بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الحادية والعشرون))
الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين،أحمده حق حمده ، لا أحيط بحمده، فهو المحمود بكل لسان، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، سره وعلانيته، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله جلت قدرته، له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، رسولاً بعثه الله على حين فترة من الرسل، وانقطاع من السبل، هدى الله به من العمى،أخرجنا به من الضلالة، وأنار به الطرق الموصلة إليه، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثالٌ قرآنية".
وفي هذه الحلقة – إن شاء الله تعالى – سنتناول مثلاً ذكره الله جل وعلا، بل أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأه وأن يتلوه على أمته، ليعتبروا ويتعظوا، وينتفعوا من هذا المثل العظيم الذي به يتبين حال المهتدين بالقرآن، والمستمسكين بالوحي من الله جل وعلا، وحال أولئك الذي انسلخوا منه، وتركوه وأعرضوا عنه، فشتان بين الحالين، وبين المآلين، والمصيرين، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} سورة الشورى: 7..
يقول الله جل في علاه في سورة الأعراف:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} سورة الأعراف: 175-177.
قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي يا محمد {نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } أي خبر الذي أعطيناه آياتنا، ويسرناها له، فأدركها وحصلها، من الآيات الشرعية، ومن الآيات الكونية في الآفاق الدالة على الله جل وعلا.
{فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج منها خروجاً تاماً كاملاً كما يخرج اللحم من الشاة إذا سلخت ، وكما تنسلخ الحية من جلدها فلا يبق شيء منه.
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي لحقه، بعد هذا الانسلاخ وتمكن منه، واستحوذ عليه، فكان نتيجة هذين العملين، وهذين الأمرين الانسلاخ من آيات الله جل وعلا بتركها والإعراض عنها، وعدم الانتفاع بها، وتمكن الشيطان بعد ذلك من الإنسان.
{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}، أي صار هذا الذي يقص خبره رب العالمين علينا، وقد أمر رسوله أن يتلو خبره، {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}، أي صار وانتهى شأنه أن كان من الغاوين.
والغاوي هو الذي اتبع هواه، وترك الهدى الذي وقف عليه، فإن الغي اتباع الهوى، والضلال ترك الهدى، وهذا وصفه الله تعالى بالغي، أي أنه ترك الهدى اتباعاً للهوى، فكان على علم بالحق، لأن الله آتاه آياته، وبيَّن له الشرائع والأحكام، بيَّن له الدلائل الدالة على صدق الرسل، وصدق حق الله تعالى على عباده بأن يعبدوه وحده لا شريك له، لكنه أعرض عن ذلك، بل انسلخ منه انسلاخاً تاماً كاملاً، لم يبق معه منه شيء، فتسلط عليه الشيطان حتى صار على هذه الحال.
يقول الله جل وعلا في تتمة خبر هذا {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي لأعلينا منزلته بهذه الآيات التي آتيناه إياها، وهديناه الهداية التامة بعد العلم، وهو العمل بتلك الآيات البينات، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه،{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} سورة المجادلة:11..
وإنما يرفع العلماء بعملهم بما جاء في هذا العلم الذي حصلوه، فإذا أعرضوا عنه لم يكونوا أهلاً للرفعة والعلو والمنزلة، بل هم أهل للذم وأهل للمؤاخذة، فالقرآن حجة لك أو عليك.
{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} مال إليها وإلى متعها وزخارفها، فلم يرتفع إلى ما يفيده العلم من المنازل العالية، والأماكن الرفيعة الشريفة الكريمة.
{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} وأضاف إلى هذا الإخلاد اتباع الهوى {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي شهوة نفسه، وميله، ومحابه.
ما مثل هذا الذي ذكر الله تعالى خبره، إنه {كَمَثَلِ الْكَلْبِ}، يقول الله جل وعلا، {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} والكلب من أرذل الحيوانات نفساً، وأخسها مكانة على ما فيه من المنافع، لكنه يضرب مثلاً للدنو والسفالة، والنزول والحقارة.
ولذلك يقول الله تعالى{كَمَثَلِ الْكَلْبِ}، ما وجه المشابهة بينه وبين هذا الذي انسلخ من آيات الله وتمكن منه الشيطان.
يقول الله جل وعلا {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}، هذه حاله في التعب والركض وعدم الطمأنينة والقرار فهو في لهث دائم.
واللهث هو التنفس الشديد الذي يصحبه إخراج اللسان، وهذه هي حال الكلب، طردته أو لم تطرده، أمنته أو خوفته، حاله على وجه دائم من اللهث الذي لا ينتهي ولا ينقطع ولا يكف عنه هذا الحيوان.
فكذا هذا الذي انسلخ من آيات الله، وأتبعه الشيطان، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه لا تجد عنده سكوناً ولا طمأنينة.
لا تجد عنده راحة ولا هدوءا، بل هو في قلق، وفي لهث دائم، لا يسكن ولا يستقر، فمهما تمكن من المتع، ومهما حصل من ملاذ الدنيا، فنفسه لا تسكن، ولا تقنع، ولا تقف عند حد، بل هو في لهث دائم مستمر غير منقطع.
{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} هذا الذي ذكره الله تعالى من المثل هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، لم يصدقوها، ولم يعملوا بها، ولم يرفعوا بها رأساً، بل هم عنها معرضون، وهم لها مكذبون.
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي أقصص يا محمد عليهم القصص والأخبار والأمثلة التي ذكرناها لك رجاء أن يحصل منهم فكر، رجاء أن يحصل منهم علم، رجاء أن يحصل منهم ادكار واتعاظ.
{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}، وفي هذا الختم بيان سوء هذا المثل، وسوء هذا الحال، وسوء منقلب أولئك الذين ذكر الله جل وعلا تكذيبهم لآياته، سواء كانت الآيات العلمية الشرعية البيانية، أو كانت الآيات الآفاقية السماوية التي جعلها الله تعالى دليلاً على صدق الرسالات.
ففي هذا المثل تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة، بهذا المثل القبيح الذي تشمئز منه النفوس،وتأنف منه الأرواح الكريمة، حيث إنها حال رديئة سيئة.
وهذا المثل فيه من العبر والعظات ما يستوجب أن يقف عنده المؤمن، فالله تعالى قد ذكر حال هذا الذي آتاه آياته، وبصره بما يوصله إلى رحمة الله، وإلى علو الدنيا ورفعة الآخرة، لكنه أعرض عن ذلك.
وبه نعلم أن العلم لا يفيد أصحابه إذا لم يعملوا به بل يكون حجة عليهم، وأن اتباع الهوى من أعظم أسباب الوقوع في الشر، وأن الاستمساك بالهدي المبين، والعلم النافع، من أعظم أسباب الوقاية من الشيطان وكيده ومكره، فإن الله جل وعلا ذكر تمكن الشيطان من هذا بعد تركه وانسلاخه عن العلم، حيث قال جل وعلا {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} فلما انسلخ منها، وخرج عن الحصن الحصين، سار إلى أسفل السافلين بتمكن الشيطان، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}، بعد أن كان راشداً مهدياً بتلك الآيات والبينات، صار من الغاوين، وهذا لأن الله تعالى خذله ووكله إلى نفسه، ولهذا قال {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} إلى شهواتها، وإلى مقاصدها، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}فترك طاعة الله تعالى وطاعة مولاه، حتى صار إلى هذه الحال.
إن العلم النافع سبب من أسباب الوقاية من كيد الشيطان، فليلزمه الإنسان وليحرص على العمل به، فإن ذلك من أسباب وقاية العبد من كيد الشيطان ومكره.
اللهم أعذنا من حال أهل النار، وقنا شر الأشرار، واسلك بنا سبيل الأبرار.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم زينا بزينة الإيمان، ووفقنا إلى أفضل الأعمال، يا ذا الجلال والإكرام.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم " أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.