا بعفوه، وأن يعيننا على طاعته. إذاً هاتان السوءتان مما يحصل التأثيم للإنسان فيهما، وقد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون دون الكفر. والأمن هو أصل شبهة المرجئة، واليأس هو أصل شبهة الخوارج. فالمرجئة لما أمنوا من مكر الله استرسلوا في المعاصي، وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وأما من قابلهم وهم الخوارج فرأوا أن أدنى ما يكون من الذنوب سبب للكفر والخروج عن الصراط المستقيم، فجعلوا الذّنوب مكفرة، وكفروا الناس بالزنى وشرب الخمر وسائر الكبائر، وهٰذا من قنوطهم، وانظر إلى ما تؤول إليه البدع القلبية: فإن الأمن واليأس من بدع القلوب وانحرافاتها، فتوقع الإنسان في أنواع من الضلال، لا يسلم إلا إن سلمه الله سبحانه وتعالى واستمسك بالكتاب والسنة. ثم قال رحمه الله: (وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لأَهْلِ الْقِبْلَةِ). سبيل أي طريق، والحق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد جاء بالهدى ودين الحق. (وَسَبِيل الْحَقِّ بَيْنَهُمَا) أي بين هاتين الضلالتين: بين الأمن واليأس، فإنه ينبغي للمؤمن أن يستصحب فضل الله ورحمته وواسع كرمه وعظيم جوده: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} ( ). وينبغي أيضاً أن يستصحب أنه شديد العقاب،كما قال الله جل وعلا: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)} ( ). فإذا أدرك العبد ذلك مجموعاً في قلبه حمله على الطاعة وترك المعصية، والتعبد لله عزوجل على أكمل حال؛ لأنه يرجو فضل الله بإحسانه، ويخاف عقابه في إساءته، وهٰذان لا يجتمعان للإنسان إلا بالرجاء والخوف، وهو ما يشير إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وَسَبِيل الْحَقِّ بَيْنَهُمَا) أي بين الرجاء والخوف، فإذا جمع الإنسان بين هذين وُفق إلى الخير، وسلم من الشر، ووقاه الله شر الاعتماد على هذين. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الخوف والرجاء أيهما يغلب؟ على أقوال: أصحها أنه يختلف هٰذا باختلاف حال الإنسان، وإن كان الأصل أن يستوي الخوف والرجاء. إذاً عندنا الأصل أن يستوي الخوف والرجاء، كما قال سبحانه وتعالى : {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)} . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل لما دخل عليه في حال الاحتضار، قال: ((كيف تجدك؟)) قال: أجدني أرجو رحمة الله وأخاف ذنبي. قال: ((ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هٰذا إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو)).( ) فدل ذلك على أن الأصل استواء هذين، ولكن قد يحتاج الإنسان إلى تغليب جانب من هذين لعارض، لحال أو لظرف اقترن، مثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)).( ) وهٰذا يدل على تغليب جانب الرجاء، ولكن من إحسان الظن بالرب أن يعلم أن الرب يؤاخذ على السيئة، فإن من ظن أن الله لا يؤاخذ على السيئة لم يحسن الظن بربه، بل اغتر، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} ( ). قال أحد المستهترين لما قرئت عليه هٰذا الآية، قال: غرني به كرمه. ولا ينفعه، فإن الكريم أخبر بأنه شديد العقاب. فالواجب على المؤمن أن يسير إلى الله عزوجل بهذين الجناحين: الخوف والرجاء، فإذا جاء ما يقتضي تغليب جانب منهما، كحال العاصي إذا غلب الرجاء استمر في عصيانه، نقول: غلب الخوف حتى تنتهي عن معاصيك. وكحال الطائع فإنه إذا غلب الخوف قد يبلغ درجة اليأس، فنقول: غلب الرجاء في هٰذا الحال، لكن الأصل هو استواء هذين في قلب العبد، ولذلك ورد عن بعض السلف كالإمام أحمد وغيره أن الخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي طائر، ومعلوم أن جناحي الطائر متقابلان تماماً، ولو حصل نقص في أحد الجناحين لاختل طير الطير، بل لسقط. ثم قال رحمه الله: (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ). يقول رحمه الله: (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ). (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ) يعني من دائرة أهل الإسلام والإيمان (إِلاَّ بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ) وهٰذا الإطلاق فيه نظر؛ لأنه معلوم أن الكفر كفران: كفر اعتقادي، وكفر عملي. الكفر الاعتقادي منه كفر الجحود. نعم، نقول: الكفر كفران: كفر جحود، وكفر عمل. وكفر الجحود هو أن يجحد الإنسان ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء به، فكل من جحد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كافر، مهما كان هٰذا المجحود به، يعني من قال: إن السواك لم تأتِ به الشريعة، هٰذا جحد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكفر بهٰذا ولو كان المسواك لا يسقط من فيه. فكفر الجحود هو جحود كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، جحود أي شيء ثبت أو علم أنه قد جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاعتقاد، في الخبر، في العمل، يعني في الخبر والعمل، اعتقاداً وعملاً. والقسم الثاني: كفر العمل، وهٰذا على درجتين: كفر يضاد الإيمان، ويخرج به صاحبه من دائرة أهل الإسلام. وكفر دون ذلك لا يخرج صاحبه عن الإيمان. مثال الأول: الاستهانة بالمصحف، الاستهزاء بآيات الله، السب لله ورسوله، الشرك الأكبر بأنواعه، كل هٰذا من الكفر العملي، فالإنسان يكفر به ولو لم يجحد، وهٰذا مما يدلك على أن العبارة هنا ليست مستقيمة؛ لأن قوله: (وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ بِجُحُودِ) دل ذلك على أنه إذا لم يجحد لم يخرج، فإذا لم يجحد تحريم السجود للأصنام وسجد للصنم هل يكفر على هٰذا العبارة أو لا يكفر؟ لا يكفر؛ لأن المؤلف حصر الكفر في الجحود فقط، وهٰذا فيه نظر. والقسم الثاني من كفر العمل وهو ما ينقص الإيمان، لكنه لا يخرج به صاحبه عن دائرة الإسلام، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).( ) لاحظ جعل السباب فسوقاً، والفسوق خروج عن الإيمان أو ليس بخروج؟ خروج؛ لأن الفاسق أصله الخارج، لكنه ليس خروجاً يحصل به الكفر للإنسان، يعني لا يخرج به عن ملة الإسلام، فلا يسلب الفاسق المِلي اسم الإيمان بالكلية. وكذلك القتال قتال أهل الإسلام كفر، لكنه هل هو الكفر المخرج عن الإسلام؟ الجواب: لا؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ( ). فجعلهم من أهل الإيمان مع وجود الاقتتال، فقتال المسلم كفر، لكنه كفر دون كفر، كما ورد عن ابن عباس وغيره من سلف الأمة. والشاهد أن الكفر منه ما يضاد الإيمان فيخرج عن الإسلام، ومنه ما لا يضاد الإيمان فيكون صاحبه مسلماً معه إيمان، لكنه ناقص الإيمان، وإذا أدرك الإنسان هٰذا علم أن كلام المؤلف رحمه الله فيه خلل. ولعل المؤلف قال هٰذا بناء على تعريف الإيمان الذي سار عليه المؤلف ومرجئة الفقهاء، فهٰذا العبارة فيها نظر بيّن. أظن عندكم تعليق للشيخ عبد العزيز: قال رحمه الله تعالىٰ: هٰذا الحصر فيه نظر، فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل في الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود لأسباب كثيرة بيَّنها أهل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك طعنه في الإسلام، أو في النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزاؤه بالله ورسوله أو بكتابه، أو بشيء من شرعه سبحانه؛ لقوله تعالىٰ: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ( ) الآية. ومن ذلك عبادته للأصنام أو الأوثان أو دعوته الأموات والاستغاثة بهم وطلبه منهم المدد والعون ونحو ذلك؛ لأن هٰذا يناقض قول: لا إله إلا الله؛ لأنها تدل على أن العبادة حق لله وحده، ومنها: الدعاء والاستغاثة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فمن صرف منها شيئاً لغير الله من الأصنام والأوثان والملائكة والجن وأصحاب القبور وغيرهم من المخلوقين؛ فقد أشرك بالله، ولم يحقق قول: لا إلـٰه إلا الله، وهٰذا المسائل كلها تخرجه من الإسلام بإجماع أهل العلم، وهي ليست من مسائل الجحود، وأدلتها معلومة من الكتاب والسنة، وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم، وهي لا تسمى جحوداً، وقد ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، فراجعها إن شئت. وبالله التوفيق. نعم، هٰذا مضمون ما تقدم من المؤاخذة على هٰذا العبارة.