بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الخامسة والعشرون))
الحمد لله رب العالمين، صَرَّف في القرآن الأمثال، وجعلها عبرة وعظة لأولي الألباب والأبصار، أحمده حق حمده، وأثني عليه الخير كله.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثالٌ قرآنية".
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا فهم كتابه، وأن يعيننا على عقل أمثاله، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
في هذه الحلقة – إن شاء الله تعالى – سنتناول المثل الذي ذكره الله تعالى في سورة الرعد، يقول الله جل في علاه {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} سورة الرعد:17..
هذا المثل العظيم في كتاب الله تعالى هو كشف وبيان لحقيقة جعلها الله تعالى في الطبيعة والخلق كما أنها حقيقة في الحق والباطل.
فهذا مثل ضربه جل في علاه للحق والباطل، للإيمان به والكفر به، لعمل أوليائه ولعمل أعدائه.
يقول الله جل ذكره: مثل الحق في ثباته، ومثل الباطل في اضمحلاله وزواله، مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض فسالت أودية بقدرها.
فالحق هو النازل من السماء، فمثَّل الله تعالى الوحي الذي تحيى به القلوب بالماء الذي تحيى به الأرض.
والذكر فيه حياة للقلوب كما***تحيا البلاد إذا ما جاءها المطر انظر قصيدة سابق البربري يعظ فيها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز..
هكذا مثَّل الله جل وعلا القرآن العظيم، والنور المبين، الذي جاء به خير المرسلين صلى الله عليه وسلم بالماء النازل، لأنه الحياة للقلوب، كما الماء حياة للأرض.
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} فهذا الماء النازل من السماء، ينزل على الجبال، والصخور وعلى سائر أنواع الأرض، تحمله الأودية، وهي الفجاج التي بين الجبال ، أو مجاري المياه، كما قال بعض أهل العلم انظر "النكت والعيون"(3/106)..
وهذه الأودية تختلف في حجمها كبيرة وصغيرة، وكل وادٍ منها يحتمل بقدره، لذلك قال جل وعلا {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي بحملها الذي تحتمله، من كبير يحمل شيئاً كبيراً، وصغير يحمل شيئاً صغيراً.
يقول الله جل وعلا {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أي هذا السيل الذي ينزل في هذه الأودية التي خلت من المياه، أو انحسرت فقل مجراها، إذا جاء متدفقاً حمل معه من الغثاء، وسائر ما يبقى في هذه الأودية ومجاري الماء، حمل أشياء كثيرة من الأشياء التي تعلق بالماء عند سيره، وهذا هو الزبد الذي ذكره الله تعالى {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أي خبثاً مما يحمله السيل، لكن هذا الزبد يعلو ويرتفع ويربو، ولذلك قال {رَابِيًا} وهذا مثل الحق والباطل.
فذاك الماء الذي في تلك المجاري فهو الحق، وفي تلك الأودية فهو الحق.
وأما الزبد فهو الباطل الذي مهما انتفش فإن مآله إلى زوال كما قال تعالى في آخر الآية {فَيَذْهَبُ جُفَاءً}، أما ما ينفع الناس فإنه يبقى ينتفع منه الناس.
وهذا مثل للحق والباطل.
ومن أهل العلم من قال انظر "زاد المسير "(3/495). : إن هذا مثل للحق إذا ورد على القلوب في تأثيره، فإن القلوب إذا وردها الحق حرَّك ما فيها، جرف ما فيها، من الشبهات، وأخلى ما فيها من الشهوات، فتطهر القلب من الشهوات ومن الشبهات كما تتطهر مجاري السيل في الأودية مما يكون فيها من الغثاء وغير ذلك مما لا يحب ولا يرضى من الزبد.
يقول جل وعلا {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}.
وهذا هو المثل الثاني الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، فإن الله تعالى مثَّل ما جاء به الرسول بمثلين، بالماء الذي تحيا به القلوب وبالنار التي تخلص من الشوائب، وتنير الطرق وتهدي السبل، وكلا هذين الوصفين مما يتصف به ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فإنه حياة للقلوب كما أنه نور للبصائر.
ولذلك قال بعض أهل العلم: المثل الأول هو المثل المائي، والمثل الثاني هو المثل الناري، وكلاهما مثل للحق.
{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ} أي مما يمثل به الهدى ما يوقد {عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ}، وهو ما يوقد من الذهب والفضة لتخليصه من الشوائب، ومن العلائق التي تعلق به، {أَوْ مَتَاعٍ} مما يحمى به المعدن من النحاس والرصاص أو غير ذلك.
إذا حمي الذهب والفضة وكذا إذا حمي الحديد والرصاص والنحاس، خرج زبد مثل زبد الماء، هذا الزبد لا يرغب ولا يحب، بل هو ذاهب جفاء كما قال تعالى {زَبَدٌ مِثْلُهُ} أي مثل الزبد الذي يكون على الماء.
وحال هذا الزبد في الصورتين، وفي المثلين الذهاب كما سيأتي في قوله تعالى {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً}.
يقول الله جل وعلا بعد أن ذكر هذين المثلين، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي كذلك يمثل الله تعالى الحق والباطل، ويبين حال الحق وحال الباطل في الدوام والبقاء، وفي الاستمرار والانقضاء.
يقول جل وعلا بعد أن ذكر المثلين السابقين بيَّن كيف تنتهي حال الحق، وكيف تصير حال الباطل.
يقول سبحانه وتعالى {فَأَمَّا الزَّبَدُ} وهو الباطل الذي مثَّل به في هذه الآية بالزبد سواء في المثل الأول أو في المثل الثاني.
{فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أي يذهب غير مكترث بذهابه، يذهب غير منتفع منه، أي يذهب غير مبالاً بذهابه.
يقول الله جل وعلا {فَيَذْهَبُ جُفَاءً}، وقد قال أهل التفسير: الجفاء هو ما يلقيه الوادي في جنباته، وما يفيض به القدر عندما يغلي، وعندما يحمى انظر "فتح القدير" للشوكاني (4/100)..
يقول سبحانه وتعالى في مآل الحق ومنتهاه وعاقبته {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} أما ما ينفع الناس في دينهم أو في دنياهم فإن الله تعالى قضى أن يبقى في الأرض فيمكث في الأرض لأنه رواسي الأرض، لأنه ثبات الأرض، لأنه لا صلاح للأرض إلا به.
{كَذَلِكَ} أي مثل هذا المثل الذي تقدم ذكره من المثل المائي، والمثل الناري.
{يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} أي يبينها ويصرفها لأجل أن يعقل الناس ما هي حقائق هذه المعاني، بأمثال مشاهدة، تبصرها أعينهم وتدركها حواسهم، فيقرب الله تعالى تلك المعاني التي في الأفهام، وتلك الغائبات التي في الأذهان يقربها بأمثلة وأشباه محسوسة يدركها الناس بأعيانهم.
إن الله تعالى بيَّن في هذه الآية حال الحق، وحال الباطل، وأن الباطل لا يقر ولا يسكن في حين أن الحق يبقى ويدوم.
وأن الباطل مهما رَبَا وانتفع وعظم وكبر فإن مآله إلى زوال وذهاب بخلاف الحق فإنه يبقى مهما استضعف، ومهما خفي ومهما اضمحل في أعين الناس إلا أنه باق ولابد من ظهوره كما قال جل وعلا {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} سورة الأنبياء:18..
وكما قال جل وعلا {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} سورة الإسراء:81..
فهذا وصف ذاتي للباطل مهما أوتي من الأسباب والقوة والقدر فلابد أن يزول، والباطل هنا لا يختص عملاً من الأعمال، ولا زمناً من الأزمان، ولا جنساً من الأجناس، ولا عقيدة من العقائد، ولا دولة من الدول، بل هذا يشمل كل باطل، فهذه حقيقة الباطل.
لذلك يجب على المؤمن أن يمتلأ قلبه يقيناً بأن الحق منتصر، وأن العاقبة للمتقين، وأنه مهما دامت دولة الباطل، ظهرت وانتشرت أعلامه، فإن الله تعالى من ورائهم محيط.
وإنه جل في علاه يسوق الأقدار إلى آجالها،{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} سورة الطلاق:3..
لذلك من الضروري أن تمتلئ قلوبنا ثقة بوعد الله،{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} سورة آل عمران:9. .
لكن ينبغي أن يعلم أن هذا في الباطل الصرف، الباطل الظاهر، أما الباطل النسبي الذي يعده بعض الناس باطلاً ويراه آخرون حقاً، فهذا لا يدخل في هذا المثل لأن هذا من مواطن الاجتهاد.
لذلك لا يسوغ أن تنزل مثل هذه الآيات على مسائل الاختلاف الاجتهادية، إنما هو في الباطل الصرف، وفي الحق الصرف، الذي دلائله واضحة وبراهينه جلية، فليس ذلك في مواطن الاشتباه والاختلاف.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، واملأ قلوبنا يا ذا الجلال والإكرام ثقة بوعدك وعملاً لنصرة دينك، واجعلنا من أهل الحق العاملين به الداعين إليه.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.