بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة السابعة عشر))
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون،أحمده حق حمده،أجل من ذكر وأعظم من حمد، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، رب العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله،خيرته من خلقه، أشرقت به الأرض بعد ظلماتها، أنار الله به السبيل، هدى الله تعالى به من الضلالة، أخرج به جل وعلا من الظلمات إلى النور، بصَّر به من العمى، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثالٌ قرآنية".
وفي هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى- نقف مع مثل ذكره الله تعالى في أخريات سورة البقرة، وهو آخر مثل في هذه السورة المباركة.
يقول الله تعالى{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة البقرة : 275..
هذه الآية الكريمة مثَّل الله تعالى فيها حال أكلة الربا والأموال الخبيثة.
إن الله جل وعلا ذكر حال هؤلاء وضرب لهم مثلاً بعد أن ذكر الأبرار المنفقين في سبيله الذين يبتغون فضل الله ونواله، الذين يخرجون الزكوات ويتفضلون بالبر والصدقات، يتعاهدون ذوي الحاجات، ويتفقدون ذوي القربات في جميع الأحوال والأوقات، ليلاً ونهاراً، سرا وإعلاناً.
يقول الله جل وعلا {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}} سورة البقرة :274..
فهم في الأوقات كلها يرجون فضل الله تعالى بالنفقة، وفي الأحوال كلها سرا وإعلاناً، يقول الله تعالى في أجرهم وثوابهم {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }يقابل هؤلاء الباذلين يقابل هؤلاء المحسنين أولئك الجشعين الطمَّاعين الذين يأكلون المال بالباطل، أكلة الربا الذين قال فيهم {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} فذكرهم الله تعالى بعد ذكر تلك الصورة المشرقة للمنفقين في سبيله، وذلك ليتبين البون الشاسع بين الفريقين.
الضد يظهر حسنه الضد ***وبضدها تتبين الأشياء هذين شطرين لبيتين مختلفين، أورد الشطر الثاني منه المتنبي كما في قصيدة "الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" (1/90)..
إن الله تعالى قال في هذا المثل : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، فمن هم الذين يأكلون الربا، إنهم كل أصحاب المكاسب الخبيثة المحرمة، من أي وجه كانت، وإنما ذكر الربا هنا ليشمل كل كسب محرم وليس المقصود بالربا أخذ الزيادة في القروض أو في البيوع، إنما هو أوسع من هذا ليشمل كل كسب حرام، كما كان يجري عليه استعماله في لسان الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد كانوا يطلقون الربا على كل كسب محرم، فيدخل في ذلك الربا بمعناه الاصطلاحي، ويدخل في ذلك الميسر، ويدخل في ذلك الغرر ، ويدخل في ذلك القمار، ويدخل في ذلك المكاسب التي يكون فيها ظلم واعتداء من تغرير أو تدليس أو غير ذلك من المكاسب المحرمة.
وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى الأكل دون غيره من أوجه الانتفاع لأن الأكل هو المقصود الأكبر من كسب الأموال، وإلا فإن أوجه الانتفاع الأخرى كلها داخلة في المحرم سواء كان ذلك بالتصرف فيها أو كان ذلك بالانتفاع بها بأي وجه من أوجه الانتفاع.
يقول الله تعالى{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} لا يقومون عن أي شيء؟ أو من أي شيء؟
من أهل العلم – وهذا قول أكثرهم – قالوا :" لا يقومون من قبورهم""النكت والعيون " للماوردي (1/348)، وهو مروي عن ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحسن..
فهذا تصوير لحال بعثهم، وأنهم يبعثون يوم القيامة على هذه الحال المعيبة التي تشمئز منها النفوس، فإن أحوج ما يكون الإنسان إلى عقله وإلى رشده، وإلى ذهنه في المصائب والأهوال ليعرف كيف يتخلص، وكيف ينجو، وكيف يسلم من الغوائل، وعظيم الأهوال.
هذه حالهم عند بعثهم في ذلك الهول العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
يخرجون على هذه الصفة من فقد العقل وتسلط الشيطان، وبُعْد الحال عن الاستقامة والصلاح، يقول جل وعلا { كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }،وإن العين تدرك أثر خبط المس للإنسان في الدنيا، فالمصروع يتحرك حركات غير متسقة، ولا منتظمة، يخبط يميناً وشمالاً كل ذلك في تخبط وانحراف عن الاستقامة.
هذه حالهم كما قال أكثر المفسرين عندما يبعثون يوم القيامة، يبعثون على هذه الصورة، ذلك جزاء أعمالهم، فيما إذا استمروا فماتوا على مثل هذه المكاسب المحرمة.
أما إذا تابوا، فمن تاب ، تاب الله عليه كما سيأتي في الآية الكريمة {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي يعفى عنه، ويتجاوز عنه ما كان من سيء عمله.
أما إذا مات على هذه الحال كانت هذه صورة بعثه وخروجه يوم المعاد للقاء ربه يلقاه على هذه الصورة، وهذا مصداق ما جاء في "صحيح مسلم" من حديث أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» أخرجه مسلم (2878)..
فالذين يأكلون الربا يبعثون على هذه الصورة من التخبط لبيان سوء حالهم، وسوء منقلبهم، وسوء ما يؤول إليه مصيرهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وقال جماعة من أهل التفسير:"إن هذه الصورة التي ذكرها الله تعالى لحال أكلة الربا إنما هي في الدنيا، فالذين يأكلون الربا هذه صفة قيامهم، وهذه صفة سعيهم في هذه الحياة الدنيا ، هكذا هم في لهثهم وركضهم وراء الأموال، وتحركهم في كسبها على هذه الصورة من التخبط، على هذه الصورة من الفتنة، على هذه الصورة من الخزي، على هذه الصورة من بعد الحال عن الاستقامة، فهم يركضون وراء الأموال يطلبونها في كل سبيل لا يفكرون في طريق حصولها، ولا يفكرون في حلها من حرمتها، بل هم في تخبط، فيسبقون إلى المال في كل جهة من حلال أو حرام.
حالهم شنيعة، ووصفهم في البعد عن السكون والطمأنينة كالتي ذكر الله جل وعلا.
هكذا قال ابن عطية وجماعة من أهل التفسير انظر " المحرر الوجيز"لابن عطية (1/345). في وصف حال أكلة الربا، وأكلة الأموال الناتجة عن المعاملات الخبيثة.
إن الله تعالى جعل علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين كما جاء عن ابن عباس وابن مسعود، أو هي حالهم في الدنيا كما قال جماعة من أهل التفسير"النكت والعيون " للماوردي (1/348)..
وهذا التخطب الذي ذكرته الآية سواء كان في الدنيا أو كان في الآخرة، هو واحدة من العقوبات التي ذكرها الله تعالى من جملة عقوبات توعد الله بها أكلة الأموال المحرمة.
- قال الله جل وعلا في العقوبة الأولى : {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.
- أما العقوبة الثانية فذكرها الله تعالى في قوله {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} سورة البقرة :276.، فالعقوبة الثانية هي المحض، وهو الهلاك والاستئصال، والمقصود به ذهاب البركة وعدم الانتفاع بالأموال.
- ثم ذكر العقوبة الثالثة وهي الحرب، { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} سورة البقرة :279.، فأصحاب المكاسب المحرمة معلنون بحرب من الله تعالى.
- كما أنه سبب للكفر،وقد قال الله تعالى { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} سورة البقرة :278..
وقال سبحانه وتعالى بعد ذكر الربا { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} سورة البقرة : 276..
- ثم ذكر جل وعلا العقوبة الخامسة، وهي الخلود في النار قال تعالى :{ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة البقرة:275. .
إنه مما ينبغي أن يعلم أن هذه الحال، وأن تلك العقوبات التي ذكرها الله تعالى ليست لمجرد أكل الربا، فأكل الربا موبقة ومن كبائر الذنوب، جاء التحذير منها، وبيان خطرها في قول الله تعالى وفي قول رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهي من الموبقات المهلكات، لكن إذا انضاف إلى ذلك معارضة شرع الله تعالى بتحريم الحلال أو بتحليل الحرام، كان ذلك أمراً خارجاً عن مجرد المعصية إلى أمر من الأمور الكفرية.
ولذلك قال الله جل وعلا في هذه الآيات {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} سورة البقرة :276..
ذلك في التعقيب على قول أولئك الذين قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا }فردوا حكم الله تعالى وسووا بين ما فرق الله بينهما وهما البيع والربا.
قال الله جل وعلا في إبطال تلك المقولة{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
اللهم إنا نسألك رزقاً حلالا طيباً تغنينا به عما سواك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وارزقنا الاستقامة على طاعتك، واجعلنا من حزبك وأوليائك.
وإلى أن نلقاكم في حلقات قادمة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.