بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الثانية ))
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، رب العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، المبعوث بالقرآن، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات وأهلاً وسهلاً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثالٌ قرآنية" أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
أيها الإخوة والأخوات! الله جل في علاه، رفع شأن كتابه الحكيم، ووصفه بأوصاف جليلة عظيمة فقال سبحانه وبحمده {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} سورة الواقعة: 77. ، وقال جل في علاه {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} سورة البروج:21 ،وقال سبحانه وتعالى مقسماً به {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} سورة ق:1. ،وقال جل في علاه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} سورة ص:29. ،وقال جل في علاه {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} سورة يوسف:1. ،وقال جل في علاه {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} سورة يونس:1. ، وقال جل وعلا {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} سورة الأنبياء:50. ، وقال جل في علاه : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام] وقالجل في علاه : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} سورة ص:29. .
هذه الأوصاف العظيمة التي ذكرها الله تعالى في محكم كتابه واصفاً هذا القرآن العظيم، أوصافٌ تنبئ عن رفيع قدر هذا الكتاب، وشريف مكانته، وعظيم منزلته عند الله تعالى، فإنه كتابٌ كريم، غزير الخير، كثير العلوم والمعارف، كتاب مجيد لسعة فيضه وكثرة جوده، واشتماله على صفات الكمال، وخلال الفضل والسبق، والصدق والبيان والنصح، إنه كتاب عزيز كما قال الله جل في علاه، وهو كتابٌ مبارك كثير الخير وكثير البر وكثير البركة، فمن أقبل عليه فاز بخير عظيم وبر كبير فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، هم أولياؤه الذين يحبهم ويقربهم، هم أهله الذين يخصهم بعنايته ورعايته، وتأييده ونصره جل في علاه.
إن تلك الصفات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى لكتابه يتفاوت الناس في تحصيل كرم القرآن، يتفاوت الناس في تحصيل مجده، يتفاوت الناس في تحصيل بركته، يتفاوت الناس في فهم بيانه، كل ذلك التفاوت هو ناشئ وراجع إلى أمر عظيم مهم ألا وهو تدبر هذا القرآن العظيم، فإن تدبر هذا القرآن هو السبيل الذي تدرك به هذه الآثار، ويفوز بها العبد بتلك الثمار.
إن كرم القرآن وجوده، ومجده وبركته، وكمال صفاته لا يدرك إلا بتدبر آياته العظيمة التي حثَّ الله تعالى الناس على تدبرها، وجعل تدبرها سببا للفوز في الدنيا والآخرة.
إن تدبر القرآن فرضٌ على كل من بلغه هذا الكتاب الحكيم، ولهذا نصَّ العلماء رحمهم الله أن تدبر القرآن فرضٌ على كل مكلف وليس خاصاً بأهل العلم، ولا بفئة من الناس، بل أنكر الله تعالى على المشركين الذين بلغهم القرآن أنهم لم يتدبروا ما فيه كما قال جل في علاه، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} سورة المؤمنون:68. ، وقد أنكر الله تعالى على المعرضين عن تدبر هذا القرآن العظيم في مواضع عديدة من كتابه، ومما صرح الله تعالى فيه بالإنكار قوله جل وعلا {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد :24. ، وفي قوله جلَّ في علاه : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} سورة النساء:82. .
إن تدبر القرآن فرض على كل مكلف، فقد ذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فقد جاء في "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أولئك الذين سَفكوا دماء المسلمين، واستباحوا أموالهم بالشبه والضلالات والبدع والانحرافات، قال صلى الله عليه وسلم :«قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3344)، ومسلم في الزكاة (1063). ،وفي رواية أخرى في "الصحيحين" في وصفهم « يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ». رواه البخاري في المناقب(3610)، ومسلم في الزكاة (1064).
والمقصود بهذا أنه لا يبلغ قلوبهم، والقلوب هي محل العقل والفقه والفهم والتدبر والفكر.
إن مما يدل على وجوب تدبر الكتاب الحكيم، أن السلف رحمهم الله ذموا من قرأ القرآن دون تدبر، ففي "الصحيحين" عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، ...فَقَالَ: إِنِّي لأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ- والمفصل من سورة ق إلى الناس-، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ -معلقا على هذا الخبر -:" هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ". رواه البخاري في الأذان (775) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها(822) واللفظ له.
إن سلفنا الصالح كانوا على كمال العناية بتدبر الكتاب الحكيم، وهذا ديدن عباد الله تعالى المتقين من أولي العلم الذين يقرؤون الكتاب قراءة حيَّة يحركون بها القلوب كما وصف الله تعالى {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} سورة الإسراء: 107- 109. .
إن تدبر القرآن يعني أن يتفكر الإنسان في معاني كلام الله تعالى، وأن يتأمل في تلك الآيات الحكيمة، وأن يحاول أن يستنبط منها الفوائد والعبر والعظات، سواء أكان ذلك في الأحكام أو كان في القصص أو كان في الأخبار، أو كان فيما يتعلق في أمر الدنيا أو فيما يتعلق في أمر الآخرة أو فيما يتعلق بصفات الله تعالى والخبر عن نفسه.
إن المؤمن يقرأ القرآن ويتصفحه على هذا النحو الذي ذكره الآجري رحمه الله انظر "أخلاق أهل القرآن" ص(6). ، يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه، همته متى أكون من المتقين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصابرين، متى أزهد في الدنيا، متى أنهى نفسي عن الهوى...إلخ.
يعرض نفسه على كتاب الله تعالى ليعالجها، وليصلح خللها وليقيم معوجها.
هذا هو التدبر الذي دعا إليه الله جل وعلا.
هذا هو التدبر الذي أمر الله به سبحانه وتعالى.
إن تدبر القرآن حياة القلوب ونعيمها، وتدبر القرآن يكون لجميعه، ومن ذلك تدبر الأمثال التي ذكرها الله تبارك وتعالى وقصها في محكم كتابه، فإن الله تعالى ذكر هذه الأمثال وهي من أحسن الأمثال، ومن أحسن الأخبار.
إن تدبر القرآن العظيم يشمل تدبر جميع ما فيه من الأخبار، ومن الأحكام، ومن القصص، ومن الأمثال، وقد أمر الله سبحانه بتدبر الأمثال والتفكر فيها، فقال جل وعلا { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الحشر: 21. .
أسأل الله العظيم أن يرزقنا الفقه في كتابه، أن يعلمنا التأويل، وأن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجعلنا من حزبه وأوليائه، وإلى أن نلقاكم في حلقة جديدة من هذا البرنامج المبارك.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.