بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة السابعة))
الحمد لله رب العالمين، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، أحمده حق حمده له الحمد كله أوله وآخره ظاهره وباطنه.
وأشهد أن لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان على يوم الدين.
أما بعد.
فحياكم الله وأهلاً وسهلاً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
قصَّ الله تعالى في أول مثل ذكره في كتابه خبر المنافقين، وشبه حالهم، وصوَّر مآلهم، وبيَّن ما هم عليه في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} فأبصر ورأى ،واستدفء وأدرك شيئاً من المنافع {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}.
الله أكبر! ما أعظم هذا التمثيل، وما أشأم هذه العاقبة لأولئك الذين استناروا بأنوار الشريعة، واستضاءوا بهدي الوحي، فأبصروا ورأوا من دلائل الحق ومعالمه ما عرفوا به نعيم الدنيا وسعادتها، ما أدركوا به بهجة القلوب وسعادة الأفئدة إلا أن ذلك كان حولهم ولم يصل إلى قلوبهم، فكان الحال كما ذكر الله جل وعلا {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} فعطَّل مسامعهم وأبصارهم.
إلا أن الحال كما قال الله جل وعلا { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}.
ولك أن تطلق الخيال لتصور هذه الحال، فإن هؤلاء بعد أن رأوا ما رأوا دخلوا في ظلمة عظيمة، ظلمة لا يبصرون فيها شيئاً، لا يدركون فيها هدى، لا يدركون فيها منافع، وفوق هذا سُدَّت عليهم أبواب الهداية، وحيل بينهم وبين طرق الرشد.
قال جل وعلا { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}، وهذه الأبواب الثلاثة هي أبواب الإدراك، فقد مُنعوا من السمع، وعُطِّلوا عن الحديث، وأغلقت أبصارهم فهي في غشاوة.
أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان.
عيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن.
وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون، كما قال جل في علاه {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}.
ولا يعني هذا أنهم لا يستطيعون ذلك، بل لما عطَّلوا هذه الطرق، فعطَّلوا أسماعهم عن سماع الهدى، وعطَّلوا ألسنتهم عن التكلم بالحق، وعطَّلوا أبصارهم عن إبصار الهداية كانوا كمن لا يسمعوا، ولا يبصروا، ولا يرى.
وقد جرى في كلام العرب، إطلاق العمى، وإطلاق البَكَم، وإطلاق الصمم على من لم يستعمل تلك الجوارح فيما يصلح لها، وفيما ينتفع بها.
ولهذا قال الشاعر : "أصم عمَّا ساءه سميع" انظر "تفسير القرطبي"(1/214). .
فهو لا يسمع ما يسوءه ،لكن ليس لخلل في سمعه وإدراك الأصوات، بل سمعه وإدراكه للأصوات قوي حاضر لكنه لا يسمع ما يسيئه وما يكرهه.
وبعد هذا الوصف والبيان بانسداد الطرق التي تصلح بها حال هؤلاء، أخبر الله جل وعلا أنهم { لَا يَرْجِعُونَ}، أي لا ينزعون عما هم فيه، على عظيم ما يصطلون به من ضلالة وظلمة، وشر وسوء حال إلا أنهم لا يرجعون عن ذلك المقام ولا يتركون هذا الطريق إلى النور الذي أبصروه وأدركوا شيئاً من هداياته.
هذا المثل العظيم فيه من الهدايات والدلالات ما يقف عليه الإنسان بالتأمل فإن الله تعالى جعل طريق الانتفاع بالقرآن، لاسيما فيما يتصل بالأمثال الفكرة والعقل، والتدبر والنظر.
فمن هدايات هذا المثل:
بيان ما في هذا القرآن العظيم من إعجاز وبلاغة، وإيضاح يفوق الوصف، فهو جليٌ ظاهر سلك كل سبيل وطرق كل باب لإيضاح المعاني وتقريبها كما قال جل وعلا {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} سورة القمر:17. .
ومن تيسير القرآن تيسير معانيه، ومن تيسير القرآن تنوع أساليبه، ومن تيسير القرآن عظيم دلالته على الحق وإيضاحه.
ومن هداية هذا المثل: بيان خطورة النفاق، وكبير ضرره على الأمة، فالنفاق شأنه عظيم، وخطره كبير، استوجب أن يذكر الله جل وعلا مثالاً يظهر به سوء حال المنافقين، يبين به شؤم منقلبهم في دنياهم وأخراهم، فهم كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول، رب نفس تلفها ظلمات وهي في عالم كثير الضياء.
هذا هو حال المنافقين، فإن المنافقين قد أدركوا أنوار الهدايات بما أظهروه من أنوار الإسلام، و بما أخذوا به من خصال هذا الدين القويم الذي عصموا به دماءهم وأموالهم، لكنهم لم ينتفعوا بهذا النور المبين وبهذا الهدي القويم.
"ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي".
فهم معهم أساب الهداية لكنهم عنها في معزل، وهم عنها بعيدون، وذلك كما قال الله تعالى في هذا المثل:{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}.
من هدايات هذا المثل، ومن دلالاته أن هذا الوحي العظيم نور تُشرق به القلوب، نور تُشرق به الأعمال، نور تُشرق به الدنيا بعد ظلماتها، وقد وصف الله تعالى هذا الكتاب العظيم، وهذا الدين القويم بأنه نور كما قال جل في علاه {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} سورة المائدة: 15. .
وقال سبحانه وبحمده :{ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} سورة التغابن: 8..
وقال سبحانه وبحمده :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} سورة النساء:174..
فلا إله إلا الله ما أعظم أنوار هذه الشريعة، فالإيمان كله نور، ومآل أهله إلى نور، وقلوب أصحابه مملوءة نوراً، كلهم في ضياء، وإشراق وهداية ،وبهجة وسرور، كما قال الله تعالى في وصف من اهتدى بهدي القرآن {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} سورة الزمر:22..
وقال جل وعلا {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} سورة الأنعام:122..
وكما قال جل في علاه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة الحديد:28..
إن هذا الكتاب، وهذه الشريعة، وهذا الوحي هدى ونور لكل من استنار به، ولكل من أخذ به.
في القلب نور ونور الحق يمدده *** يا حبذا نوره من واحد أحد
نور على النور في نور تنوره *** نور على نور دلال على الصمد
هؤلاء المنافقون حرموا هذه الأنوار مع أنها أحاطت بهم من كل جانب.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكفينا شر وشؤم النفاق، وأن يجعلنا من أهل التحقيق أهل الإيمان والرسوخ، وأهل اليقين والصدق.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.