بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الحادية عشر ))
الحمد لله رب العالمين، أحمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، له الحمد كله، أوله وآخره ظاهره وباطنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله في ظلمات فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، أشرقت به القلوب، واستنارت به السُبل، واستوضح به السبيل، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في حلقة جديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
ضرب الله تعالى في محكم كتابه مثلاً بيَّن فيه مدى ما تبلغه القلوب من القسوة والغِلَظ، والشدة واليبس، فقال جل في علاه :{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} سورة البقرة:74..
قسوة القلوب شأنها خطير، وأثرها كبير، ولذلك مثَّل الله تعالى للقلب القاسي هذا المثل حتى يتبين للناس ما مدى ما يبلغه هذا القلب من الجفاف والصلف، والصلابة والغلظ، وكيف ينعكس ذلك على انتفاعه وسيره إلى ربه جل في علاه.
فإن القلوب هي المراكب التي يسير بها الناس إلى الله جل وعلا، الناس في سفرهم إلى الله لا يسيرون بأقدامهم، ولا يصلون إليه بسير أبدانهم، بل السير إلى الله تعالى إنما هو سير القلوب.
قطع المسافة بالقلوب إليه في درك ***الأصول مع الفروع وذان "متن القصيدة النونية" ص(184)..
ولهذا احتفى القرآن العظيم ببيان خطورة قسوة القلب، وبيان آثارها وأضرارها كما جاء ليبين فضل سلامة القلب، وعظم الخير الذي يجنيه أصحاب القلوب اللينة، أصحاب القلوب المنيرة، أصحاب القلوب الحية.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} سورة الأنعام:122..
شتَّان بين من لانت قلوبهم واستنارت أفئدتهم، بأنوار الرسالة، وبين أولئك الذين هم في ظلمات لا يبصرون.
إن الله تعالى أنزل الذكر الحكيم ليلين القلوب ويطيبها، ويزكيها، ويرقيها في درجات الصلاح والعلو والارتفاع والسلامة.
ولهذا ذكر الله تعالى خطورة قسوة القلب وعاقبة أهلها، بل جعل جل في علاه قسوة القلوب عقوبة لأولئك الذين أعرضوا عن الذكر فقال جل وعلا: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، فإن هذا عقوبة من الله تعالى على ما بُلي به هؤلاء، فإن هذا عقوبة من الله تعالى لإعراضهم عما جاءت به الرسالات، وعما جاء به الرسل، وقد قال الله تعالى { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} سورة الحج:53..
فجعل الله تعالى رأس العقوبات قسوة القلب، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم عظيم خطر قسوة القلب وأنها أعظم العقوبات وأشد البلايا والرذيات التي يبلى بها الناس.
إن الله تعالى توعَّد أصحاب القلوب القاسية بالويل، فقال جل في علاه: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} سورة الزمر:22..
وقد جعل الله تعالى قسوة القلب محلاً لوسوسة الشياطين وتسلطهم وعملهم فقال جل في علاه: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الحج : 53..
والقاسية قلوبهم ليبسها وصلابتها، أعرضت عن الانتفاع بالحق، فتمكن منها الشيطان، وقد جعل الله تعالى أصحاب القلوب القاسية من نصيب الشيطان، كما قال {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} سورة المجادلة:18..
والقلب القاسي هو القلب الميت الذي لا يقبل الحق ولا ينقاد له، ولا يلين للهدى ولا يتعظ به.
فقسوة القلب سبب لكل رذية عنها تصدر كل رذيلة ظاهرة أو باطنة.
يا قَسْوَةَ الْقَلْبِ مَا لِي حِيلَةٌ فِيكِ *** مَلَكْتِ قَلْبِي فَأَضْحَى شَرَّ مَمْلُوكِ
حَجَبْتِ عَنِّي إفَادَاتِ الْخُشُوعِ *** فَلَا يَشْفِيك ذِكْرٌ وَلَا وَعْظٌ يُدَاوِيك
وَمَا تَمَادِيكِ مِنْ كَنْفِ الذُّنُوبِ وَلَـ *** كِنَّ الذُّنُوبَ أَرَاهَا مِنْ تَمَادِيكِ انظر "الآداب الشرعية".
إن قسوة القلوب سبب لسلسلة طويلة من الآفات الظاهرة والباطنة، من الأخلاق الرديئة التي تورد الإنسان موارد الهلاك في الدنيا، كما أنها سبب العطب والفشل في الآخرة.
أيها الإخوة والأخوات.
إن قسوة القلب تبدأ تدريجاً، كما أنها تزول تدريجاً، فلذلك ينبغي للمؤمن أن يكون على فطنة من قلبه، وعلى انتباه لحال هذا القلب، فإنه بعناية الإنسان بقلبه، وقيامه عليه، واهتمامه به تستقيم أموره وتصلح أحواله.
وقد حذَّر الله تعالى المؤمنين من طول الأمد، وعدم الانتفاع بآيات الكتاب الحكيم، وجعل ذلك من أسباب قسوة القلوب، فقال جل في علاه: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} سورة الحديد:16..
إن قسوة القلوب تحصل بأسباب عديدة كثيرة، فأسباب قسوة القلب في الجملة هي الذنوب والمعاصي، هي كثرة الغفلة وصحبة الغافلين، كل هذه الخلال هي من أسباب قسوة القلوب، ومن أسباب غلظها ويبسها، فالذي يقبل على الدنيا غافلاً عن الآخرة، الذي ينسى الموت، الذي يتعلق بغير الله، الذي يقع في الإسراف سواء كان في مأكل أو مشرب أو غير ذلك من شؤون الحياة، كل ذلك من أسباب قسوة القلب.
وقد عدَّ العلماء قائمة طويلة من الأمور التي تثمر قسوة القلوب وجفائها، وتنتج غلظها ويبسها، إلا أن ذلك كله يجتمع فيما ذكرته أولاً أن كل مخالفة، كل معصية يعصي به العبد ربه جل في علاه فإن ذلك من أعظم أسباب وموردات القسوة إلى القلوب.
أيها الإخوة والأخوات.
إن قسوة القلوب يلينها ذكر الله جل وعلا.
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله :"إن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى.
وقد ذَكر حماد بن زيد عن المعلى أبن زياد أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي.
الله أكبر! ما أشد عنايتهم بقلوبهم، فهذا رجل يسأل الحسن رحمه الله، فيقول: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذبه بالذكر، وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز و جل""الوابل الصيب"ص(99)..
ولهذا ينبغي للمؤمن أن لا يبخس نفسه من ذكر الله تعالى، وكثرة الورود على موارد الذكر التي تحيي القلوب وتنيرها، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أثر الذكر في تليين القلوب، ففي "الصحيحين" من حديث أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :«مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» أخرجه البخاري (6407) واللفظ له، وأخرجه مسلم (779) بلفظ : « مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لاَ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِ وَالْمَيِّتِ»..
إن الذكر حياة القلوب، ونورها، واستقامتها، ولينها، فبقدر ما مع الإنسان من ذكر الله جل وعلا قائماً وقاعدا، وعلى جنب.
الذكر بمعناه العام الذي يشمل ذكر القلب، وذكر اللسان، وذكر الجوارح، يكون الإنسان قد فاز بلين قلبه وصحته وسلامته.
إن القرآن الحكيم دواء القلوب، ولذلك جعله الله تعالى سببا للينها، وإزالة الصلابة والجفاء عنها.
الله جل وعلا يقول في القرآن الحكيم: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} سورة الرعد:31..
أين كان هذا القرآن، وقال جل في علاه في بيان أثر القرآن: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الحشر:21. .
لذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على قراءة القرآن والإكثار من تدبر آياته والتأمل في معانيه، فإنه من أعظم ملينات القلب.
وحافظ على درس القرآن فإنه *** ملين قلبا قاسيا مثل الجلمد انظر "المنظومة الدالية" لابن عبد القوي..
وأقول بعبارة مختصرة جامعة: إن كل حسنة، كل طاعة، كل قربة، صغيرة أو كبيرة، ظاهرة أو باطنة، هي من أسباب لين القلب، لكن هذه الطاعات متفاوتة، وأعظمها كلام الله الذي تطيب به القلوب {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} سورة الرعد:28..
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم" أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.