بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الرابعة والعشرون))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها النجاة من النار.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، دعا على ربه على هدى وصراط مستقيم، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، بالعلم والبيان، والسيف والسِّنان،حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثالٌ قرآنية".
في هذه الحلقة – إن شاء الله تعالى – سنتناول مثلاً ذكره الله تعالى في سورة الرعد.
يقول سبحانه وبحمده {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} سورة الرعد:14..
هذه الحال التي بينها الله تعالى، وهذا المثل الذي ذكره الله جل وعلا في غاية الجلاء والوضوح، والبيان والكشف لحال كل من دعا سوى الله جل وعلا.
{لَهُ} أي لله سبحانه وبحمده،{دَعْوَةُ الْحَقِّ} أي الدعوة الموصوفة بأنها حق، والحق هو ما طابق الواقع، ووافق الحقيقة، فلم يختلف عن الواقع والحقيقة شيئاً.
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}، وقد قال العلماء ذكر هذه الأقوال الماوردي في "النكت والعيون" (3/103). في تفسير هذه الدعوة أنها شهادة أن لا إله إلا الله وهذا القول مروي عن ابن عباس..
فله دعوة الحق وهي أنه لا إله سواه سبحانه وبحمده، وأن كل من عُبِدَ من دونه جل في علاه فإنه قد ادعى ما ليس له بحق.
فدعوة الحق هي إفراده بالعبادة، هي أن لا يقصد العبد سواه، هي أن لا يكون في القلب محبة وتعظيم لغير الله جل وعلا.
هي معنى لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله.
وقال جماعة من المفسرين: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} أي أن دعاءه هو الدعاء الحق، سؤاله، طلبه، إنزال الحوائج به، هو دعوة الحق التي يدرك بها الإنسان مطالبة، ويفوز بحوائجه، وينال مرغوباته، ويأمن من مرهوباته.
فلا يغيث في اللهفات ولا يجيب الدعوات إلا رب الأرض والسماوات.
فله دعوة الحق سبحانه وبحمده.
وقال جماعة من أهل العلم، إن دعوة الحق هي دعوته من الناس كافة، وليست فقط دعوة أهل التوحيد والإخلاص، وأهل الإيمان والإسلام.
بل دعوة كافة الناس عندما تنقطع بهم السبل فإنهم لا يجدون حقاً يدعونه ولا إله يلتجئون إليه سوى رب الأرض والسماوات، كما قال في غير ما آية جل وعلا واصفاً حال الكفار، وحال المكذبين {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} سورة الإسراء:67..
ذهب وغاب عن السؤال والطلب، وعن الإجابة والعطاء، وعن الإغاثة والإعانة والإعاذة سواه جل في علاه.
فهو الذي يجيب الدعوات ويقيل العثرات {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} سورة النمل:62.، سبحانه وبحمده.
إن الله جل وعلا له دعوة الحق على كل هذه المعاني وغيرها، فله دعوة الحق، وأما غيره فإنهم أهل باطل وزور، فكل من دعا سوى الله جل وعلا فقد دعا ضلالاً، وضرب أطنابه في الزيغ والهلاك، فإنه لا يدرك شيئاً، ولا يحصل مطلوباً ، ولا يأمن من مرهوب.
فلا يملأ قلب العبد سكوناً ولا طمأنينة ولا هدوء ولا ابتهاجاً، ولا لذة ولا راحة إلا أن يلجأ إلى الله جل وعلا {كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} سورة القيامة:11-12..
فلا يقي خطرٌ من خطر ، لا يقي أحدٌ أحداً من شيء مكروه إلا الله جل وعلا الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانه وبحمده.
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} أي لا يردون عليهم صوتاً، ولا يعطونهم مطلوباً، ولا يبلغونهم شيئاً قليلاً ولا كثيراً، صغيراً ولا كبيراً، حقيراً ولا شريفاً.
فإنهم غائبون، أموات غير أحياء فهم لا يستجيبون، ولا يكترثون بمن دعاهم، وحالهم كحال المثل الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية.
{إِلَّا} وهذا استثناء منقطع، وقيل متصل، وفي كلا الحالين هو بيان أنه لا يدرك شيئاً من هذا السؤال، فإن باسط كفيه إلى الماء لا يرجع من الماء بشيء، على اختلاف ما قيل في تفسير الآية.
في قوله تعالى{كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} فقد ذكر جماعة من أهل التفسير أورد هذه الأقوال الماوردي في "النكت والعيون"(3/103). في قوله تعالى{كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} .
- أنه الرجل يقف بعيداً عن الماء، يبسط يده إلى الماء، ويتحرك لسانه بدعوته ونداء الماء، وطلب إقبال الماء عليه وهذا قول مجاهد.، هل يستجيب الماء شيئاً؟ هل يدرك من هذا الماء شيئاً ليبلغ فاه؟ بالتأكيد، كل العقلاء يقولون إن الواقف بعيداً عن الماء لو هتف بأعلى صوته، ومد كلتا يديه ليحصل ماء أو يروي ظمأً لن يبلغ من ذلك شيء.
فكذلك كل من دعاء سوى الله جل وعلا فإنه لا يدرك شيء، كما لا يدرك هذا شيئاً من الماء مع إبصاره إياه، وهتافه له، ومد كلتا يديه إليه.
- وقال جماعة من أهل العلم في بيان صورة هذا المثل وهذا قول أبو عبيدة وابن قتيبة. : إنه كالذي يدخل يده في الماء، ويقبض على الماء بيديه ، هل يحصل منه شيئاً ممكن أن يشرب أو أن يوصله إلى فيه.
وهذا مثل تذكره العرب في كل من ضرب ساعياً في إدراك أمر لا يمكن إدراكه، يقولون في التمثيل له والتشبيه لحاله، "مثله كمثل القابض على الماء".
وإِنِّي وإِيَّاكم وشَوْقاً إِليكُمُ*** كقابضِ ماءٍ لم تَسقْهُ أنامِلُهْ انظر "زاد المسير"(3/492)..
أي أنه لا يدرك من هذا الماء شيئاً، كالذي يدخل يديه في الماء، ويقبض على يديه في الماء، ثم يخرجهما، هل يعلق ويمسك بيديه شيئاً يمكن أن يبلغه فاه؟ إنه لا يمسك شيئاً ولا يدرك مطلوباً بهذه الصورة وبهذا العمل .
- وقال بعض أهل العلم في بيان هذا المثل الذي ذكره الله تعالى: إنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وهو باسط كفيه فيه ليبلغ فاه، وما هو ببالغه لكذب ظنه، وفساد توهمه، وهذا قد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه انظر "زاد المسير"(3/492)..
هذه أمثلة توصِّف حال أولئك الذين يدعون غير الله جل وعلا، وخلاصة المثل أنهم لا يدركون من هذا الدعاء شيئاً إنما هو عناء ومشقة لا فائدة ورائها، ولا نتيجة في عقباها.
ولذلك قال تعالى {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلَالٍ} ما دعاءهم، وما عبادتهم، ما استغاثتهم، ما سؤالهم غير الله جل وعلا لإدراك مطالبهم وحصول مرغوباتهم { إِلا فِي ضَلَالٍ}، أي إلا في ذهاب وضياع، لا يحصلون به مطلوباً، ولا يأمنون به من مرهوب، بل هم يقعون في أكبر المراهب في شقاء القلوب وضلالها وعنائها.
قال جل وعلا {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} سورة الأحقاف:5..
اللهم ألهمنا رشداً، وحقق يا ذا الجلال والإكرام إيماننا، وارزقنا تمام التوحيد والإخلاص لك، واجعلنا من خُلَّص عبادك وأوليائك وحزبك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.