بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة السادسة عشر ))
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون،أحمده حق حمده،أجل من ذكر وأعظم من حمد، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، رب العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله،خيرته من خلقه، أشرقت به الأرض بعد ظلماتها، أنار الله به السبيل، هدى الله تعالى به من الضلالة، أخرج به جل وعلا من الظلمات إلى النور، بصَّر به من العمى، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثالٌ قرآنية".
الله جل وعلا ضرب الأمثال للمنفقين في سبيله، ونوَّع في هذه الأمثال ليبين للناس عظيم النفقة، ونوَّع في هذه الأمثال، فابتدأ جل وعلا في ضرب المثل بالنفقة وحال المضاعفة فيها، ثم بيَّن حال المنفقين الذي يتبعون ما أنفقوا مناً أو أذى، ثم بيَّن حال المنفقين الذين يبتغون وجه الله جل وعلا، فقال:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سورة البقرة: 265..
وكل هذا قد تقدم الحديث عنه، وعن ما في تلك الأمثال من العبر والعظات، وفي هذه الحلقة بين يدينا تتمة للآية السابقة، فإن الله جل وعلا بيَّن عظيم الأجر وكبير الفضل الذي يدركه أولئك الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنسهم إلا أن ذلك الأجر، وذلك الفضل ليس ثابتاً ثبوتاً لا يزول، بل هو عُرضة للحبوط، عرضة للذهاب والتبدد والتلاشي والاضمحلال، وذلك إذا وقع من الإنسان ما يفسد به هذا العمل ، وما يحبط به تلك الأجور التي مثَّلها الله جل وعلا بالجنة التي تؤتي أكلها كل حين إن أصابها وابل أو أصابها طل.
يقول الله جل وعلا : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} سورة البقرة: 266..
هذا مثل من أعظم الأمثال، وقد اعتنى به الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ففي "صحيح البخاري" عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه ، يَوْمًا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، فَقَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ، أَوْ لاَ نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ ، وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ،قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلاً لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ، قَالَ: عُمَرُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ عز وجل ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ أخرجه البخاري في التفسير (4538). .
هكذا فسرها ابن عباس رضي الله عنه ، وأقره عمر الفاروق على هذا الفهم.
وهذه الآية فيها هذا المثل العظيم الذي قال عنه الحسن:" هذا مثل قل والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا" انظر " البحر المحيط" (2/671)..
إن المفسرين تنوعت كلماتهم، وتعددت آراؤهم في هذا المثل المضروب لمن:
فقال جماعة منهم : هو مثل ضربه الله تعالى للمنافق.
وقال آخرون : هو مثل ضربه الله تعالى للكافر.
وقال آخرون: هو مثل ضربه الله تعالى للإنسان يعمل صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره ختم له بعمل سوء ذكر هذه الأقوال الماوردي في "النكت والعيون" (1/342)..
هكذا ذكر أهل العلم في المثل المضروب، ومن المقصود به، وفي كل هذه الأقوال يرجع المعنى إلى أمر واحد، وهو أنه سبحانه وتعالى ضرب مثلاً يبين به قبح هذه الحال، وهي حال من عمل بالحسنات واشتغل بالصالحات حتى إذا قارب الجني، وقارب التحصيل والحصاد عمل بالسيئات التي تحبط ثواب ما قدَّم من الأعمال الصالحة.
مع شديد حاجته، وعظيم فاقته، وكبير احتياجه وافتقاره إلى ذلك العمل، إلى ذلك الحصاد، إلى ذلك السعي الذي تقدم منه ،سواء كان ذلك إحباطاً بالرياء، أو إحباطاً بالكفر، أو إحباطاً بالمن أو بغير ذلك من المحبطات التي تحبط العمل الصالح وتُذهب بركته.
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} سورة الفرقان:23.
الله جل وعلا يضرب مثلاً يحرك به النفوس، ويشحذ به العقول، وقد ساقه مساق الإنكار على صاحب هذه الحال.
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الاستفهام هنا استفهام إنكار لهذه الحال، واستبعاد أن تكون حال مقبولة محبوبة، والود هو الحب الكامل، { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} وهذه الأجنة من أطيب أنواع الثمار، ومن أطيب أنواع الأشجار {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ثم هي في غاية الكمال في صفتها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ليس فيها عناء لتحصيل الماء، ولا كد لإدراكه، بل الأنهار تجري من تحتها، وهي ليست خالصة لهذين النوعين من الأشجار،نخيل وأعناب، بل { لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فأضاف إلى أشرف النباتات وأشرف الأشجار أنواعاً من الثمار التي يحتاجها الناس.
{لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ثم كانت حاله ما ذكر الله تعالى {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} والحال أنه قد بلغ به الكبر مبلغاً عظيماً، وتقدم به السن تقدماً كبيراً، {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} وهو عائل لطائفة وجماعة من الضعفاء الصغار الذين ينتظرون قوتهم منه، ويأملون رزقهم من قِبَلهِ.
يقول الله جل وعلا {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} أي نزل بها إعصار وهو الريح الشديد الذي فيه نار، فاحترقت.
هكذا ذهبت تلك الجنة، انقطع نفعها، زال رونقها، ذهب ما فيها من خير مع شدة فاقة وعظيم حاجة من صاحبها، فكيف تكون حاله، وما مدى ما يصيبه من الألم لفقده ذلك الخير الذي كان يجري عليه وعلى من يعول.
إنه قد بلغ مبلغ من الكبر، يعجز أن يقوم بشيء من العمل، ولهذا كان في غاية المصاب والألم أن يصيبه ما أصابه ، وحاله أنه كبير يعجز عن العمل، كبير تعلقت نفسه بهذا المال، كبير له ذرية ضعفاء، كبير هؤلاء الذرية لا يستطيعون أن يعوضوه ما فات من جنته، وما فيها من الثمار المتنوعة الزاهية الطيبة.
إن ذلك هو حال من عمل صالحاً ثم بدد ذلك الصالح ولم يحافظ عليه، ولم يحرص على عمله أن يضيع هباء منثورا.
هذا ينبه كل مؤمن إلى أن يحرص على حسناته، وأن يحافظ على أعماله الصالحة من أن تحبط أو من أن تذهب، فكم هم أولئك الذين يستعملهم الله تعالى في الصالحات مدة من الزمن، وبرهة من الوقت، ثم يبددون ذلك إما بمحبطات خاصة كالرياء مثلاً، أو العجب، أو الأذى ، أو غير ذلك من محبطات العمل الخاصة.
أو يحبطونه بما هو شيء لا يبقى معه عمل مهما كان العمل زاكياً وهو الكفر، والموت عليه فإنه يذهب كل صالحة ويخرج به الإنسان من كل خير.
لذلك من الضروري أن نحرص على محافظتنا على أعمالنا الصالحة ، ولنذكر ما ذكَّر النبي صلى الله عليه وسلم به أصحابه«وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ» أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3332)، ومسلم (2643)..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» أخرجه مسلم (2651)..
فهذا التحذير يوجب للعبد التفطن لأسباب التغير والتقلب، فإن من الناس من يركن إلى عمله، ويظن أن به النجاة، والحق أن النجاة إنما تكون بصلاح القلوب والمحافظة على الأعمال، ودوام الصلة بالله على الوجه الذي يحبه ويرضى جل في علاه.
وختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذا الختام دعوة لكل من له إيمان أن يتأمل وأن يتفكر، ختمها بقوله جل وعلا{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه كما يقول ابن القيم رحمه الله انظر " طريق الهجرتين" ص(550)..
اللهم اختم لنا أعمالنا بالصالحات، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لندك رحمة إنك أنت الوهاب.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.