حلقات
الأمثــال القــرآنية
لفضيلة الشيخ الدكتور
خالد بن عبد الله المصلح
www.almosleh.com
بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الأولى ))
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيما لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً.
أحمده حق حمده له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
أحمده علَّم القرآن خلق الإنسان علمه البيان، له الحمد ظاهره وباطنه، أوله وآخره، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد بالعلم والبيان، والسيف والسِنان، حتى تركها على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه صلاة دائمة مستمرة، صلى الله عليه ما تعاقب الليل والنهار، اللهمَّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد.
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات من المستمعين والمستمعات، هذه أولى حلقات هذا البرنامج، برنامج "أمثال قرآنية"، أسأل الله تعالى أن يجعله برنامجاً مباركاً نافعاً للقائل والسامع.
أيها الإخوة والأخوات أنزل الله تعالى القرآن العظيم على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأعلم الله جل في علاه رسوله صلى الله عليه وسلم فضل ما أنزل عليه فأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم عن عظمة هذا الكتاب العظيم، وقد بيَّن الله جل وعلا أن هذا القرآن الحكيم نزل من الله من العزيز، من الحكيم، ممن له ما في السماوات وما في الأرض، فبيَّن جل في علاه جلالة المُنْزِل له، والمتكلم به سبحانه وبحمده { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا } سورة الإنسان:23. ، وقال جل في {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} سورة الزمر: 1 ، وقال {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} سورة غافر:2. ،وقال { تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } سورة يس: 5. وقال { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة السجدة:2. وقال {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} سورة طه:4. ، وقال {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة فصلت:2. وقال جل في علاه { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} سورة فصلت:42. .
إنه قرآن نازل من الله الذي هذه صفاته، قرآن نازلٌ من الله رب العالمين، من الله الرحمن الرحيم، من الله خالق الأرض والسموات العلا، من الله العزيز العليم، من الله الحكيم الحميد، هذه صفات المتكلم بهذا القرآن العظيم، والوحي الكريم، وكلامه جل في علاه، وصفٌ من صفاته، فالله سبحانه وبحمده له المثل الأعلى والصفة الكاملة التي لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه، وكذلك كلامه سبحانه وتعالى فإن كلامه من سائر صفاته التي بلغت في الحسن منتهاها، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
نزل هذا القرآن العظيم بواسطة هي من أشرف الوسائط، كان الوسيط في إنزال القرآن بين الله وبين البشر جبريل عليه السلام الروح الأمين، أشرف الملائكة عند رب العالمين، يقول الله جل في علاه في بيان الواسطة التي نزل بها القرآن {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} سورة الشعراء:193- 195. ، وقال سبحانه وبحمده { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } سورة النحل:102..
إن الله تعالى أعلم خلقه في كتابه، وعلى لسان رسوله أن القرآن العظيم عصمة لمن اعتصم به، وأنه هُدى لمن اهتدى به، وأنه غنى لمن استغنى به، وأنه نور لمن استنار به، وأنه شفاء لما في الصدور، بل بشَّر الله تعالى به الناس،فقال جل في علاه { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} سورة يونس: 57. .
وصف الله كتابه الحكيم بأوصاف جليلة عظيمة تبين عظيم منزلته، وتُبِنُ ما له من كبير المكانة وشريف المحل الذي لا يبلغه كلامٌ من كلام الناس.
إنه كتابٌ عظيم كما قال جل في علاه {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} سورة النمل:1. ، وقال {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} سورة يونس :1. ، وقال {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } سورة الجاثية:6. .
إن هذه الآيات المباركات هي أعلى الآيات، وهي أقوى البينات، وهي أوضح الدلالات الدالة على رب العالمين، الدالة على صلاح الدين والدنيا، الدالة على أجل المطالب وأفضل المقاصد وخير الأعمال، إن الآيات المباركات بلغت في وضوحها وبيانها وجلائها وإيضاحها للحق أبلغ من نور الشمس في رابعة النهار.
آياتٌ دلَّت على الإيمان ودعت للوصل إلى اليقين، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة، مطابقةً في ذلك ما كان وما يكون.
آياتٌ دعت إلى معرفة الرب جل في علاه بأسمائه وصفاته فدلَّت عليه وعرَّفت به سبحانه وبحمده.
آياتٌ عرفت برسله وأوليائه ومآلي الخلق {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } سورة الشورى: 7..
وقد وصفه الله تعالى بهذه الأوصاف وبغيرها من الأوصاف المباركة التي تبين ما لهذا الكتاب من منزلة عظمى ومكانة كبرى، تبين أنه كتابٌ يحسن لمن أخذ به ولمن اهتدى به سعادة الدارين، وفوز الأولى والآخرة.
وهذا الكتاب بلغ في الإتقان والكمال أن كان مهيمناً على كل كتابٍ جاء به رسول، كما قال جل في علاه: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة المائدة:48. ، أي أنه عالٍ مرتفع على ما تقدمه من الكتب، هو أمينٌ عليها، فهو مصدقاً لها وهو حاكم وشاهد وقيِّمٌ عليها، كما قال ابن جريج رحمه الله :" القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل". "تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/128).
القرآن العظيم أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم فما جاء نبي بآية أعظم من هذا القرآن العظيم.
جاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :«مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رواه البخاري (4981)، ومسلم (152).
وهذا يبين عظيم منزلة هذا الكتاب الحكيم، وأنه أعظم آيات النبيين، فإن الله تعالى خصَّ رسوله الكريم بهذه الآية الباقية بخلاف آيات الرسل المتقدمة، فإنها على عظيم تأثيرها، وكبير أثرها في هداية الناس، والدلالة على صدق المرسلين إلا أنها محصورة في زمان، وفي مكان، وفي حدودٍ لا تتعداها، ولا تتجاوزها.
فقد جاء موسى عليه السلام بالآيات العظيمة، وجاء عيسى عليه السلام بآياتٍ عظيمة، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم آتاه الله تعالى ما هو أعظم من ذلك، فما من نبي أعطي آية إلا وقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما هو منها من جنسها، وفاقهم صلى الله عليه وسلم بأن آتاه الله هذا الوحي، هذا القرآن العظيم، هذا الصراط المستقيم، هذا الحبل القويم الذي به الهداية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا»، لأنها آية باقية على مر العصور وتعاقب الدهور، فليست محصورة في زمان، ولا محدودة في مكان، بل هي عامة ما تعاقب الليل والنهار، تبلغ كل من يسمع القرآن ويعقل معانيه فإنه آية شاهدة على صدق صاحبه وصحة ما جاء به.
إن الله تعالى وصف هذا القرآن العظيم بأنه أحسن الهدي، { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } سورة الزمر:23. .
وقد أخبر بأنه أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } سورة يوسف:3. ، وأخبر بأنه أحسن الأمثلة، وأن القرآن فيه من الأمثال ما ليس في غيره، وقد قال الله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورً} سورة الفرقان:33..
فالقرآن في أمثاله، وفي أحكامه، وفي قصصه، وفي أخباره جمع الكمال من كل ناحية، كمالٌ في الألفاظ كما أنه كمال في المعاني { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } سورة الأنعام:115. .
أسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم بركة هذا الكتاب الحكيم، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من حلقات هذا البرنامج المبارك، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.