بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الثانية والعشرون))
الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين، أحمده جل في علاه،خلق الحياة الدنيا ليبلونا أينا أحسن عملا، أحمده جل ذكره، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه،بعثه الله بين يدي الساعة بشيرا ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً،، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثالٌ قرآنية".
في هذه الحلقة سنتناول – إن شاء الله تعالى – قول الله جل وعلا:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة يونس:24..
هذا المثل العظيم الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية المباركة هو من جملة الأمثال التي جعلها الله تعالى عبرة لأولي الألباب والعقول.
ذكر الله تعالى فيها مثل الدنيا، وحالها، وحال الإنسان معها، ثم إنه بيَّن ما تصير إليه، وما تنتهي إليه.
وهذا المثل هو في جملة أمثال ذكرها الله تعالى ممثلاً حال الدنيا، فمن ذلك قوله جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} سورة الكهف:45.
وقد ذكر الله جل وعلا أمثال هذا المثل الذي يتضمن التزهيد في الدنيا، وبيان انقضاء أحوالها، وتغير حالها، وأنها دار زوال، ليست دار مقام، فكان من ذلك ما كان، من الوعظ والتذكير والعبرة والاعتبار.
إلا أن المثل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية الحكيمة، وهي الآية التي بين أيدينا، قوله جل في علاه:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}.
هذا المثل يختلف عن تلك الأمثال التي زهَّد الله فيها عن الدنيا، ورغَّب فيها عن الآخرة، وبيَّن فيها أن هذه الدار دار غرور، ودار عبور، ليست دار قرار واستقرار.
الفارق بين المثل في هذه الآية وغيرها من الأمثال :أن الله جل وعلا مثَّل فيها زخرف الدنيا وحال الإنسان مع هذا الزخرف، عندما يتمكن منه، ويقدر عليه، ويكون لديه القدرة على تصريفه، كيف أن هذا التمكن، وتلك القوة، لا تغير من حال الدنيا شيئاً فإن حالها، لابد وأن يتغير، وهي دار زائلة فانية، لا يبقى أهلها، ولا يبقى نعيمها، ، بل هي سريعة التقضي، وإذا انقضت لا سبيل إلى رجوعها، ولا إلى استرجاع ما تقضى منها.
لهذا ينبغي أن يستحضر هذا كل إنسان مهما عظمت قدرته، ومهما بلغ تصرفه في أمور الدنيا، فإن الله جل وعلا غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فمُلك الإنسان وقدرته، وتسخير الكون له، لا يعني هذا أن الدنيا باقية، بل هي دار زائلة فانية.
ولهذا قال جل في علاه في هذا المثل، بعد أن ذكر زخرف الدنيا ونباتها ونضرتها وزينتها، قال{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}، أي متمكنون منها في إدارتها، وفي تصريفها، وفي حفظها.
{ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} فتلك القدرة، وذلك التمكن لم يمنع من نزول ما قضاه الله تعالى وقدَّره، فالله غالب على أمره، ولقد جعل الله لكل شيء قدراً، فتمكن الإنسان من هذه الدنيا، وقدرته على تصريفها، وتسخير أسبابها لمصالحه ومنافعه لا يغير في الأمر شيئاً.
يقول الله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هذه الحياة بأيامها ولياليها مثلها كمثل ماء أنزله الله تعالى من السماء، فكان هذا الماء منتجاً ما يحبه الناس من الرغبة في زينة الدنيا وزخرفها.
{فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} نشأ من هذا الماء نبات على شتى صنوفه وتفنن أنواعه، يسقى بماء واحد، يخرج على ألوان شتى وصنوف عدة، وأطعم متفرقة مما يأكل الناس والأنعام، من الحبوب والثمار، وغير ذلك من الطعام للآدميين، ومن طعام بهيمة الأنعام.
{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} كملت في زينتها، وبلغت الغاية في بهجتها وبهائها، وفتنت أهلها، وتمكن منها القائمون عليها، حيث ظنوا أنهم قادرون عليها كما قال: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي المقبلون عليها، المشتغلون بها، العاملون عليها، ظنوا أنهم لا زوال لهم، وأن قدرتهم قد تمت وكملت على تصريف شؤون الدنيا .
يقول الله جل وعلا:{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} أي ما قدره الله تعالى، سواء كان ذلك بالعقوبات أو بالمهلكات أو بغير ذلك من أسباب الزوال والفناء، { لَيْلًا أَوْ نَهَارًا } على حسب ما قدره الله تعالى وقضاه.
وأمر الله غالب لا مغلوب، وأمر الله نافذ لا يرده شيء، وقد قضى جل في علاه أن هذه الدنيا هالكة {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} سورة الرحمن :26-27..
فقد قال الله جل وعلا {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} فلا فرق بين ليل أو نهار في نفوذ أمر الله جل وعلا، بل إن أمره غالب، وإذا جاء أمر الله انتهى كل سبب، وزال كل مانع، وانقضت كل حجة، وغابت كل حيلة في دفع ما قضاه الله تعالى وقدَّر، لذلك قال {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي دارا محصودة يابسة ذاهبة، لم يبق من تلك النضرة شيء، ولم يبق من ذلك البهاء شيء، بل كل ذلك زال وانتهى واجتث وذهب حاله كحال الشيء الذي لم يكن.
لذلك قال جل وعلا {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} عادت خراباً كأن لم تعمر بالأمس، كأن لم تقم على صورة بهية، ومنظر خلاب.
يقول جل وعلا بعد ذلك المثل الذي فصَّل فيه حال الإنسان مع هذه الدنيا، وأن تمكنه منها لا يمنع نزول ما قضاه الله وقدره، وما أراده وحكم به جل في علاه.
{كَذَلِكَ} أي مثل هذا التفصيل في التمثيل والتوضيح والبيان يبين الله تعالى الآيات ويوضحها لبيان أحوال ما شاء بيانه، ومن ذلك بيان حال الدنيا كما في هذا المثل.
حال الدنيا العجيبة التي من بديع الشأن في خلقها أن تكتمل حتى تبلغ الغاية في كمالها، ثم يأتيها أمر الله جل وعلا ليفنيها ويزيلها ويذهب بما فيها.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} والآيات هنا آيات الكتاب الحكيم، وكذلك ما جعله الله تعالى من الشواهد القائمة، والدلائل الظاهرة التي تدل على صدق ما أخبر الله تعالى به من حال الدنيا.
وآيات الله عديدة كثيرة الناس عنها معرضون في غالب أحوالهم كما قال جل وعلا {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} سورة يوسف:105..
لكن الله جل وعلا فصَّل هذه الآيات، وبينها ووضحها، ونوعها وصنفها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يستعملون قلوبهم وعقولهم في الاعتبار والادكار، والفكرة والنظر، وهذا هو حال المستفيدين.
أما من مر على الآيات دون نظر ولا اعتبار، فإنه يمر عليها كما يمر على غيرها لا تؤثر فيه عبرة، ولا تثمر له فكرة، ولا تحي له إيماناً، ولا تزيد قلبه صلاحاً، بل هو عنها غافل.
فينبغي للمؤمن أن يعتبر، وأن ينظر حال الدنيا وحال تحولاتها، وتقلباتها، وأن أقواما ملكوها وتمكنوا منها غاية التمكن، حتى غدا في أذهان الناس أنه من المحال أن يضعف سلطانهم، أو أن يزول ملكهم، فما أن جاء القدر وحل ما أراده الله تعالى من قضاء وشأن إلا وقد ذهبت الحيل، وزال كل ما ظن أنه نافع أو أنه مانع من أن يحل ما قضاه الله وقدره.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا قلوبا حية، وأعين باصرة، وأفئدة راشدة تدرك هذه الآيات وتعتبر بها ولا تغتر بالدنيا وما فيها، فإن الدنيا مهما قويت ومهما زادت إنما هي دار غرور، {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} سورة لقمان:33..
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى أن يعيننا وإياكم على الرشد، وأن يوفقنا وإياكم إلى الخير، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.