التعليق على كتاب
نواقض الإسلام
(( الدرس الثاني ))
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
تقدم في الدرس السابق الحديث عن أهمية الدراسة فيما يتعلق بنواقض الإسلام والمكفرات، وبيان خطورة التكفير، ثم تكلمنا عن بعض الضوابط التي يهم أن يستحضرها طالب العلم والناظر في هذه المسألة، وتكلمنا في الضوابط عن
الضابط الأول، وهو: أن الحكم بالكفر لا يثبت إلا بدليل، سواء كان في الاعتقادات، أو في الأقوال، أو في الأفعال.
أما الضابط الثاني، فهو: أن الاشتباه في ثبوت الكفر سواء كان ذلك في الأصل أو في المعين، يوجب التوقف وبقاء حكم الأصل وهو الإسلام، واستناداً إلى القاعدة التي قالها العلماء ( أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل أن الإيمان والإسلام من ثبت إسلامه بيقين لم يرتفع عنه إلا بيقين).
وذكرت في أثناء الحديث عن هذا الضابط خطورة التعجل في التكفير، وأن الذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلا، وأن استباحة دماء المصلين أمر خطير، كبير.
ولذلك قال عياض -رحمه الله- في بيان خطورة الأمر:
"فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأٌ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد".
هذه كلمة كبيرة تبين لك حجم الخطر في التورط في هذا الأمر، فإن الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة، يعني لو أنه كافر في الحقيقة والواقع، لكنك أخطأت فتركته ولم تُجرِ عليه ما يقتضيه حكم الردة أو الكفر، أهون من الخطأ في سفك دمٍ لمسلم واحد، ذلك أن الخطأ في سفك دم مسلم واحد أعظم خطراً وأكبر جُرماً من الخطأ في الترك، بناء على القاعدة: (أن الخطأ في العفو أهون من الخطأ في العقوبة).
أما الضابط الثالث: فهو التفريق في الكفر بين الأقوال والأفعال والعقائد وبين أصحابها، تكلمنا عن بداية هذا الضابط وقلنا لإن هناك ضرورة للتفريق في التكفير بين الحكم المطلق على العقائد والأقوال والأفعال، وبين الحكم على المعينين، وذلك أن من تورط في الكفر في قول أو اعتقاد أو عمل، ينبغي أن يُنظر في حاله من حيث توافر الشروط الموجبة لتكفيره، أو الموانع التي تمنع تنزيل الحكم عليه، وهذا ما يتعلق بما يعرف في كلام الأصوليين بتحقيق المناط، وهو أمر يحتاج إلى اجتهاد، تنزيل الحكم على الوقائع، على الأفراد، على الأعيان، يحتاج إلى نظرٍ في الشروط، هل هي مستوفية لتنزيل الحكم على الأفراد أو أنها غير مستوفية فلا يُنزّل، كذا إذا استوفت هل يوجد مانع من إنزال الحكم أو لا.
ولذلك ينبغي مراعاةُ هذا الأمر في كل نصوص الوعيد، ولذلك يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-:
"فإنَّ نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجَبِها في حق المعينين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، فلا يثبت موجَب هذه النصوص وهو الحكم بتكفير المعينين أو تفسيق المعينين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع".
(فالتكفير المطلق لا يستلزم التكفير المعين)، هذه قاعدة، بل لابد من النظر في الشروط و الموانع حتى يثبت الحكم على المعينين.
ولذلك الإمام أحمد -رحمه الله- باشر الجهمية وخالطهم، الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وقتلوا المؤمنين في ذلك إلا أنه لم يكن يكفرهم -رحمه الله-، فلهذا ينبغي التفريق بين القول وبين القائل، لأن القائل قد يَعرض له ما يجعله خارجاً عن الحكم الذي تقتضيه الأدلة.
وهنا نحتاج إلى النظر في الضابط الرابع وهو: تكفير المعين لا بد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، فلا يثبت حكم الكفر في المعين إلا إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع.
فما هي الشروط وما هي الموانع؟
الشروط التي لابد من توافرها لتنزيل نصوص الوحيين على الأفراد في الحكم بالكفر أو الفسق:
- الشرط الأول: لابد أن يكون المحل أي يكون المعين عاقلاً، فالعقل هو أساس التكليف، ولذلك لا يجري قلم التكليف على غير العاقل، وقد اتفق العلماء على أن فاقد العقل غير مكلف، فمن قدر منه ناقض من نواقض الإسلام وهو مجنون أو هو فاقد العقل سواء كان مجنونا جنونا مطبقا أو جنونا عارضا فإنه لا يحكم بكفره، ومثله النائم، فإنه لا يحكم بكفره إذا صدر منه قول أو فعل أو اعتقاد طبعا الاعتقاد قد لا يتصور، لكن إذا صدر منه قول أو فعل حال نومه فإنه لا يثبت له حكم التكفير لغياب العقل.
وتحت هذه المسألة اختلفوا في ردة الصغير وهو من دون البلوغ إذا صدر منه ما يوجب الكفر من قول أو فعل أو اعتقاد، هل يثبت حكم الكفر له أو لا:
اختلفوا في ذلك على قولين:
ذهب جماعة من أهل العلم وهو قول الجمهور إلى أن الردة تقع من الصغير بناء على صحة إسلامه، وقاعدة عندهم أن ( من صح إسلامه صحت ردته).
وذهب الشافعية إلى أنه لا تصح منه الردة، أي لا يثبت حكم الردة في حقه مادام صغيرا، لأنه غير مكتمل العقل (رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ : عَن المَجنونِ المَغلوبِ على عَقْلِهِ حتى يَبْرَأَ ، و عن النائِمِ حتى يَستيقِظَ ، و عنِ الصبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ) الراوي: علي بن أبي طالب و عمر بن الخطاب المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 3512
خلاصة حكم المحدث: صحيح
ورغم هذا الاختلاف إلا أنهم متفقون، يعني الجمهور والشافعية متفقون على أنه لا يعاقب أو لا يؤاخذ بمقتضى ردَّته إلا بعد بلوغه، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهذا يبين أنهم لم يثبتوا أثر الردة إلا بعد اكتمال العقل، فخلافهم في ثبوت وصف الردة لا في إجراء أحكامها، واختلفوا أيضا من المسائل التي اختلفوا فيها فيما يتصل بهذا الشرط ردة السكران، وما أشبهه هل يعتبر سكره مغيِّباً لهذا الشرط إذا غاب عقله؟
• فذهب جمهور العلماء إلى أن ردة السكران ثابتة إذا صدر منه ما يوجب الردة من قول أو فعل أو اعتقاد.
• وخالف في ذلك الحنفية فقالوا: الردة هي مخبرة ومنبئة عن اعتقاد، والسكران غير معتقد لما يقول، ولهذا قالوا: لا تصح منه الردة، ولا يثبت له أحكامها، هذا لا يعني أنه لا يعاقب أو لا يعذر أو لا يؤدب، إنما البحث فيما يتعلق بإثبات حكم الردة، والمقصود أن العلماء رحمهم الله متفقون على أن العقل شرط من شروط إثبات حكم الكفر، فإذا غاب العقل لم يثبت الكفر.
- الشرط الثاني: قيام الحجة، وذلك أنَّ الله تعالى قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) سورة الإسراء (15) وقال جلَّ وعلا: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) سورة النساء (165)
فالله تعالى من رحمته أنه لا يثبت الأحكام إلا بعد العلم بها، ومن ذلك حكم الكفر، لا يكون إلا بعد قيام الحجة، والمؤاخذة به لا يكون إلا بعد قيام الحجة، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلب حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، لأنه من ثبت إيمانه بيقين لم يزُل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
هذا محل اتفاق بين أهل العلم، لا خلاف بينهم فيه، أنه لا يثبت الحكم إلا بعد العلم، وفيما يتعلق بقيام الحجة بحثٌ: هل المطلب بلوغ الحجة وفهمها، أم البلوغ فقط؟
الذي عليه أهل التحقيق من أهل العلم أن الحجة تقوم ببلوغها ووضوحها وضوحاً تدركه الأفهام، فلابد من فهمها فإذا لم يتبينها من بلغته أو لم يفهمها فإنه لا تكون قد قامت، فلابد من إقامة الحجة على وجه تنقطع به المحجة، وتزول به الشبهة، هذا هو الشرط الثاني.
- الشرط الثالث: أنه لابد أن يقوم الدليلُ على أن القول أو الفعل أو الاعتقاد كفر، وهذا تقدم في الضوابط، أنه لا يثبت حكم الكفر في شيء إلا بدليل، فهذا من الشروط، ولابد أن يكون دليلاً بيناً واضحاً كما تقدّم في الضابط "لا تأويل فيه"، استناداً إلى ما جاء في الصَّحيح من حديث عبادة رضي الله عنه حيث قال: (دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فبايَعْناه . فَكَانَ فِيمَا أَخِذَ عَلَيْنَا ، أَنْ بَايعَناَ عَلى السَّمْعِ والطَّاعّةِ ، فِي مَنْشَطِنا وَمَكْرَهِنا ، وَعُسْرِنَا ويُسْرِنا ، وَأَثَرةٍ علينا . وأن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه . قال ( إلا أن ترَوْا كفرًا بواحًا عندكم من اللهِ فيه برهانٌ) الراوي: عبادة بن الصامت المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 1840
خلاصة حكم المحدث: صحيح ، هذه أبرز الشروط التي لابد منها لثبوت حكم الكفر في المعين.
قيام الدليل: وهذا قد تقدم، قيام الدليل البين النواضح على كفر الفعل أو الاعتقاد أو القول، قيام الحجة – العقل. طبعاً البلوغ مندرج في العقل، فاشتراط البلوغ فيه خلاف بين العلماء، وذكرناه إشارة في مبحث العقل، في شرط العقل.
أما الموانع، فهذا هو القسم الثاني أنّه لا يثبت تكفير المعين، فتكفير المعين لابد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، توافر الشروط عرفنا ما هي الشروط.
العقل وقيام الحجة وثبوت الدليل على كفر الفعل، واضح هذا يا إخوان؟
ما هي الموانع؟
هي الأوصاف التي إذا وُجدت، كانت مانعةً من ثبوت الحكم الكفري في المعين، وهي كما يلي:
المانع الأول: الجنون، وهذا فوات شرط، وبه نعلم أن بعض الموانع هي عبارة عمّا هو ضد الشرط، فالشرط هو (العقل) والمانع هو عدم العقل الجنون، فالجنون مانع من موانع الكفر وتنزيل حكمه على الأعيان، وهذا محل اتفاق لا خلاف بين العلماء فيه كما تقدم.
المانع الثاني: الجهل، وهو عدم العلم، أو عدم فهم الحُكم، فإن الجهل من موانع الكفر بناء على ما تقدم في الشروط من أن من الشروط التي يجب توافرها في المحل المعين لتنزيل الحكم قيام الحجة، وقيام الحجة هي العلم، الذي يرتفع به العذر، فالجهل من موانع التكفير، ويستدل له بما ذُكر في الشرط وهو قول الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) سورة الإسراء (15)
وفيه على وجه الخصوص ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي أسرف على نفسه فلمّا حضره الموت أوصى بنيه أن يحرقوه: (قال رجلٌ لم يعملْ خيرًا قطُّ : فإذا مات فحرِّقوه ، واذْروا نصفَه في البَرِّ ونصفَه في البحرِ ، فواللهِ لئن قدَر اللهُ عليه لَيُعذِّبنَّه عذابًا لا يُعذِّبُه أحدًا من العالمينَ ، فأمر اللهُ البحرَ فجمع ما فيه ، وأمر البَرَّ فجمعَ ما فيه ، ثم قال : لِمَ فعلْتَ ؟ قال : مِن خَشْيَتِك ، وأنت أعلمُ ، فغَفَر له) متفق عليه واللفظ للبخاري هذا شك في قدرة الله على الإعادة، والشك في القدرة من المكفرات؛ لأنه شك فيما هو معلوم من صفات الرب جل وعلا فالله على كل شيء قدير، لكن لم يثبت الحكم في حقه لجهله، ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته في بادية، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة وانتفاء الجهل، هذا هو المانع الثاني من موانع التكفير.
المانع الثالث: الخطأ، فالخطأ من الأعذار التي تمنع تنزيل حكم الكفر، الله تعالى يقول: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) سورة الأحزاب (5) فنفى الله تعالى المؤاخذة على الخطأ، وهنا يشمل الخطأ في كل صوره، سواء كان فيما يتعلق بالمعاصي الموجبة للتفسيق، أو النواقض التي توجب الكفر، فالله تعالى قال: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) سورة الأحزاب (5).
فِيمَا: (ما) اسم موصول يفيد العموم بمعنى الذي، فهذا يشمل كل ما يقع فيه الخطأ، ولو كان من المكفرات، فإنه لا يثبت حكم الكفر بالخطأ، وسواء كان الخطأ ناتجاً عن شدة فرح أو شدة حزن أو عدم معرفة وعلم، كل ذلك يشمله هذا المانع، ويشهد لذلك ما في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه فيما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم:(لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ ، فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا " ، ثُمَّ قَالَ : " مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) الراوي: أنس بن مالك المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2747
خلاصة حكم المحدث: صحيح فهنا الخطأ لم يرتب عليه الله عز وجل حكماً في الكفر مع كونه كفراً، لكنه أخطأ من شدة الفرح فعفا الله تعالى عنه، فإن الإنسان إذا قال شيئاً في حال تقتضي الخطأ أو يعذر فيها بالخطأ فإنه لا يؤاخذ بذلك، وهذا لا فرق فيه بين قول وفعل، والأدلة على ذلك متوافرة وهذا دليل خاص.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في العذر بالخطأ، هل هو في كل الأمور أو في بعضها، ظاهر الأدلة أنه لا فرق بين الأخطاء ما دام أنه لم يقصده، لم يقصد الخطأ وجاء منه من غير إرادة، فإنه لا حرج عليه فيه، ولا يثبت له حكم الكفر.
المانع الرابع: الإكراه، والإكراه هو حمل الإنسان على قول أو فعل لا يريده ولا يختاره، ودليل العذر في الإكراه وأنه مانع من موانع تنزيل الحكم بالكفر، قول الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) سورة النحل (106).
قال القرطبي – رحمه الله-
"أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه".
ومن هنا نفهم أن الإكراه هو ما يخشى فيه الإنسان تلفاً لنفسه وضرراً بالغاً أو هلاكاً، وقولنا ضررا بالغا يشمل ما إذا كان الضرر دون القتل كأن يهدده بقطع يده أو قطع جزء من بدنه إذا لم يقع منه ما يريد أو ما يكره عليه من كفر.
المانع الخامس: التأويل، وهو أن يصدر المكفر سواء كان قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً بناءً على شبهة عند من صدرت عنه يظن أنه لا يكفر بذلك، لأنه لم يقصد ما يعلمه كفرا، فهو مندرج في جملة الخطأ لقول الله تعالى: ((وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) سورة الأحزاب (5) وهذا لم يتعمد قلبه، فهو نوع من الخطأ ولهذا بعض أهل العلم يدرج التأويل ضمن الخطأ، ولكن جعلناه مستقلاً لأن كلمات العلماء تشير إليه على وجه الخصوص لأن كثيرا من أصحاب الأقوال المنحرفة، يقولون أقوالا تدل النصوص على أنها كفر، لكن قالوها بتأوُّل كالذي ينفي الاستواء عن الله عز وجل بمعناه الذي دلت عليه النصوص وقال به السلف، فيفسر الاستواء مثلا بالاستيلاء، فالمتأول الذي قصده متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وقصده تعظيم الشريعة، لا يكفر يقول شيخ الإسلام رحمه الله بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، ولا فرق في هذا بين المسائل العلمية الاعتقادية، وبين المسائل العملية، والتفريق في التأويل بين مسائل الاعتقاد فلا يعذر بها وبين مسائل العمل فيُعذر بها هذا قول محدث، لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو من أقوال أهل البدع، فالتأويل يعذر به في مسائل الاعتقاد وفي مسائل العمل.
بعد ذلك يكون قد اكتمل عندنا ما يتصل بالشروط وما يتصل بالموانع، فالشروط ثلاثة والموانع خمسة، وبعضهم يبسط وبعضهم يختصر بناء على تداخل بعضها ببعض.
المقصود أن من أراد أن ينزل حكم الكفر على معين لابد أن ينظر أولاً في شروط تنزيل الحكم على المعين، هل هي متوافرة فيه أو لا، ثم ينظر في المعين هل فيه مانع من الموانع أم لا، فإذا لم يكن موانع وتوافرت الشروط عند ذلك ينزل الحكم وبه تعرف أن هذا من مواطن الاجتهاد، فالاجتهاد في التكفير هو في تنزيل الحكم على الأعيان، وكذلك في معرفة أن الفعل مكفر.
الضابط الخامس: أن الحكم بالتكفير هو من مسائل الاجتهاد التي يجب أن يتحرى فيها المسلم الحق، سواء في إثبات أن الفعل كفر، أو في تنزيل ذلك الحكم على الأفراد، فالاجتهاد في مسائل التكفير في إثبات أن الفعل كفر، وهذا في الغالب مجمع عليه، وهناك مسائل اختلف العلماء في التكفير بها يحتاج الإنسان أن يبذل الجهد للوصول إلى الحق في هذا، كالكفر مثلا بترك الصلاة هي من مسائل الخلاف، فمن العلماء من يكفر بترك صلاة واحدة ومنهم من يكفر بترك صلوات، ومنهم من يكفر بترك الصلاة مطلقا، ومنهم لا يكفر بترك الصلاة كسلاً، فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم.
الوصول للراجح في هذه المسائل يحتاج إلى اجتهاد، فإذا تبين للإنسان قول واتضح له دليله فإنه يأخذ به، ثم هناك اجتهاد آخر، وهو تنزيل هذا الحكم على المعين، وهو الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط، لما يترجح عندي أن الكفر في ترك الصلاة إنما هو لمن تركها مطلقا، أما الذي يصلي ويخلي لا يكون كافرا، آتي الآن لتنزيله على شخص أحتاج أن أنظر هل هو ترك الصلاة بالكلية مطلقا فأنزل عليه الحكم، فإذا كان يصلي ويخلي هنا فات وصف من الأوصاف التي يتنزل بها الحكم، لنفرض أن هذا لا يصلي مطلقا نحتاج إلى أن ننظر للشروط الشرط الأول العقل- الشرط الثاني قيام الحجة- الشرط الثالث قيام الدليل على أن الفعل كفر، وهذا قد قام الدليل على أن الفعل كفر، فأحتاج في النظر للمعين أن أنظر في عقله وفي قيام الحجة عليه، ثم أنظر في الموانع هل فيه مانع من الموانع هل هناك جنون؟ هل هناك جهل؟ هل هناك تأويل؟ هل هناك خطأ؟ هل هناك إكراه؟ فإذا لم يكن شيء من هذا وتوافرت الشروط عند ذلك أعتقد أن هذا كافر.
فلا يلزم من اعتقاد أن الفعل كفر أن يكون الفاعل كافراً كما ذكرنا في الضوابط السابقة، وهنا يتبين أن المسألة ليست بهذه السهولة التي تجعل الحكم بالكفر جاهزاً عند أدنى مخالفة، الآن بعض الناس إذا اختصم مع شخص يقول اذهب يا كافر، في خصومة لا علاقة لها بالديانة، ولا علاقة لها بالمكفرات، وهذا يتنزل عليه ما جاء في النصوص حديث أبي ذر، وحديث ابن عمر اللذين تقدما ذكرهما (أيُّما رجُلٍ قالَ لأخيهِ : يا كافرُ ، فقد باءَ بِها أحدُهُما) متفق عليه.
إذا عرفنا أن التكفير يحتاج إلى اجتهاد في أصله ويحتاج إلى اجتهاد في تنزيله أي في تحقيق المناط فإنه أيضا يتبين لنا أنه قد يختلف العلماء في حكم الكفر على معين، فيكفروا فلان ولا يكفره غيره، بناء إما على اختلافهم في هذا الفعل أو القول أو الاعتقاد كفر، أو اختلافهم في تحقيق المناط، تنزيل الحكم على المعين، فيرى أحدُهم أنه معذور لأنه متأول، ويرى الأخر أنه غير معذور لأنه قامت فيه الشروط وانتفت فيه الموانع، ولهذا الاختلاف في مسائل العذر بالجهل على سبيل المثال هل يعذر بالجهل أو لا، من الاختلافات الفقهية الاجتهادية التي يترتب عليها الخلاف في حكم هؤلاء الذين يعظمون القبور مثلا وهم في بلدان علماؤهم لا ينكرون عليهم هذا الخطأ وهذا الشرك، هل هذا يعذر بجهله أو لا يعذر بجهله هي من المسائل التي ترجع إلى الاجتهاد.
وبهذا نكون قد انتهينا إن شاء الله تعالى من الضوابط ونبدأ في الدرس القادم بإذن الله غداً بقراءة النواقض ناقضاً ناقضا.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم البصيرة في الدين والفقه في التأويل، والعمل بالتنزيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .