بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة التاسعة ))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
أحمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الرحمن الرحيم، العليم الخبير، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من حلقات برنامجكم "أمثال قرآنية".
تكلمنا في حلقات مضت عن مثلين ذكرهما الله تعالى في أول ما ذكر من الأمثلة في كتابه الحكيم.
إنهما مثلان بيَّن الله جل وعلا فيهما أحوال المنافقين، كما وصف ما انتهى إليه حالهم، وما يصير إليه مآلهم، وفي هذا من العبرة والعظة ما يستوجب أن يقف عنده المؤمن، فإن الله جل وعلا قسم الناس إلى ثلاثة أقسام، ذلك في أول سورة من سور الكتاب الحكيم بعد الفاتحة، في سورة البقرة.
فقد ذكر الله تعالى المتقين، وذكر الكافرين، ثم ختم ذلك بذكر المنافقين، ابتداء من قوله جل في علاه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} سورة البقرة:8..
فصَّل الله تعالى في ذكر صفات هذا الصِنف وبيَّن من أحوالهم ما يوجب الحذر من أن يكون في المؤمن شيء من تلك الأوصاف، فإنها حال ملتبسة بين أهل الإيمان والتقوى، وبين أهل الكفر والشرك.
إن المنافقين الذين بيَّن الله تعالى أوصافهم ذِكراً وتفصيلاً، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} ،{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} سورة البقرة 9-14..
كل هذا الوصف وذلك البيان لحال أولئك، أعقبه الله تعالى بذكر مثلين لهؤلاء حتى يتضح المقام ويستبين السبيل، ويهتدي من يريد معرفة هؤلاء على وجه الكمال.
قال الله جل وعلا {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} سورة البقرة:17. ، وهذا هو المثل الأول، ثم قال :{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} سورة البقرة:19.، وهذا هو المثل الثاني.
هذا التفصيل وذلك البيان والإيضاح، وهذا التمثيل والتصوير كله لتنفير المؤمنين عن حال هؤلاء ، فقد بيَّن الله تعالى من أحوالهم ما يوجب الحذر منهم، حتى إن الله تعالى قال :{ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} سورة المنافقون:4., في سورة أخلصت في ذكر أحوال المنافقين، كما قال جل في علاه في أولها وصدرها، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ثم قال {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.
فحصر العداوة فيهم لشدة ضررهم وعظيم خطرهم على أهل الإسلام.
إن الله تعالى حذَّر من المنافقين، وبيَّن خطورة ما هم عليه فقال جل في علاه، آمراً رسوله بجهاد هؤلاء {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} سورة التوبة :73.،كما بيَّن جل وعلا خطورة طاعة هؤلاء وقرنهم بالكافرين فقال : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الأحزاب:1..
وخطورة المنافقين على أهل الإسلام خطورة بيِّنة ظاهرة، حتى قال ابن القيم رحمه الله:"فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد".
ثم قال رحمه الله :" فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه ! وكم من علم له قد طمسوه !" "مدارج السالكين"(1/347-348).، إلى آخر ما ذكر رحمه الله في بيان خطورتهم وسوء حالهم.
إن السلف الصالح على عظيم ما كانوا عليه من التقوى والإيمان وكبير ما تبوؤه من صالح الأعمال والسبق إلى الأعمال الجليلة والخصال الفاضلة الكريمة، كانوا كباراً في أعمالهم، أبرارا في قلوبهم، ومع ذلك كانوا يخافون النفاق على أعمالهم، ويتحسسونه في مسالكهم، حتى قال حنظلة رضي الله عنه لأبي بكر لما لقيه فقال له: كيف أنت يا حنظلة، قال حنظلة: نافق حنظلة، قال أبو بكر رضي الله عنه: - وقد هاله الجواب- :سبحان الله ما تقول، قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين – أي كأننا نراهما بأعيننا- فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«وما ذاك ؟» قال حنظلة: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» كررها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات أخرجه مسلم (2750)..
هؤلاء القوم لما تقرر عندهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه، أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه، تغير عليه رقته وخشوعه، عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك من النفاق، فلذلك كانوا يخشون النفاق ويتحسسون منه رضي الله عنهم.
وقد نقل جماعة من كبار التابعين، وأئمة الأمة في الصدر الأول حال الصحابة رضي الله عنهم وكيف كانوا يخافون النفاق على أنفسهم.
قال ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:" أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ" أخرجه البخاري معلقا في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر..
لقد أدرك ابن أبي مليكة رحمه الله جملة من أكابر الصحابة كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وأسماء وغيرهم رضي الله عنهم.
هم الذين قصَّ عنهم قوله رحمه الله :"أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ".
ولقد كان عمر يقول لحذيفة ناشدتك الله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ - يعني ممن سمّى من المنافقين-، قال :لا ، ولا أزكي بعدك احداً أصله في مسلم (2779)..
هكذا كان أولئك يخافون النفاق على أنفسهم لأنه لا يأمن النفاق على نفسه إلا من غفل عن إصلاحها وتزكيتها.
قال الحسن البصري رحمه الله :"مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ" أخرجه البخاري معلقا في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر..
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِىُّ:" مَا عَرَضْتُ قَوْلي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذَّبًا" أخرجه البخاري معلقا في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر..
كل هذا ينبغي أن يترجم في واقعنا وأحوالنا .
إننا بحاجة إلى أن ننظر إلى النفاق من زاوية أن النفاق الأصغر هو السبب والسبيل والطريق الذي يوصل إلى النفاق الأكبر.
كثير من الناس يغفل عن خصال النفاق الأصغر، فيقع من حيث لا يشعر في خصال النفاق الأكبر، وذلك لكونه مَرَن ودرب على خصال النفاق الأصغر.
إن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر خصال النفاق وشعبَه وخلالَه، في أحاديث كثيرة منها ما في "الصحيين" من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم :«أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58)..
وفي رواية حديث أبي هريرة «وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » أخرجه البخاري (33)..
أيها الأخ الكريم، أيتها الأخت الكريمة، كم فينا من هذه الخصال التي حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا نشعر.
إن النفاق الأصغر هو نفاق العمل، وهو الذي خافه الصحابة رضي الله عنهم على أنفيهم، فينبغي للمؤمن أن يحذر هذه الخصال، وأن يتخلى منها، فكل خصلة من خصال النفاق الأصغر التي تضمنتها الأحاديث هي خطوة يتقدم بها الإنسان إلى النفاق الأكبر، نعوذ بالله من النفاق صغيره وكبيره، جليله وحقيره.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يطهر قلوبنا وأخلاقنا من النفاق، وأن يعمرها بالطاعة والإحسان، وأن يجعلنا من حزبه وأولياءه وأن يخلصنا بخالصة ذكرى الدار، وأن يجعلنا من المصطفين الأخيار.
أقول هذا القول وأسأل الله لي ولكم التوفيق إلى صالح العمل.
وإلى أن ألقاكم في حلقة جديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.