بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الثانية عشر ))
الحمد لله رب العالمين، أحمده حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله،وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعياً إليه بإذنه وسراجا منيرا، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، بالعلم والبيان، والسيف والسِنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن ابتع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذا اللقاء من برنامجكم "أمثال قرآنية".
في هذا اللقاء سنتناول قول الله جل وعلا: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} سورة البقرة:171..
هذا المثل ضربه الله جل وعلا في كتابه للكافرين، وقد تقدم هذا المثل ما ذكره الله تعالى من أخبار الأتباع والمتبوعين يوم القيامة، ثم قال جل وعلا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} سورة البقرة:168.، ثم قال سبحانه وبحمده:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} سورة البقرة:170.، بعد ذلك كله ذكر الله تعالى هذا المثل.
فهذا المثل له صلة بما تقدم من الآيات، والمقصود بهذا المثل في قول أهل العلم على قولين:
القول الأول: أن المقصود بالمثل هنا اليهود، وذلك أن الله تعالى قصَّ من أخبار بني إسرائيل وبيَّن من أحوالهم ما يدل على أنهم المعنيون بهذا المثل.
وقال آخرون - وهو القول الثاني- في المقصود بهذا المثل، أن المقصود بهذا المثل هم أهل الشرك الذي اتبعوا كبرائهم وآبائهم، ولم ينقادوا لما جاءت به الرسل من الهدايات والدلالات، وعلى كل حال الله تعالى أطلق في هذه الآية فقال جل وعلا:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وهذا يشمل كل كافر انطبقت عليه هذه الصورة، وتشكل فيه هذا المثل.
يقول جل وعلا:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}.
هذا التمثيل، مثَّل الله تعالى فيه حال الكفار، إما مع من يعظهم ويدعوهم إلى الهدى، وإما مع أصنامهم، وتوجههم إلى تلك الأصنام بالدعاء والسؤال.
ولهذا موضوع المثل يحتمل معنيين في كلام المفسرين.
المعنى الأول: أن هذا المثل ضربه الله تعالى لبيان حال واعظ الذين كفروا، وحال وعظهم، فهذه حال الأنبياء مع الكفار في الوعظ.
مثل الأنبياء في وعظهم كمثل نعق الناعق، والنعق هو صوت الراعي الذي يصيح ببهائمه فيدعوهم إلى ما ينفعهم من مأكل ومشرب أو مراح أو مسرح.
فالله تعالى مثَّل دعاء الأنبياء لهؤلاء بحال الراعي الذي يدعو تلك البهائم التي لا تعقل إلا دعاء ونداء، فهي لا تعلم من قول راعيها شيئاً، بل تعقل صوتاً تقبل به، وصوتاً تدبر به، ويستوي في إقبالها على المرعى الذي تنتفع به، وعلى مكان الذبح الذي تذبح فيه.
فهي لا تعقل من دعاء الداعي إلا الصوت الذي تقبل به وتدبر، وهو دال على أنهم لا ينتفعون من دعوة رسلهم وبيانهم وإيضاحهم إلا مجرد صوت.
وقد تكرر وصف حال الكفار مع أنبيائهم في عدم استجابتهم وسماعهم لما يدعونهم إليه من الهدى والحق، في آيات كثيرة منها قوله جل وعلا {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} سورة الأعراف:198..
وقال جماعة من أهل العلم – المعنى الثاني- : إن هذا التمثيل هو ليس للكفار مع أنبيائهم، إنما هو تمثيل لحال الكافر الذي يدعو غير الله جل وعلا، فالذين كفروا في دعائهم لآلهتهم وأوثانهم وأصنامهم التي لا تسمع ولا تبصر هو كهذا الحال الذي ذكره الله تعالى في هذا المثل،{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
فالمقصود بهذا المثل الكافر عندما يدعو غير الله جل وعلا، ويهتف بأصنام يسألها قضاء الحوائج، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات.
تلك الأصنام وتلك الآلهة والأوثان، لا تملك لأصحابها شيئاً، وهي لا تسمع من قولهم شيئاً، ولذلك قال في المثل {يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}.
وقد قال الله تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} سورة فاطر:14. .
هكذا قال أهل العلم في بيان مقصود هذا المثل.
وعلى كل حال إذا كان اللفظ يحتمل كل هذه المعاني فإنه لا مانع من أن يكون من إعجاز القرآن أن الله تعالى مثَّل استجابة الكفار بالأنبياء، ومثَّل حال الكافر في دعائه غير الله تعالى، ويكون هذا كله مشمولاً بهذا المثل.
إن الله تعالى ذكر في هذا المثل حال هؤلاء الناس مع أنبيائهم، فقال:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ثم بعد أن ذكر تعطَّل حواسهم، وإلغاء تلك النعم التي تصل بها المعارف والعلوم، قال جل وعلا {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
وهذه ثمرة تعطيل السمع، تعطيل اللسان عن الحق، تعطيل البصر عن إدراك ما ينفع.
لقد أسمع منادي الإيمان السامعين لو صادف آذانا واعية، ولقد أشفت مواعظ القرآن تلك القلوب لو كانت واعية، لكنها قلوب غلفتها الشهوات والشبهات فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها الغفلة فأغلقت عنها أبواب الرشد والهداية، وأضاعت مفاتيحها، ران عليها ما تكسب فتعطلت عن الانتفاع بوعظ القرآن وهداياته، وقد قال الله تعالى في وعظ القرآن ونفعه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} سورة ق:37..
وهؤلاء صم عن الحق فلا يسمعونه، بكم عن الحق فلا يتكلمون به ولا ينطقون، عمي عن الهدى وطريق الرشاد فلا يبصرون، ولذلك قال جل وعلا في عاقبة هذا كله {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
وكم من آية ذكر الله تعالى فيها تعطّل أسماع الكفار عن الحق، وذلك لأنها عطلت عن الانتفاع فأصبحت كالعدم {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} سورة محمد:23..
وقال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} سورة الأعراف:179..
قال ابن عباس رضي الله عنه انظر "التفسير القيم" لابن القيم(1/165).: في آذانهم صمم عن استماع القرآن وهو عليهم عمى، أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون، أولئك ينادون من مكان بعيد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء، كم هي الآيات التي وصف الله تعالى بها هؤلاء الكفار، كما قال جل وعلا، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} سورة الأنعام:39..
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} سورة الأنعام:25..
الآيات في هذا كثيرة التي تصف هؤلاء في تعطيلهم ما مكنهم الله تعالى به من آلات المعرفة، والإدراك، وكذلك في نفي العقل عنهم، لأن قنوات العقل ووسائل الإدراك قد عطلت، فأثمر ذلك تعطل الفكر والفهم الذي به ميَّز الله تعالى الحيوان عن الإنسان.
هذا المثل الذي ذكره الله تعالى على كلا التفسيرين، سواء قيل إنه للكفار مع أنبيائهم، ومن يدعوهم إلى الحق، أو للكفار مع آلهتهم، يوجب التأمل والنظر في حال هؤلاء الكفار حيث أعرضوا عن الحق وانصرفوا إلى الضلال وذلك بسبب إعراضهم عن دلائل الحق وآياته وبراهينه.
إن الله تعالى شبههم بالأنعام وقد ذكر ذلك في آيات كثيرة، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} سورة الفرقان:43-44..
فحري بالمؤمن أن يعتني بمثل هذه الأمثال، وأن يتجرد عن أوصاف الكفار في كل شأنهم، وفي كل أحوالهم، فإذا سمع الهدى استمعه بقلب حاضر، وبدنٍ مستعدٍ لامتثال أمر الله جل وعلا، مستجيب لطاعته، مستجيب لأمره ونهيه كما قال الله جل في علاه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} سورة الأنفال:24..
ينبغي للمؤمن أن يعتبر من هذا المثل، فيعلم أن توجهه النافع إنما هو توجهه إلى الله جل وعلا فيفرده بالسؤال والطلب والدعاء والقصد، فلا يلتفت إلى سواه، ولا يطلب غيره، ويعلم أن كل توجه إلى سواه كركض وراء السراب، لا يدرك مطلوباً ولا يفوز بخير، بل يناله الخبل والعطب.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، بصِّرنا بما ينفعنا وأعذنا من مضلات الفتن.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.