بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ. وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ. وَالإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلازَمَةِ الأَوْلَى. وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ). التلعيق: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله وغفر له: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). هكذا عرّف المؤلف رحمه الله الإيمان. والمؤلف أبو جعفر الطحاوي رحمه الله قال في أول عقيدته: إنه نسج هٰذه العقيدة وألّفها وفق ما يعتقده فقهاء الملة: الإمام أبو حنيفة، وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن. والمشهور عن أبي حنيفة رحمه الله أنه خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان وفي بيان حقيقته، وهٰذه هي المسألة الوحيدة التي تعدّ من الأصول ووقع فيها الخلاف بين أئمة أهل السنة والجماعة، على أن العلماء مختلفون في حقيقة هٰذا الخلاف: هل هو خلاف حقيقي يترتّب عليه أحكام، أم أنه خلاف لفظي؟ فمن العلماء من جعل الخلاف بين أبي حنيفة ومن سلك سبيله من مرجئة الفقهاء –هكذا يسميهم العلماء- من مرجئة الفقهاء وبين ما عليه أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان، جعلوا الخلاف في ذلك خلافاً لفظيّاً لا يترتب عليه أثر، وقبل أن نخوض في حقيقة الخلاف هل هو خلاف لفظي أو خلاف معنوي؟ نفهم أولاً ما هو الخلاف. عقد أهل السنة والجماعة الذي اشتهر عنهم واتفقوا عليه ولا خلاف بينهم في القرون المفضلة: أن الإيمان قول وعمل، وقد تواترت المقالات والأقوال عن أهل السنة والجماعة في هٰذا، فهم يجعلون الإيمان قولاً وعملاً: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح. فأهل السنة والجماعة عرّفوا الإيمان بهٰذا التعريف المفصل الذي يشمل كل ما هو من خلال الإيمان وشعبه وصفاته وأخلاق أهله:فمنها ما يكون في القلب،ومنها ما يكون في اللسان،ومنها ما يكون في الجوارح. المؤلف رحمه الله هنا اقتصر في تعريف الإيمان على ذكر (الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). ولم يذكر دخول الأعمال في مسمّى الإيمان. ومعلوم أن الإيمان اسم شرعي، والأسماء الشرعية قد جاء الكتاب والسنة ببيانها بياناً واضحاً، فلا يُتلقى تعريف هٰذه الأسماء، ولا الوقوف على حقيقتها إلا من الكتاب والسنة، وقد دلّ الكتاب والسنة على أن الإيمان يكون منه عقد، ويكون منه قول، ويكون منه عمل. وأشمل ما ورد في الاستدلال حديث خصال الإيمان، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة -وفي رواية( ): بضع وستون شعبة-، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). وإذا تأملت هٰذه الأعمال وجدت أنها قول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعلاها لا إله إلا الله))، وعمل في قوله: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))( )، فجعل إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وقال: ((والحياء شعبة من الإيمان))، والحياء عمل قلبي في الأصل من أعمال القلوب، فدل ذلك على أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال داخلة في الإيمان، ومن طالع الكتاب والسنة، من طالع نصوص الكتاب والسنة النبوية أيقن إيقاناً جازماً أن العمل من الإيمان، وأنه يطلق في الشرع الإيمان على الأعمال، وأنها لا تخرج عن مسمى الإيمان، ومن أخرجها فقد خرج عما دلت عليه النصوص. المؤلف رحمه الله ومرجئة الفقهاء أخرجوا العمل عن الإيمان، فليس عندهم العمل داخلاً في مسمى الإيمان، بل هو خارج عنه، ولذلك قال: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ) يعني أن يقرّ الإنسان بما هو من الإيمان، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). الجنان المراد به القلب، وسمي بهٰذا لأنه مستور مخفي، فهو مشتق من مادة جنّ، وهي دائرة على معنى الخفاء والستر، والصواب إضافة العمل بأن يقول: والعمل بالأركان. حتى يتم تعريف الإيمان. وهل هٰذا الخلاف خلاف حقيقي -أي يترتب عليه أحكام- أم أنه خلاف لفظي؟ من العلماء من قال: إنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع يتفق على أن مرتكب الكبيرة مذموم، وأنه مهدد بالعقوبة، وأن الله قد يدخله النار، وأن من أهل الكبائر من يدخل النار، فهم يوافقون أهل السنة والجماعة في هٰذا. ومنهم من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي يترتب عليه اختلاف معنوي: فعلى قول مرجئة الفقهاء الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى قول أهل السنة والجماعة الإيمان يزيد وينقص، وزيادته بالأعمال، وأما أولئك فليس عندهم زيادة ولا نقص، كما سيأتي، وهٰذا يدل على أن الخلاف حقيقي. أهل السنة والجماعة يرون جواز الاستثناء في الإيمان، يعني أنا مؤمن إن شاء الله، وأما على قول مرجئة الفقهاء فلا يجوز الاستثناء. وهٰذا من المسائل التي جعلت من العلماء من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي. والصواب ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع من كلامه، ومن ذلك ما ذكره في شرح العقيدة الأصبهانية، وهو أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة منه ما هو لفظي ومنه ما هو حقيقي. وبهٰذا يجتمع القولان: القول بأن الخلاف حقيقي، والقول الآخر بأن الخلاف لفظي، والنزاع بين أهل السنة والجماعة لفظي وبين مرجئة الفقهاء. والصواب ما ذكره من تفصيل، وهو أنه لفظي في جوانب وحقيقي في جوانب. ولذلك قال: هو لفظي في كثير من المسائل، أو كثير منه لفظي وكثير منه حقيقي، وقد قرر شيخنا رحمه الله الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أن الخلاف حقيقي بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء، وأنه ليس لفظيّاً، في تعليقه على شرح الطحاوية لابن أبي العز، حيث قال ابن أبي العز: إن الخلاف لفظي كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع، فإنه أطلق أن الخلاف لفظي في بعض المواضع، وأطلق أن الخلاف حقيقي في بعض المواضع، وفصل فقال وبين أنه خلاف كثير منه حقيقي وكثير منه لفظي، الإشارة إلى أنه يترتب عليه في بعض المسائل أثر،وفي بعض المسائل لا أثر له. ثم قال رحمه الله: (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ). وهٰذا من تمام الإيمان، بل هو الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد، فالإيمان يا إخواني ينقسم إلى قسمين: إيمان مجمل. وإيمان مفصل. المؤلف رحمه الله هنا أشار إلى الإيمان المجمل، وهو الإيمان بجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ) يعني من العمل والخبر (كُلُّهُ حَقٌّ). أي ثابت لا مرية فيه نصدق به ونؤمن، ونقر بما جاء به صلى الله عليه وسلم وننقاد، ولا يتم الإيمان إلا بهذين، فليس الإيمان مجرد التصديق للأخبار، بل لابد من الانقياد، فالإيمان إقرار مع انقياد، وليس إقراراً مجرداً ولا تصديقاً مجرداً، على أن من عرف الإيمان بالتصديق تعريفه منقوص وقاصر، فإن الإيمان ليس تصديقاً مجرداً، بل هو تصديق خاص، حتى إذا قلنا بأنه في اللغة يطلق الإيمان على التصديق فهو تصديق خاص، ولا نريد أن ندخل في هٰذا؛ لأنه في الحقيقة بحث يطول، إنما نشير إلى أن تعريف الإيمان، تعريف من عرف الإيمان بأنه التصديق غلط، والصواب أنه تصديق خاص، أو نقول والعبارة الأصح أن نقول: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان والانقياد. يقول رحمه الله: (وَالإِيمَانُ وَاحِدٌ). هٰذا من ثمار ما تقدم، فبناء على ما قال من أن: (الإِيمَانُ: هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ). كل من حصل منه هٰذا فقد حقق الإيمان، فالإيمان عند مرجئة الفقهاء واحد، وهٰذا هو أصل إشكال المختلفين في مسألة الإيمان، المشكلة في مسألة الإيمان، في مسألة الأحكام والأسماء -يعني الأسماء مسلم كافر فاسق منافق، والأحكام كونه في الجنة وكونه في النار- المشكلة في هٰذا الباب هي نشأت عن الخطأ في تصور الإيمان، فكل الضلاّل في هٰذا الباب على اختلاف ضلالهم يعتقدون أن الإيمَان واحد، وإذا كان واحداً فإما أن يثبت جملة وإما أن ينخلع منه الإنسان جملة، لا يمكن أن يتبعض، وأهل السنة والجماعة عندهم الإيمان شعب وخلال،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمَان بضع وسبعون شعبة، فليس شيئاً واحداً، ومن قال: إن الإيمان شيء واحد. خالف دلالة الكتاب والسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عن بعض أهل الإسلام، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)). ( ) فهٰذا نفي للإيمان: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ( )، ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قالوا: من؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)).( ) والأحاديث في هٰذا كثيرة تدل على انتفاء الإيمان بسبب الإخلال ببعض الأعمال، أو الوقوع ببعض المعاصي والسيئات. فالنفي هنا ليس نفياً للإيمان بالكلية، ولو نفينا الإيمان بالكلية لخرج الإنسان عن دائرة الإسلام، وكان من أهل الكفر كما تقول الخوارج، أو كان في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة، فليس بمؤمن وليس بكافر. ولكن الإيمان ليس واحداً كما قال المؤلف، ولذلك المرجئة قابلوا بدعة أولئك الذين أخرجوا من أخرجوا من الإسلام بسبب ارتكاب بعض السيئات فقالوا: من كان مؤمناً مقرّاً بلسانه مصدقاً بجنانه فإنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل ولو كان يزني صباح مساء، يسرق صباح مساء، قلبه ممتلئ بالكبر والحقد والحسد والغل وسائر الآفات، هٰذا مؤمن كامل الإيمان، لماذا؟ لأن الإيمان واحد، فإيمان أعصى العصاة من أهل الإسلام كإيمان جبريل. وهٰذا لا شك أنه كذب وخطأ فالإيمان يزيد وينقص، فليس واحداً كما قال المؤلف رحمه الله، بل الإيمان يزيد وينقص، ويقول: (وَأَهْلُهُ) أهل الإيمان (فِيه) في الإيمان (سَوَاءٌ) يعني مستوون، عندي: (فيه) - نسخة، وفي نسخة ثانية: (وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) أي في ثبوته وحصوله، المقصود بأصله يعني في ثبوته وحصوله، فهم فيه سواء. وهٰذا كذب وضلال وخطأ، فإن الإيمان يزيد وينقص، ولذلك كان من عقد أهل السنة والجماعة أن الإيمَان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن هٰذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان. قال رحمه الله: (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلازَمَةِ الأَوْلَى). (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الإيمان (بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى). الخشية هي الخوف المقترن بالمحبة والوجل، والخشية خوف مع علم، ولذلك لا يوصف به إلا أهل العلم، قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ( ). بخلاف الخوف، فإن الخوف قد يكون ممن لا علم عنده، يخاف وليس عنده علم، أما الخشية فلا تكون إلا من أهل العلم. قال: (وَالتُّقَى) والمقصود بالتقى أي تقوى القلب لا تقوى الجوارح؛ لأن تقوى الجوارح ليست داخلة في الإيمان، فلا يكون فيها تفاضل بين أهل الإيمان، وهو يشير بهٰذا إلىٰ أن عمل القلب داخل في مسمى الإيمان، ولكن هٰذا قصر للعمل، فالعمل الذي يدخل في الإيمَان هو عمل القلب وعمل الجوارح، وهم عندهم أن أصل الإيمان وهو التصديق في أهله سواء، وهٰذا ليس بصحيح، حتى التصديق يختلف فيه الناس، الآن أنت تصدق بالخبر إذا جاءك من زيد، ويزيد تصديقك بالخبر إذا جاءك من عمرو، كلاهما تصديق أو ليس بتصديق؟ في الحالين أنت مصدق، لكن تصديقك لخبر زيد أقل من تصديقك لخبر عمرو؛ لما تعرف عن عمرو من الدقة والتحري والتثبت أكثر من زيد، فالتصديق يختلف، ولذلك قوله رحمه الله: (وَالإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) ليس بسديد، حتى لو سلمنا أن التصديق واحد في الجميع، لكنه واحد متفاضل، لا شك أنه من حيث أدنى المراتب التي يحصل بها الإيمان والإسلام الجميع فيه متفق، لكن هناك تفاوت وتفاضل بين تصديق هٰذا وتصديق ذاك، وبين إيمان هٰذا وإيمان ذاك، فالمؤلف رحمه الله قصر التفاضل في أعمال القلب، والواقع أن التفاضل بين أهل الإيمان يكون في أعمال القلوب وفي أعمال الجوارح. وقوله رحمه الله: (وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى). أي مخالفة ما تهواه النفوس وتشتهيه، وسمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في المهلكات ويوقعه في المرديات، قال: (وَمُلازَمَةِ الأَوْلَى) أي ملازمة ما ينبغي أن يلازمه الإنسان. والصحيح ما ذكرنا من أن التفاضل يكون بعمل القلب ويكون بعمل اللسان، فمن قال: سبحان الله. أفضل ممن لم يقل سبحان الله، من خشي بقلبه أفضل ممن لم يخش الله جل وعلا بقلبه، من زاد ركعة أو سجدة أفضل ممن نقص، ولذلك في أذكار الصباح والمساء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل التسبيح، قول: سبحان الله وبحمده مائة مرة في اليوم، قال: ((ولا يفضله إلا من قال مثل ما قال أو زاد عليه)). ( ) فدل ذلك على أن الزيادة في القول زيادة في الفضل، والأدلة في هٰذا كثيرة، الأدلة على زيادة الفضل بزيادة العمل كثيرة جدّاً، ولكن هؤلاء لما وقع عندهم الإشكال أخرجوا الأعمال حتى لا يحتج عليهم الخوارج وأشباههم من الوعيدية فيوقعون الكفر بمن لا يستحقه. قال: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ). ولاشك أن أهل الإيمان أولياء الرحمـٰن؛ لأن الله جل وعلا قال في ذكر الولاية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)} ( ). اللهم اجعلنا منهم. فهؤلاء هم أولياء الله، فقول المؤلف: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ) لا إشكال في هـٰذا، ولكنهم في الولاية مختلفون، فولاية زيد تختلف عن ولاية عمرو، والاختلاف في الولاية باختلاف تحقيق الإيمان والتقوى، فبقدر ما يحقق الإنسان من الإيمان والتقوى بقدر ما يفوز بولاية الله عزوجل ، والولاية أصلها دائر على القرب، والمعنى أنه كلما ازداد العبد طاعة لله جل وعلا ازداد منه قرباً، كما قال الله جل علا في الحديث الإلـٰهي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)). فيبلغ القرب من رب العالمين ما ذكره في آخر هٰذا الحديث: ((حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذني لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه)).( ) وهٰذا يدل على عظيم ما يبلغه المؤمن من الدرجة إذا حقق القيام بالفرائض وتقرب إلى الله عزوجل واستزاد بالنوافل، أن الله جل وعلا يكون معه ونصيره: ((فبي يبصر وبي يسمع وبي يمشي وبي يبطش)). أي إنه يمشي على نور من الله جل وعلا في كل فعل وترك، ويبلغ من المحبة أن الرب جل وعلا يتردد في إيصال ما يسوء العبد ويكرهه وهو الموت، ولكن لما كان لا بد منه فإنه لا محيص عنه: لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ) أي أكثرهم طاعة (وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ). ولاشك أن أتبع الناس للقرآن هو أقرب الناس إلى الرب جل وعلا، وأحقهم ولاية، وأكرمهم عند الله جل وعلا، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خُلقه القرآن كان أتقى الناس لرب العالمين، وأكرم الخلق على الله جل وعلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، ومعنى أن القرآن خلق النبي صلى الله عليه وسلم أي إنه) يعمل به وإنه يمتثله وإنه يترجمه ويعمل بما جاء فيه. فيجب على المؤمن إذا أراد الكرامة أن يسلك هٰذا السبيل، وهو طاعة الله عزوجل واتباع القرآن، فإن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته. بعد هٰذا ذكر المؤلف رحمه الله الإيمان المجمل، فذكر أصول الإيمان، قال رحمه الله: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤُوا بِهِ). يقول رحمه الله في بيان الإيمان الواجب: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى). هٰذه أصول الإيمان وهي ستة، لا يصلح إيمان أحد ولا يستقيم إلا بتحقيقها. الإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وبربوبيته وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، ويمكن أن نقتصر على الثلاثة ولا نقول: الوجود؛ لأن من لازم الثلاثة إثبات الوجود، فنقول: الإيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته وإلهيته. الإيمان بالملائكة تقدم الكلام عليه، الإيمان بالكتب كذلك، الرسل كذلك، اليوم الآخر هو أن تؤمن بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، هٰذا هو الإيمان المجمل فيما يتعلق باليوم الآخر: أن تؤمن بجميع ما أخبر الله به ورسوله مما يكون بعد الموت، فإن الموت هو ابتداء مراحل الآخرة، فإن القبر أول منازل الآخرة، فإذا آمن العبد بما أخبر الله جل وعلا به أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فإنه قد آمن باليوم الآخر، وهٰذا هو الإيمان المجمل. أما الإيمان المفصل أن تؤمن بكل ما بلغك عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون في البرزخ، ومما يكون يوم القيامة، ومما يؤول إليه الناس من جنة أو نار. قال رحمه الله: (وَالْقَدَرِ). تقدم الكلام على الإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله جل وعلا: أولاً علم كل شيء. وكتبه. وشاءه. وخلقه. هٰذه الأربع المراتب يكمل بها الإيمان بالقدر. فالإيمان بالقدر هو أن تؤمن بأن الله عالم بكل شيء قبل وجوده. وأنه كتبه في اللوح المحفوظ. وأنه سبحانه وتعالى شاءه. وأنه جل وعلا خلقه، فلا شيء يخرج عن تقدير الله جل وعلا. والإيمان بالقدر هو أن تؤمن بأن كل ما وقع فهو بعلم الله وبكتابته وبخلقه ومشيئته سبحانه وتعالى، وقد تقدم الكلام على هٰذا. يقول رحمه الله: (وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ). أي بهٰذه الأصول، ولا يحصل الإيمان لأحد إلا بالإيمان بهٰذه الأصول، فهٰذه الأركان هي أركان الإيمان وأصوله التي لا يقوم الإيمان إلا بها. قال رحمه الله: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). والتفريق بين الرسل هو التفريق في الإيمان ببعضهم دون بعض، أو الإقرار بما جاء به بعضهم دون بعض، بل الواجب أن نؤمن بجميعهم، وأن لا نفرق بين أحد منهم، وليس من التفريق بين الرسل معرفة مراتبهم في الفضل، فإن الله جل وعلا فاضل بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، أفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،ثم أولو العزم من الرسل إبراهيم وموسى وعيسى ونوح، ثم بعد ذلك هم في الفضل على ما علم الله جل وعلا، هٰذا الذي علمناه، وبعد ذلك هم في الفضل كما علم الله جل وعلا. يقول: (وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاؤُوا بِهِ). ثم قال رحمه الله: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ، بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ، وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ: إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ عزوجل فِي كِتَابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ( ). وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ). طيب، يقول رحمه الله: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ). أهل الكبائر أي أصحابها المقارفون لها، الواقعون فيها. والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة هي الذنب الذي ورد في الشرع عليه حد، أو ذُكر له عقوبة في الآخرة، أو خُتم بغضب أو لعنة أو تبرؤ، يعني كل ما ورد فيه حد أو وعيد خاص فإنه من الكبائر. فالزنى كبيرة، والسرقة كبيرة، والغيبة كبيرة، والنميمة كبيرة، والغش كبيرة، والحقد كبيرة، والحسد كبيرة، والكبر كبيرة، الكبائر كثيرة نسأل الله السلامة منها. (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ) أهل هٰذه الذنوب المواقعون لها، المقارفون لها، الذين لم يتوبوا منها، الكلام فيمن لم يتب، أما من تابَ تاب الله عليه، التوبة ولله الحمد تجبّ ما قبلها، وتجعل الإنسان كما لو لم يقع في الذنب، فإنها تمحى ولا يسأل عنها، وهٰذا من فضل الله وعظيم كرمه وواسع إحسانه بعبده، أنه إذا تاب تابَ الله عليه، والتوبة ليس لها حد ولا منتهى، بل الله جل وعلا يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ما لم يبلغ الإنسان الغرغرة أو تخرج الشمس من مغربها، عند ذلك يوصد باب التوبة. قال رحمه الله: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ). أي لا يبقون فيها بقاءً أبديّاً، فالخلود المنفي هنا هو خلود البقاء الذي لا خروج معه. واعلم أن الخلود نوعان: خلود بمعنى طول البقاء في النار، وهٰذا قد يكون لبعض أهل الكبائر من أهل الإسلام. والقسم الثاني من الخلود: الخلود الذي لا خروج منه، فهو بقاء أبدي سرمدي لا ينقطع، وهٰذا لا يكون إلا لأهل الكفر والشرك. من الخلود الأول خلود قاتل النفس، فإن الله سبحانه وتعالى توعده بالخلود فقال: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} ( ). فالخلود في هٰذه الآية هو الخلود الذي بمعنى طول المكث، لا الخلود الذي لا خروج معه، فإن النصوص قد دلت على أن المسلم المؤمن الذي يقول: لا إله إلا الله مآله إلى الجنة مهما كان، إذا كان من أهل التوحيد، أهل الإخلاص، فلابد أن يخرج كما سيأتي في الشفاعات. قال: (إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ). وهـٰذا شرط ليخرج به أهل الشرك، فإن أهل الشرك في النار خالدون فيها أبداً لا يخرجون منها، بل هي موصدة عليهم أبد الآباد. قال رحمه الله: (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ). يعني وإن لم يتوبوا من هٰذه الكبائر فإنهم لا يخلدون في النار، بل غاية ما يكون أن يدخلهم الله جل وعلا هٰذه النار فيعاقبون بقدر ما معهم ويطهرون؛ لأن دخول النار لأهل الكبائر تطهير، يطهرون وينقون، فإذا نقوا من آثار الذنوب والمعاصي أخرجهم الله جل وعلا، يقول: (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ، بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ). والمقصود بالإيمان هنا هو الإيمان الذي تقدم في قوله: (وَالإِيمَانُ: هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى). فهؤلاء حققوا التوحيد، لكنه حصل معهم من الذنوب ما حصل به نقص هٰذا التوحيد، وإن كان أصله ثابتاً وباقياً فلوجود هٰذا الأصل وبقائه يخرجهم الله عزوجل . يقول: (وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ). يعني إذا لم يتوبوا من ذنوبهم فهم في مشيئته وحكمه: إن شاء عاقبهم على ذنوبهم وآخذهم بها، وإن شاء عفا عنهم وغفر لهم،كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} ( ). قال رحمه الله: (إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ عزوجل فِي كِتَابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ( ). وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ) فهم بين عدله وفضله سبحانه وتعالى : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} ( ).ولكن لابد أن يُعلم أنهم إلى الجنة صائرون مهما وقع عليهم من العذاب إذا كانوا من أهل التوحيد. ثم قال رحمه الله: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ). هٰذا مبدأ ذكر الشفاعة، طيب، نقف على هٰذا إن شاء الله تعالىٰ، ونكمل غداً بإذن الله تعالىٰ