بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الثالثة عشر ))
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، يعطي على القليل الكثير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثالٌ قرآنية".
في هذا اللقاء سنتناول – إن شاء الله تعالى – أول الأمثال التي ذكرها الله سبحانه وتعالى للمنفقين في سبيله.
يقول جل في علاه:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة :261..
هذا هو أول الأمثال التي ذكرها الله تعالى للمنفقين والمتصدقين.
فقد مثَّل الله تعالى في هذه الآية المنفقين الذين ينفقون أموالهم، وهذا يشمل كل أنواع المال، سواء كان المال نقداً أو كان المال عَرَضاً، سواء كان طعاماً أو كساءً أو غير ذلك من أوجه المال وأنواعه.
فهؤلاء ينفقون هذه الأموال بأنواعها في سبيل الله قصداً، وفي سبيل الله عملاً.
فهم يريدون الله تعالى بإنفاقهم، وبقصدهم وإراداتهم، كما أنهم يلتزمون أمر الله جل وعلا فيما يخرجونه من الأموال وفي مواضع إنفاقهم، فقوله سبحانه وتعالى {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يتضمن هذين المعنيين، أي أنهم ينفقون الأموال بأنواعها على نية خالصة صافية، وفي الوجه الذي يرضاه الله تعالى ويحبه.
هؤلاء مثلهم كمثل حبة، والحبة هي واحدة حب الحنطة، إذا زرعت وبذرت في الأرض فإنها تنبت، وقد مثَّل الله تعالى هذا العمل الذي يتضمن فعلاً ظاهراً وهو الإنفاق وفعلاً خفياً وهو قصد القلب وإرادته.
مثَّل سبحانه وتعالى هذا العمل بهذا المثل استحضاراً لصورة التضعيف في الأذهان، ليتبين ما الذي يجنيه هؤلاء من إنفاقهم.
فتلك الحبة التي غُيِّبت في الأرض، فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وهو مثل مشاهد تدركه الأبصار، يفهم به ما يكون من عظيم الأجر وجزيل العطاء والمَنِّ من الله تعالى الكريم الواسع المنان الذي يعطي على القليل الكثير، فإن تلك الحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
وهكذا النفقة في سبيل الله، إذا كانت على الوجه الذي أراده الله تعالى قصداً وإرادة وإخلاصاً، وفيما يحب الله تعالى ويرضى من أوجه الإنفاق فإنها تتضاعف كما تتضاعف الحبة التي تُبذر في الأرض فتنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
بل الأمر أعظم، والمضاعفة أكبر، فقد قال الله تعالى {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، أي أن هذه المضاعفة لا تقتصر على هذا العدد، لكن المقصود التمثيل والتقريب، حتى يتصور الإنسان ببصيرة قلبه ما تدركه عينه من تلك الحبة التي تنتج سنابل كثيرة، فينضاف الشاهد العيني إلى الشاهد الإيماني القرآني، فيقوى إيمان المنفق وتزكو نفسه بالنفقة.
الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة التضعيف، ثم ختم تلك الآية، وذلك المثل بقوله جل وعلا {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فهذه المضاعفة هي من سعة عطاء الله تعالى، هي من مقتضيات اتصافه جل وعلا أنه واسع، فهو واسع في عطائه، واسع في إحسانه، واسع في كل صفات الكمال والجلال سبحانه وتعالى.
لكن هذه السعة في عطائه وإحسانه جل وعلا ومجازاته ليست حظوظاً عمياء، ولا خبط عشواء بل هي وفق علمه الذي أحاط بكل شيء سبحانه وتعالى .
ولهذا قيَّد هذه السعة بذكر وصف العلم ، فهو أعلم جل وعلا بمن اهتدى، وهو أعلم بمن يستحق المضاعفة، وأعلم بمن يستحق العطاء الجزيل، هو أعلم بالعمل وبقدر جزاءه وعطائه على ذلك العمل.
ولهذا تلك المضاعفة يتفاوت فيها الناس، فإن العمل قد يكون في صورته واحداً لكنه يتفاوت تفاوتاً كبيراً في ثوابه وأجره من الله جل وعلا في الدنيا والآخرة .
* وسبب هذا التفاوت يرجع إلى أمور عديدة.
- فمن أسباب هذا التفاوت ما يقوم في قلب العبد من النية الصادقة.
فالنية الصادقة الخالصة التي تخلص من كل ريب ورياء وسمعة تكون عظيمة الأجر وفيرة الجزاء من الله تعالى ، وليس هذا في الصدقة فحسب بل هو في كل الأعمال، فالفضل عند الله ليس بصورة الأعمال، بل بحقائق الإيمان.
وقد قال ابن القيم رحمه الله:
وتفاضل الأعمال يتبع ما يقوم ***بقلب صاحبها من البرهان
حتى يكون العاملان كلاهما ***في رتبة تبدو لنا بعيان
هذا وبينهما كما بين السما *** والأرض في فضل وفي رجحان" متن القصيدة النونية" ص(306).
الله أكبر .. ما أعظم تفاوت الأجور، ما أعظم الفرق بين الناس في ثوابهم وعطائهم من الله تعالى، فإنه بَوْن شاسع كما بين السماء والأرض في فضل وفي رجحان.
- الأمر الثاني الذي تتفاوت به الأجور والثواب على العمل فيما يتصل بالصدقات والنفقات، نوع المال المنفق.
فإنه إذا كان المال طيباً نقياً طاهراً، كان ذلك من أسباب علو الأجر والثواب عند الله تعالى.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» أخرجه البخاري باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم باب قبول الصدقة من الكسب الطيب (1014)..
هكذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عظيم المضاعفة، بل عظيم عناية الله تعالى بالصدقة إذا كانت من الطيب فإن الله يقبلها، وهو يتقبلها بيمينه جل في علاه.
وبعد هذا التقبل يتبعه عناية ورعاية، حيث قال صلى الله عليه وسلم «ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ» أي المهر الصغير وهو من أجاود أموال العرب في الزمن السابق «حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» أي في عظمه وعلوه.
ولذلك نهى الله تعالى المؤمنين عن إنفاق الردئ، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} سورة البقرة :267..
أي هذه النفقة كلما عظمت ففضلها وأجرها وخيرها وعاقبتها تعود لكم، فالله جل وعلا غني عنكم وعن صدقاتكم، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} سورة الحج: 37..
- إن من أسباب تفاوت الأجر في الصدقة، أوجه الإنفاق فإنه بقدر ما يحصل من النفع ، وبقد ما يكون من الخير الحاصل بالنفقة يكون ذلك من دواعي عظم الأجر .
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، بينه جلياً فقال صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة في المفاضلة في الإنفاق وأوجهه، قال:«دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» أخرجه مسلم (995)..
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت الأجر بحسب موضع الإنفاق.
والقاعدة في هذا أن الفضل يتفاوت بحسب نفع الإنفاق، ومصارفه ومواقع وضعه، وبحسب طيب المنفق وزكائه.
كل هذه المعايير مما يتفاوت به الأجر والثواب، وما كان نفعه عاماً وأثره باقياً كان ذلك أكبر في الأجر، وأعظم في العطاء والثواب.
ولهذا ينبغي لأصحاب النفقات سواء كانت النفقة واجبة أو كانت النفقة مستحبة أن يتحروا في موضع الإنفاق فينظروا في أوسع أوجه الإنفاق نفعاً، وإن أعلى أوجه الإنفاق نفعاً في هذا الزمان ما كان في نشر العلم وهداية الخلق، فإنه أعظم أوجه الإنفاق على مر العصور وفي هذا الزمان على وجه الخصوص.
هذا بعض ما تضمنه هذا المثل من المعاني والعبر.
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلني وإياكم من المباركين، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى من صالح العمل.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.