بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة العشرون))
الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنزل على عبده الفرقان، هدى الله تعالى به من الضلالة، أخرج به من العمى، فله الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، سره وعلانيته، لا نحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله شهد الخلق بإلهيته، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، أنقذنا الله تعالى به من الظلمات، وأنار الله به لنا السبيل، وأخرجنا به من السيئات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثالٌ قرآنية".
في هذه الحلقة سنذكر – إن شاء الله تعالى – مثلاً ذكره الله تعالى في كتابه، صوَّر به جل في علاه ما الذي حصل ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ما الذي جرى بهدايته صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى أخرج الناس من الظلمات إلى النور بهذه الرسالة المباركة، التي جاءت على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، وانقطاع من رسالات الهداية التي بعثها الله تعالى وأرسلها إلى الناس، حتى صدق على حال الناس ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» أخرجه مسلم (2865)..
هذه حال الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلم عام، وضلالة سائدة، وكفر غالب على الناس، لا يعرفون سبيلاً يحققون به حق الله جل وعلا وعبادته، لأنهم لا يعرفون ربهم، ولا يدركون ما له من الكمالات، فجاء هذا النور المبين، وهذا الحق القويم، جاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة التي أشرقت به الأرض بعد ظلماتها، بهذه الرسالة المباركة التي أنارت الأرض بعد هذه الظلمة المطبقة، وذاك الضلال المبين، فكان إخراج الناس من الظلمات إلى النور بهذه الرسالة شيئاً عظيماً طرق الكون لم يكن له مَثَل، ولم يكن له في سابق عهود الناس وعصورهم نظير، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله للناس كافة خلافاً لما تقدم من الأنبياء والرسل فإنهم إنما بعثوا لأقوامهم خاصة، وكان هذا النبي المبين صلى الله عليه وسلم ، وهذا الرسول الكريم مبعوثاً إلى عامة الناس وكافة الورى، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} سورة الأنبياء:107..
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} سورة الفرقان:1.
هذه الرسالة مثَّل الله تعالى حال الناس قبل مجيء الرسول الكريم، كيف كانوا، وكيف هم، بقوم وقفوا على شفا نار، على جانب حفرة فيها نار يوشكون أن يقعوا فيها، وأن يتردوا فيها، فأنقذهم الله تعالى بهذه الرسالة المباركة، وبهذا الدين القويم الذي جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
يقول الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة آل عمران:102- 103..
في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} مثَّل الله تعالى بعد أمره بالتزام شرعه، والاستمساك بهديه، واللجوء إلى كتابه والاعتصام بهدي هذه الرسالة المباركة.
قال جل وعلا في بيان المنة التي منَّ بها على الناس ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} وهذا جزء من النعمة التي حصلت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذه الآية وإن كان ذكر المفسرون فيها أنها نزلت في الأوس والخزرج، لكن هي في الحقيقة أوسع من أن تكون خاصة بهم ، إذ إن القرآن خطاب للناس جميعاً.
فالله تعالى ذكَّر الناس جميعاً بهذه النعمة التي أنعم بها عليهم، أنهم كانوا قبل هذه الرسالة وهم بدون هذه الرسالة كما وصف الله تعالى في هذه الآية {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}،والتأليف بين القلوب منة عظيمة، منَّ الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعلها من أعظم ما منَّ به على هذه الأمة.
وقد قال الله جل وعلا {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} سورة الأنفال:63..
فمثل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب، وإنقاذ البشرية كهذا المثل الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية المباركة حيث يقول سبحانه وتعالى {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} شفا أي جانب، فشفا الشيء جانبه، وهذه الحفرة ليست حفرة خالية، ولو كانت حفرة خالية لكانت محلاً للخوف والوجل، فكيف وهي حفرة من النار، فهي من أشد ما يكون مما يجب أن يحذر ويخاف.
{فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} أي فسلمكم ووقاكم شرها، وأبعدكم عن خطرها، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم عموم هذا المثل لما جاء به ، وما يقوم به صلى الله عليه وسلم في حاله مع الناس،كما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:«إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا» أي يقدمن إلى هذا النور، فيكون هذا القدوم سببا لهلاكها «فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ» أي يمنع هذه الفراش وهذه الدواب من أن تلج النار، لكنها تغلب هذا الرجل «وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا» قال رسول الله بعد هذا المثل «ذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا» أخرجه البخاري الرقاق(6483)، ومسلم (2284)واللفظ له..
هكذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في عظيم شفقة ورحمة، وحنو وحرص، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} سورة التوبة:128..
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحجز الناس عن النار، يمنعهم من التخوض فيها، فكل من خالف أمره، ووقع فيما نهى عنه إنما يقتحم النار، والناس مستقل ومستكثر.
ولهذا يجب على المؤمن أن يعرف عظيم منة الله تعالى عليه، بأن هداه إلى هذه الشريعة، وأن يستعين الله تعالى في التزام أحكامها، والقيام بحقوق الله جل وعلا فيها، فإن كل مخالفة إنما هي ولوج إلى النار، وأخذ بأسباب دخولها.
وإن المؤمن يفرح بهذه البشارة العظيمة التي تضمنها هذا القول من رب العالمين، فأنقذكم منها فإن الله تعالى أنقذ أهل الإيمان، أهل الإسلام من أن يكونوا من أهل النار، نعوذ بالله من الخذلان.
وقد قرأ ابن عباس رضي الله عنه هذه الآية في محضر جماعة فسمعها أعرابي ممن حضر ابن عباس رضي الله عنه ، فقال كلمة عظيمة:"ما أنقذهم منها وهو يريد أن يدخلهم إياها"، فقال ابن عباس رضي الله عنه :"خذوا هذه الفائدة من غير فقيه" أخرج هذا الخبر أبو بكر المالكي في " المجالسة وجواهر العلم" (507)، وإسناده ضعيف. .
هكذا يكون استشعار نعمة الله تعالى على أهل الإيمان بأن يتصوروا ما ذكره الله تعالى في هذه الآية، وأنهم قوم كانوا واقفين على جانب حفرة من النار سحيقة هم على خطر التردي فيها، طريق سلامتهم هو أن يستمسكوا بهذا الحبل القويم الذي أمروا به في أول الآية، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}،فهذا به يكتمل المثل في حال من أخذ بهذا الهدي القويم، وأنه إذا اعتصم بكتاب الله وسنة رسوله وأخذ بالقرآن الحكيم، وهدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم فقد استمسك بالحبل الذي ينقذ به من النار.
اللهم أجرنا من النار، وقنا ما يقربنا إليها يا ذا الجلال والإكرام.
ختم الله تعالى هذه الآية الكريمة بقوله{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، مثل هذا البيان، ومثل هذا التوضيح والتجلية والتصوير الذي تضمنته هذه الآية يبين الله تعالى الحق الذي به يسلك الإنسان سبيل الهداية ويخرج به من الضلالة.
اللهم اهدنا صراطك المستقيم، وارزقنا الجنة يا ذا الجلال والإكرام، وأجرنا من عمل أهل النار.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.