بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الثالثة والعشرون))
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الحميد.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثالٌ قرآنية".
سنتناول فيها –إن شاء الله تعالى– مثلاً ذكره الله جل وعلا في سورة هود، مثَّل به حال فريقين من الناس، وهم المؤمن به والكافر المعرض عنه، والناس قد خلقهم الله تعالى على قسمين.
وهم في الدنيا والآخرة فريقان، يقول الله جل وعلا {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سورة التغابن :2. .
وفي الآخرة يقول جل وعلا :{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} سورة الشورى:7..
اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والجنان يا ذا الجلال والإكرام، وأعذنا من أحوال أهل الكفر والنيران بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
يقول الله جل في علاه في تمثيل حال هؤلاء وأولئك:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} سورة هود:23-24..
قوله سبحانه {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} هذا تمثيل لحال فريقين تقدم ذكرهم في الآيات السابقة، وهم أهل الإيمان وأهل الكفر، أهل التصديق، وأهل التكذيب، أهل الطاعة والإحسان، وأهل الفجور والعصيان.
وقد ذكر الله تعالى من خصال المؤمنين جملة، هي أنهم آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم، هذا عملهم.
أما جزاؤهم {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وأما الكفار فقد تقدم ذكرهم في الآيات على وجه بسط وتفصيل لأعمالهم وأحوالهم مع أنبياء الله ورسله، وإزاء الوحي والنور الذي جاءوا به.
فذكر الله تعالى من أعمالهم الكفر، والتكذيب، والاستكبار، والعناد كما جرى ذلك من قوم نوح في القصة المتقدمة على هذه الآيات.
وذكر جل وعلا في أعمال المؤمنين الإيمان، والعمل الصالح، والإخبات وهو الإنابة والإخلاص والخشوع والتواضع والإقبال على الله جل وعلا.
هذان الفريقان هم في حقيقة الأمر على حال عجيبة، لذلك ذكر الله تعالى مثلهم، والمثل إنما يذكر في غالب الأحيان لتصوير الأحوال الغريبة والأوضاع التي يتعجب منها، ويستغرب من حال أهلها.
ولذلك مثَّل الله حال هذين الفريقين بقوله، {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أي فريق الإيمان وفريق الكفر، فريق العصيان، وفريق الطاعة.
{كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ}ومقابل هذين الوصفين لأهل الكفر والعصيان، {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} وهذه حال أهل التقوى والإيمان، فحال المكذبين الكفار، {كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ}، ووصف أهل الكفر بالعمى والصمم كثير في كلام الله جل وعلا، فقد ذكره في آيات عديدة منها:
قوله تعالى{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} سورة البقرة:17-18..
وكذلك في المثل الثاني الذي ذكره في سورة البقرة لحال أولئك فقال:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} سورة البقرة:171. .
وقال جل وعلا في تمثيل حالهم:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} سورة الأنعام :25..
والآيات في ذلك كثيرة،{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} سورة الأنفال:22-23.
ووصفهم الله تعالى بالعمى والصمم لكون قلوبهم قد غلفت عن سماع الحق، وأبصارهم قد عميت عن إدراكه، وهم كما قال الله تعالى{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} سورة فصلت:5. .
فذكروا الموانع على القلوب والأسماع والأبصار مع كون أبدانهم حية، تسمع الأصوات وترى الأشخاص، لكنها حياة البدن بدون حياة القلب، فهي من جنس حياة البهائم التي شبههم الله تعالى بها في قوله {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} سورة البقرة:171..
وقال تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} سورة الفرقان:44. .
وقال جل وعلا:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} سورة الأعراف:179..
فالله تعالى بيَّن حالهم، ووصفها بالعمى والصمم لكون هذه الطرق هي التي من خلالها يدرك القلب الحق، ويبصر الهدى، ويسلك السبيل المستقيم، والطريق القويم، فهؤلاء وصفوا بالعمى والصمم لكونهم قد أغلقوا الطرق التي من خلالها يتبينون الهدى سماعاً وإبصاراً.
يقابلهم أولئك الذين انتفعوا بأسماعهم وأبصارهم فأثمرت إيماناً صالحاً، ويقيناً راسخاً، وإيماناً يسلكون به الصراط المستقيم، ويقومون به بما فرضه الله تعالى رب العالمين.
يقول جل وعلا {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} أي مثل أهل الإيمان كمثل السميع والبصير،{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} هل يمكن أن يسوى بين هذا وذاك.
من كان يستطيع السمع والبصر أيمكن أن يكون كمن لا يستطيع سمعاً ولا بصراً؟ لا والله شتَّان، والتسوية بينهما هي من أعظم الجَور، وأكبر الإجحاف.
ولهذا جاء في بيان الفرق بين الفريقين بالاستفهام الإنكاري، الذي ينكر أن يكون هناك مماثلة أو مقاربة بين الفريقين،{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} لا والله لا يستويان مثلاً.
أفمن كان على بينة من ربه كمن هو أعمى؟ لا يستويان.
لا يستوي من كان على بينة، وكان على هدى، وكان على بصيرة، وكان على حق، بمن هو أعمى لا يدرك حقاً، ولا يبصر هدى.
يقول الله جل وعلا{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أفتشكون في عدم الاستواء بين هذين، أيمكن أن يتطرق الشك في الفرق بين هذين الفريقين.
إن ذلك إذا حصل فهو ناتج عن الغفلة، وإلا فأهل التذكر والتأمل، أهل الفكر والعقل يدركون البون الشاسع بين الفريقين، بين أهل الكفر وأهل الإيمان، فإن الفرق بين الأعمى والبصير مدرك بالحس، كما أن الفرق بين السميع والأصم مدرك بالحس.
فالأشقياء والسعداء هم كالأعمى والبصير، وكالأصم والسميع، لا يستوون مثلا، بينهما من الفرق ما لا يأتي على وصف.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البصيرة في الدين، وأن يلهمنا رشدنا وأن ينفعنا بكتابه الحكيم، وأن يجعلنا من أهل الأسماع والأبصار أولي الأيدي والأبصار الذي أُخلِصوا بخالصة ذكرى الدار.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.