التعليع على كتاب
نواقض الإسلام
((الدرس السابع ))
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، ففي هذا المجلس إن شاء الله نستكمل ما يسّر الله تعالى من النواقض، كنا قد انتهينا من الناقض الثالث ووقفنا على الناقض الرابع من نواقض الإسلام، قال فيه المصنف -رحمه الله-:
"الناقض الرابع
من اعتقد أنَّ غير هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل من أو أنَّ حكم غيره أحسنُ من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر".
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد، يقول المصنف -رحمه الله- في الناقض الرابع أي من نواقض الإسلام:
"من اعتقد أن غير هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه".
"من اعتقد" ،الاعتقاد: هو ما طوى عليه الإنسان قلبه، مأخوذ من العقد وهو الربط والشبك.
والاعتقاد هو إقرار القلب وتصديقه، فالعقيدة هي ما اعتقده قلب الإنسان وصدقه، فقوله: "من اعتقد" أي من ربط في قلبه وأقرّ وصدق أن غير هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أكملُ من هديه.
الهدي: هو الطريق و العمل والسيرة، كلها تسمى هديا، والهدي يطلق بفتح الهاء هدي، ويطلق بضمه هُدى، والفرق بينهما، الهدي هو الدلالة والإرشاد والهدى هو الطريق، هذا الفرق بينهما فيما قيل، وقيل هما الهدي والهُدى شيء واحد، وفي كل الأحوال المقصود هذا وهذا، سواء قيل إنهما بمعنى واحد أو قيل إنهما بمعنيين، فالمقصود أنَّ من اعتقد أنَّ طريق غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل من طريقه، أو أنّ دلالة غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل من دلالته، أو أن إرشاد غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل من إرشاده، كلُّه بمعنىً واحد، والهدى الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الدين، هو الإسلام، فمن اعتقد أن غير هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في القول أو في الاعتقاد أو في الحكم أو في الخبر أكملُ من هديه -صلى الله عليه وسلم- أكملُ ممّا جاء به فإنه يكون بذلك كافراً، وقد ذكر المصنف -رحمه الله- في هذا الناقض أمرين :
الأمر الأول : الهدي.
الأمر الثاني : الحكم.
فقال: "أو أن حكمه أحسن من حكمه" وهذا من باب عكس الخاص على العام، فإن الحكم جزء من الهدي والهدي أوسع، أو يمكن أن يقال: إن الهدي يشمل الطريقة على وجه العموم والإجمال، وأما الحكم فهو على وجه الخصوص في الفصل بين المتنازعين، فيكون هذا من المعنى الخاص في صورة من الصور، وهو فصل المنازعات، وهو أيضا لا يخرج عن كونه جزءاً من هديه -صلى الله عليه وسلم-، هديه -صلى الله عليه وسلم- هو أكمل الهدي كما أخبر رب العالمين بذلك، وقال: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقد قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) فلا أقوم منه، ولا أهدى منه، ولا أحسن منه، ومن أحسن من الله حديثاً؟ ومن أصدق من الله قيلا؟ فما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن وفي عمله، وهو ترجمة القرآن أكمل هديٍ وأحسنُه، فمن اعتقد خلاف هذا فقد كذَّب القرآن؛ ولذلك كان كافرا بالإجماع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته كما في الصحيح من حديث جابر : (أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-) وبدأ بالكتاب؛ لأنه الوحي الذي لا يلتبس، وهو الذي فضل الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم ذكر عمله؛ لأن عمله ترجمة القرآن وبيانه، ولذلك كان ما كان عليه من هدي مبينا للقرآن فهو أكمل الهدي وأحسنه؛ لأنه بيان لأحسن قول وأصدق كلام وأقوم طريق.
قوله -رحمه الله- :
"من اعتقد" أي من أيقن، ويلحق به "من شك" فإن من شك بأن هديه أكمل من هديه فهو ملحق بمن اعتقد؛ لأنَّ الواجب هو اعتقاد أن هديه أكمل الهدي، والارتياب نوعٌ من الكفر فالكفر يكون بالتكذيب ويكون بالشك ويكون بالإعراض، وهذا نوع منه، فالكفر بالشك كفر، في مثل هذا الموضع، وهو الشك فيما يجب الإيمان به، فمن شك في أصل من أصول الإيمان فقد كفر، ومن شك في خبر القرآن البيّن الظاهر فقد كفر، والله تعالى قد قضى بأن هدي النبي أكمل الهدي وأن قوله جلَّ وعلا أصدق القول وأحسنه، وأنه أحسن حديث، فمن شك في أن هدي غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل من هديه فقد شك فيما يجب الإيمان به فيكون بذلك قد وقع في ناقض من نواقض الإسلام، ووقع في مكفّرٍ لا خلاف فيه، أما قوله -رحمه الله-:
"وأن حكم غيره أحسن من حكمه" ذكرت الحكم هنا أنه إما أن يُقال إن هذا يشمل كل ما جاء به من الأحكام الشرعية، فحكمه يشمل الإيجاب والتحريم والاستحباب والندب، فكل ما جاء به من الأحكام الشرعية داخل في هذا، وإما أن يقال إن الحكم هنا بمعناه الخاص وهو الفصل في المنازعات أو الفصل بين المتخاصمين وهذا وجه آخر، وكلاهما يكون من باب عطف الخاص على العام فإن هديه شامل لحكمه، أو يقال إن الهدي هو الطريقة والسيرة والأحوال، والحكم شيء مختلف فيكون هذا من باب عطف المتغايرات.
وعلى كل الأحوال سواء قلنا إنّ الحكم هنا بمعنى الفصل بين المتخاصمين أو قلنا إن الحكم هنا يشمل ما هو أوسع من ذلك، فيشمل كل ما قضى به النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبيَّن حكمه، فهذا وذاك كله صادق على ما ذكره -رحمه الله- من أن من اعتقد أنّ حكم غيره أحسن من حكمه فإنه يكون بذلك كافرا، ذلك أنَّ الله تعالى أنزل الكتاب على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، ومقتضى هذا أن حكمه بيان للقرآن، ولا يمكن أن يكون حكمه دون حكم غيره، أو أن حكم غيره أحسن منه، يقول الله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) }النساء الآية 105{ وأمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وطاعتُه امتثال حكمه، سواء في إيجابٍ أو تحريمٍ أو غير ذلك (وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [التغابن: 12]، ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء: 80] ونعى الله تعالى على من قدم حكم غيره على حكمه وقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) } المائدة الآية 50{ فلا أحسن من حكم الله جل وعلا، ولا حكم من جعله حاكماً بين الناس، فإن ذلك من الكفر، ولهذا أخبر جل وعلا أن كل حكم يخالف حكمه؛ فهو من أحكام الهوى، وهو من أحكام الجاهلية، ليس فيه علم وليس فيه هدى، كما قال الله تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) فكل حكم يخرج عمّا جاءت به الشريعة فهو حكم هوى لا حكم هدى، وحكم جهل لا حكم علم (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) كل حكم يخالف حكم الله فهو حكم جاهلية وقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة: 49] فكل ما خالف ما أنزل الله فهو حكم هوى لا حكم هدى؛ ولهذا ذكر الله هذين الأمرين في سياق واحد، فقال جلّ وعلا:
(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ). }المائدة الآية 49{ . ثم بعد ذلك قال: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) فوصف الله تعالى كل حكم خارجٍ عما أنزل بأنه حكم هوى، وأنه حكم جاهلية، فحكم الله هو أحسن الأحكام وهو واجب الاتباع، لا يجوز لأحد أن يخرج عنه، ولا صلاح للأفراد ولا للأمة ولا استقامة للدين ولا استقامة للدنيا إلا بحكمه جل وعلا فحكمه صلاح العالم كله، ولكنَّ أكثر الناس في غفلة كما قال جل وعلا: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ )
وقوله -رحمه الله-:
(كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر)
هذا نموذج ومثال لما يندرج تحت هذا الناقض ، الناقض في عنوانه العريض "أن من اعتقد بأن حكم غيره أو هدي غيره أكمل من هديه فهو كافر ) من أمثلة ذلك ونص عليه بالخصوص لكثرة المتورطين فيه وهو : تفضيل حكم الطواغيت على حكم الله وحكم رسول الله فهو كافر.
قال -رحمه الله- : (كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه) أي: على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر، وهذا مثال يتضح به هذا الناقض، فكل من فضل حكم الطواغيت على حكم الله ورسوله فإنه كافر، والطواغيت هم كلُّ من خرج عما أنزل الله، أو أخرج الناس عما أنزل الله فهو طاغوت.
والطاغوت فعلوت، وهو من صيغ المبالغة، والمراد به الزيادة في الطغيان، والشدة في الخروج عن الحدود، فالطاغوت هذا معناه في اللغة.
وأما معناه في الاصطلاح: فهو اسم لكل ما عُبد من دون الله، أو دعا الناس إلى ضلالة، أو أخرجهم عن الهداية، ويمكن أن نقتصر بالتعريف على جزء، فنقول: الطاغوت هو كل من دعا الناس إلى عبادة كل ما عُبد من دون الله، ومن دعا الناس إلى ضلالة، وبهذا يجتمع المعنى ويكمل.
الطاغوت ما هو ؟ كل ما عبد من دون الله، وأيضا أو دعا الناس إلى ضلالة، فإنه إذا دعاهم إلى ضلالة طغى بهم، وأخرجهم عن الصراط المستقيم، وقد فسر بعض أهل العلم الطاغوت: بأنه الكاهن والشيطان وبأنه الساحر، وكل هذا من باب التسهيل بالمثال، وليس ذلك حصراً على المعنى، فالطاغوت عامٌّ في كل ما عُبد من دون الله أو دعا الناس إلى ضلالة، ولذلك قال بعض أهل العلم: كل من عُبد من دون الله أو رضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله تعالى، فهو طاغوت، وما ذكره بعض أهل العلم من أن الطواغيت خمسة فهذا حصر لرؤوس الطواغيب، أي لأصول الطغيان التي يقع الناس فيها أو يقع الناس بسببها في الضلال، وليس هذا حصرا للأمور على وجه التعيين، إنما هذه أصول ترجع إليها كل أوجه الطغيان، وقضية تفضيل حكم الطاغوت على حكم الله -عز وجل- لا شك أنه كفر لا خلاف بين أهل العلم في أن ذلك كفر، والله تعالى قد قال : ( أفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ) }الأنعام114{ ذكر ذلك على وجه الإنكار، وأخبر أن الحكم له فقال جلَّ وعلا : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فليس لأحد أن يحكم معه فكل من ادَّعى أن حكمه أفضل من حكم الله أو حكم رسوله فقد نازع الله ما جعله من خصائصه وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون) وقد قال جل وعلا : ( وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) }الكهف :26{ والله تعالى هو الحَكم كما قال: (فَالْحُكْمُ لِلَّـهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) }غافر :12{، (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) {القصص: 88} والنصوص والأدلة في ذلك كثيرة.
فكل من اعتقد في شيء من الأنظمة أو الأحكام أنها أفضل من حكم الله، فإنه كافر بذلك، وهذا لا يعني أن لا يُحدث الناس من الأنظمة ما تصلح به دنياهم وتستقيم به أمورهم؛ لأن الأحكام الوضعية أصبحت علماً على الحكم المعارض لحكم الله ورسوله في الاصطلاح المعاصر، لكن ينبغي أن يُعرف أن الأحكام الوضعية نوعان:
-حكم يصادم الشريعة، فهذا لا يجوز القبول به وتفضيله، هو كفرٌ بالله عز وجل.
-وأما الأحكام الإدارية التي يصلح بها أحوال الناس، فهذه وضعية اصطلح عليها الناس، لكنها ليست كفرا بل هي:
1. إما أن تكون واجبة.
2. وإما أن تكون مستحبة.
3. وإما أن تكون مباحة؛ لأنها مما يتحقق بها مصالح الناس.
وقد تكون محرمة أو مكروهة، إذا تضمنت ظلما أو جورا أو مفسدةً، المقصود أن الأحكام الوضعية ليست كلها من المحرمات، بل ينبغي التمييز ،كلُّ حكم يخالف حكم الله ورسوله، فإنه مردود على صاحبه ولا يُقبل، فإذا جاء نظام يبيح الزنا أو ينظم الزنا أو يبيح الخمر أو ينظم الخمر، هذه كلها أحكام معارضة لأحكام الشريعة، لا يجوز قبولها ولا إقرارها، ولا القول بأنها أحسن من أحكام الشريعة، بل حكم الشريعة أكمل وأطيب وأطهر وأحسن في الدنيا وفي الآخرة. وما يتعلق بهذه المسألة مسألة الحكم بغير ما أنزل الله يبحثها بعض أهل العلم في هذا الموضع، والحقيقة أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله له أحوال:
1. فمنه ما يكون كفراً.
2. ومنه ما يكون معصية.
3. ومنه ما يكون خطأ ، هذه أقسامه الثلاثة في الجملة.
أما القسم الأول وهو الكفر: هو أن يعتقد أن حكم غير الله تعالى أحسن من حكم الله، أو أن حكم غير الله تعالى مثلُ حكم الله، أو أنه يجوز تحكيم غير شرع الله -عز وجل- فيما جاء فيه حكم لله، ولو كان لا يعتقد أنه أحسن أو أنه مثل، لكن يعتقد الجواز، كل هذه الصور الثلاثة هي من الكفر المخرج عن الملة:
o إذا اعتقد أن حكم غير الله أفضل من حكم الله.
o إذا أعتقد أنه مثله.
هذان كفر بالاتفاق.
o إذا قال حكم غير الله دون حكم الله، حكم الله أحسن، لكن يجوز أن يحكم بغير ما أنزل الله فهذا أيضا كفر. وهذه الصور الثلاثة متفق عليها.
أما إذا كان الحكم بغير ما أنزل الله وفق الهوى،والتعصب، كـأن يحكم لقريب أو يحكم لحبيب أو يظلم أحدا في الحكم، فهذا من المعاصي، وليس كفرا مخرجا عن الملة، بل هو من الذنوب والمعاصي التي يُعاقب عليها صاحبها.
أما إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله خطأ؛ كأن يطلب حكم الله وحكم رسوله، لكنه أخطأ فأصاب غير حكم الله واجتهد في إصابة الحق ولكنه لم يصب، فهذا خطأ يؤجر عليه صاحبه ؛ لأنه مجتهد، كما في حديث عبد الله بن عمرو : (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر )، هذا فيما يتّصل بهذا الأصل.
أما الأصل الذي يليه فهو الأصل الخامس.
الناقض الخامس :
وهو قوله -رحمه الله-:
"من أبغض شيئا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو عمل به فقد كفر".
هذا الناقض الخامس متصل بما قبله، من حيث إن الجامع بينهما هو ردُّ حكم الله -عز وجل- إما قلبيًّاً وإما عمليَّا، فالأول كان ردا بالقلب والعمل، وأما هنا فهو ردٌّ بالقلب؛ لأنه بغض ولو عمل به.
قال -رحمه الله-:
"من أبغض شيئا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو عمل به فقد كفر".
قوله -رحمه الله- (من أبغض) البغض أشد الكره، وهو ضد الحب، والبغض يقتضي المنابذة وعدم الرضا، فلابد من إيضاح هذا وبيانه، أن الكره هنا ليس المراد به كرهَ المشقة التكليفية، أو التعب الناتج عن التكليف، إنما الكره هنا متوجه إلى التشريع ذاته، لا إلى ما يترتب عليه من المشقة، فإنَّ هذا هو المفهوم الذي يكون صاحبه واقعاً في الكفر، فإذا أقرَّ الإنسان بالشريعة، لكنَّه كره ما فيها من ثقل ولم يكره التشريع، لكن كره ما يترتبُ على هذا التشريع من ثقل على نفسه، والتزم وقبل ولم يعارضه فهذا ليس من الكفر في شىء، كما قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) }البقرة : 216{ فوصفه الله تعالى بأنه (كُره) لأنه ثقيل على النفوس لا تنشط إليه، ولا تحبه إذ فيه تلف الأنفس والأموال وفراق الأحباب، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (حُفت الجنة بالمكاره) إذا هناك ما يكره من الطاعة لما فيها من المشقة، لكن لا تُكره ذات الطاعة، إنما تُكره المشقة، المترتبة على تلك الطاعات، مع القبول بالحكم، والرضا به والعلم بأنه أحسن وأكمل وأفضل وأنه خير للعبد، تماما ككراهية المريض للدواء المرّ، فإنه يكرهه ولا يحبه ولكنه يوقن ويعتقد أن من مصلحته أن يأخذه، وأن في تركه مضرة له، رغم ما فيه من المرارة، وما تكرهه النفوس جبلة، فالبغض المذكور في هذا ليس هو الكره الذي تقتضيه الطبيعة والجبلة في منافرة النفس للتكليف، إنما هو بغض يقتضي عدم القبول، بغض يقتضي الكره للتشريع، بغض يقتضي منابذة ما شرع الله تعالى وحكم به، هنا يكون الكره مدخلاً في الكفر، فالكراهة التي تدخل في الكفر هي التي تقتضي عدم الرضا بالتشريع وتقتضي عدم القبول به، وهي ما ذكره الله تعالى في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ) كرهوا هنا ليس فقط بقلوبهم، إنما كرهوا ذلك ولم يقبلوه وردّوه، (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي الأمر الذي تخالفون فيه شرع الله تعالى، (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) {محمد: 25، 26} وقد رتب الله تعالى على ذلك حبوط العمل، ففي تتمة الآية قال: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)) أي كرهوا ما يرضاه، وليس كراهة رضوان الله التي هي صفته إنما كرهوا ما يرضاه من العمل الذي لم تقبله نفوسهم، فكرهوا ما رضيه من شريعة ودين، وحبوط العمل لا يكون إلا بالكفر، فدلَّ ذلك على أن من أبغض شيئا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو عمل به فإنه يكون قد كفر كما قال المصنف.
نقف عند هذا ونستكمل الدرس القادم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.