بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة العاشرة ))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملأ السماوات والأرض وملأ ما شاء من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا له عبد جل في علاه، لا نحصي ثناء عليه.
أحمده سبحانه وبحمده هو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، رب العالمين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله بهذا الكتاب المبين، وهذا النور القويم، وهذا الصراط المستقيم، فتركنا على محجة بيضاء لا يلتبس فيها حق بباطل، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فحياكم الله وأهلا وسهلا ومرحبا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم " أمثال قرآنية".
وفي هذه الحلقة نتناول مثلاً ذكره الله تعالى بعدما قصَّ من خبر بني إسرائيل ما يوجب العظة والعبرة من حال هؤلاء، فقد قصَّ الله تعالى في سورة البقرة خبر قتل نفسٍ من بني إسرائيل، يقول الله جل وعلا مذكرا بني إسرائيل ما كان منهم:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} سورة البقرة: 72.،أي اتهم بعضكم بعضا بقتل هذه النفس، {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فدلهم الله تعالى إلى طريق يتبين به القاتل {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فحياة تلك النفس التي قتلت وأخبرت بمن قتلها، ثم أماتها الله تعالى إلا أن بني إسرائيل بعد هذه الآية البينة والدلالة الواضحة التي تبين بها صدق من أخبر بالقتل، وكذب من نافاه عادوا لما كانوا عليه من تكذيب وتدافع في القتل، فقال جل وعلا معقباً على تلك القصة التي أخبر فيما بما أخبر {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي صلبت وعست واشتدت وغلظت كل هذه المعاني يفسَّر بها قسوة القلب.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي قلوب هؤلاء الذين لم يقبلوا تلك الآية، ولم يمتثلوا صدق ما أخبرت به النفس المقتولة، قست قلوبهم فأضاف القسوة إلى القلب، وقسوة القلب أمر معنوي، فإن القلوب القاسية إذا شُقَّت، فإن أصحاب القلوب القاسية لا يختلفون في الشكل والمظهر، ولا في الملمس والجوهر عن أصحاب القلوب اللينة، فالقلب مضغة لا تختلف من حيث الشكل بين المؤمن والكافر.
فهذه القسوة التي أضافها الله تعالى إلى القلب، قسوة معنوية، فلما كان الأمر يحتاج إلى تقريب وإيضاح لمعنى القسوة التي تعتري القلوب، جاء بيانها وإيضاحها بهذا المثل المضروب في هذه الآية الكريمة.
يقول الله جل وعلا {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ذلك الإيضاح وذلك البيان الذي تبين به الصادق من الكاذب {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي قلوبكم في قسوتها وصلابتها، في غلظها ويبسها كالحجارة أو أشد قسوة، وقوله جل وعلا {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} من أهل العلم من قال إنه للتنويع، فقلوب بعضهم على هذه الحال، وقلوب بعضهم على تلك الحال، ومنهم من قال {أو} هنا لاشتباه قلوبهم على الناظر، فمنهم من يشبَّهها بالحجارة، ومنهم من يشبِّهها بأشد من الحجارة قسوة .
ومن أهل العلم من قال إن {أو} في هذا المقام هي بمعنى بل، أي أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة، فهو نوع من الترقي في وصف هؤلاء حيث قال جل وعلا:{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} بمعنى بل أشد قسوة.
وهذا له نظائر في كلام الله جل وعلا، منه قوله سبحانه وبحمده في قصة يونس وإرساله إلى قومه كما قال جل في علاه:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} سورة الصافات:147.،أي بل يزيدون.
هكذا قال جماعة من أهل العلم في تفسير هذه الآية وبيان معناها.
إن الله تعالى شبَّه قلوب هؤلاء بالحجارة في قسوتها وغلظها، إلا أنه بعد هذا التشبيه بيَّن فرقاً بين قلوب هؤلاء وبين الحجارة، يتضح به أن قلوب هؤلاء كانت أشد قسوة من الحجارة.
ثم قال جل وعلا :{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وهذا بيان لصورة ثانية من صور تأثر الحجارة وانفعالها مع قسوتها وصلابتها وشدتها.
يقول الله جل وعلا :{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، فمن الحجارة ما يسقط من خشية الله تعالى.
وقد قال بعض أهل العلم :"إن هذا السقوط والتردي للحجارة هو من آثار قدرة الله تعالى التي تظهر بالبراكين أو بالزلازل".
إلا أن الأقرب في معنى الآية أن هذه الهبوب بسبب خشية الله جل وعلا كما قال جل في علاه :{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وهذه الحجارة والجمادات لها عقول مناسبة لها تدرك بها عظمة الله تعالى، فتحقق ما ذكره الله جل وعلا في مثل قوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} سورة الحج:18..
وتُحقق بها قول الله جل وعلا:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} سورة الإسراء:44..
فهذا السجود، وذاك الخشوع، وذاك الهبوط، هو مما جعله الله تعالى في تلك الكائنات، وفي تلك المخلوقات، ومنها الجبال التي قال الله تعالى آمراً إياها: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} سورة سبأ:10..
وقد قال الله جل وعلا في بيان صورة من صور خشية الجبال وتعظيمها لله تعالى {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} سورة الأعراف:143. .
إن هذه الصور تفسر هذه الخشية وتبين ذلك المعنى الذي تضمنه هذا المثل، وقد قال جماعة من أهل التفسير كل حجر يتفجَّر منه الماء أو ينشق عن ماء أو يهبط من جبل فمن خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن أخرج هذا القول الطبري في التفسير من قول ابن جريج (2/137). يشير إلى ما في هذه الآية الكريمة من بيان تأثر الحجارة من أمور داخلية لطيفة ، أو بأمور خارجية مباينة.
إن الله تعالى بيَّن في هذا المثل أن الحجارة على عظيم قسوتها الظاهرة وغلظتها وشدتها وصلابتها إلا أنها ألين من قلوب بعض بني آدم.
الله تعالى ختم هذا المثل بقوله جل وعلا : {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: أن هذه القسوة وهذا الإعراض عن الآيات والدلائل البينة، وفي علم الله جل وعلا، فالله تعالى ليس غافلاً عما يعمل الظالمون، كما قال جل في علاه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} سورة إبراهيم:42..
بل هو يحصي أعمالهم، وهو محيط بما يكون منهم {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} سورة الأنعام:112..
وفي هذا من تهديد أصحاب القلوب الحية ما يزجرها عن هذه القسوة، ويبعدها عن هذا المسلك الرديء صدق الله ومن أصدق من الله قيلا.
وبهذا نأتي إلى نهاية هذه الحلقة من برنامجكم "أمثال قرآنية" وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.