بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة السادسة والعشرون))
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، أحمده جل في علاه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثالٌ قرآنية".
برنامج نتناول فيه جملة من الأمثال التي ذكرها الله تعالى في كتابه، نقف معها، نتدبرها، نتأمل في معانيها، وأسرارها ومعارفها، لعل الله أن ينظمنا في سلك عباده المتقين، وأن يجعلنا من العقلاء الراشدين {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} سورة العنكبوت:43..
اللهم أنظمنا في سلكهم واجعلنا منهم يا رب العالمين.
مثلنا في هذه الحلقة، هو قول الله جل وعلا في سورة إبراهيم:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} سورة إبراهيم :18..
هذا مثل ضربه الله جل وعلا لأعمال الكفار وما قاموا به من أعمال في هذه الدنيا، وما سعوا من سعي في هذه الحياة الأولى.
يقول الله جل ووعلا في بيان هذه الأعمال ما شأنها وما حالها عندما يقدمون عليه جل في علاه، هل يجدون تلك الصنائع، وهل يجدون تلك الأعمال، وهل ينتفعون منها بشيء؟
ضرب الله تعالى مثلاً للجواب على هذا السؤال، فقال جل وعلا:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}.
والمعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} فهذا مثل مضروب لأعمال الكفار، وما تكون حالها، وما تصير إليه في يوم يعرضون فيه على الله جل وعلا.
والكفار لهم أعمال مختلفة غالبها خارج عن الهداية، واقع في الضلالة والغواية، لكن لهم أعمال قد تكون صالحة في الظاهر، فتكون من البر والخير، ومن صنائع المعروف ومكارم الأفعال، فهل يجزون على تلك الأعمال؟ وهل تنفعهم تلك الأعمال عندما يعرضون على الله جل وعلا؟
أما ما يتعلق بالجزاء فالله تعالى لا يظلم الناس شيئاً كما قال سبحانه وبحمده {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة النحل :118.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} سورة فصلت:46..
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة يونس:42..
فالله جل وعلا لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى مهما كان عمله إذا كان صالحاً، ومهما كان العامل إذا كان صالحاً.
ولكن الفرق أن المؤمن ينتفع بعمله في الآخرة، وأما الكافر فإن عمله يذهب هباء منثوراً كما قال جل في علاه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} سورة الفرقان:23..
ولا يعني هذا أنهم لا يجازون على هذه الأعمال، بل هم يجازون على ذلك في الدنيا كما جاء ذلك في "الصحيح" من حديث أنس رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» أخرجه مسلم (2808)..
فالله لا يظلم الناس شيئاً، فالكفار وإن عظمت جنايتهم، وكبر ظلمهم بشركهم وكفرهم بالله تعالى، {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة البقرة:254..
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} سورة لقمان:13..
هذا الظلم يحبط العمل، ويذهب السعي ولكن الله جل وعلا يعطيهم عليه ثواباً في الدنيا بما يتنعمون به.
أما الآخرة فإن الله تعالى يُذْهِبُ أعمالهم على هذه الصورة التي ذكر في هذه الآية، وفي سورة الفرقان قال {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} سورة الفرقان:23..
فيرونه يوم القيامة على هذه التي ذكرها الله تعالى في سورة الفرقان، وفي هذه السورة المباركة، {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}، هذه الصورة داخلة في قول الله جل وعلا {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} سورة البقرة:167..
فتحبط تلك الأعمال، ويذهب نفعها، ولا يدركون منها شيئاً، ولا يفوزون منها بصالح يفرحون به كما ذكر ذلك في مواضع عديدة.
فقد مثَّل الله تعالى أعمال الكفار في عدة مواضع من كتابه الحكيم، خصوصاً، وعموماً.
أي خصوصاً في بعض الأعمال، وعموماً في مجمل العمل.
فعلى وجه الخصوص قال تعالى في النفقات {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة آل عمران:117..
وقال جل وعلا في نفقاتهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} سورة البقرة:264..
هؤلاء يضيع سعيهم، ويتبدد عملهم، لأنهم لم يخلصوا لله أعمالهم، أو لأنهم لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسنته، أو جمعوا بين الأمرين، فليس في عملهم إخلاص ولا متابعة.
ليس فيها إخلاص لله جل وعلا، ولا متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، والله جل في علاه يقول في بيان حال أعمال هؤلاء {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} سورة الكهف:103- 105..
ليس هناك شيء يوزن، تذهب الأعمال، ويتبدد السعي، فليس لهم شيء يحفظ أو يوزن، بل هو كما قال جل في علاه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} سورة الفرقان:23..
وكما قال في هذا المثل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}.
هذا المثل الذي مثَّل الله تعالى فيه أعمال الكفار، وما يكون من صنائع المعروف التي يقومون بها، كيف حالها، وكيف تصير، وكيف تنتهي، وكيف تؤول، قال جل وعلا {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ}أي الصالحة، في قول كثير من أهل التفسير انظر "أيسر التفاسير" للجزائري (2/261)..
{كَرَمَادٍ }فشبه الله تعالى أعمالهم كرماد، والرماد هو ثمرة الإحراق الذي يسحق الأجرام ويحيلها من أعيان إلى كونها رماد لا ينتفع به، ولا يستفاد منه.
هؤلاء الكفار ومن كان على منوالهم من الأعمال هذه حاله، يذهب الله تعالى عمله فتصير كما قال جل في علاه {كَرَمَادٍ}.
وهو لو كان رمادً لما انتفع به، فكيف وهو رماد في يوم عاصف، شديد هبوب الريح.
حيث قال جل وعلا في هذا التمثيل {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}، أي أسرعت في إذهابه،وتفريقه، وتبديده، وليس ذلك عارضاً في لحظة بل هو في يوم عاصف شديد هبوب الريح.
{لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} فليس لهم قدرة على ما عملوا، لا في الانتفاع به، ولا في ذكره، ولا في إنجاء أنفسهم به، فكيف يدركون شيئاً من منافع ذلك العمل الذي يتبدد ويذهب.
فأعمالهم ليس فيها نفع، وليس فيها مصلحة لهم يوم القيامة، بل لا يرون لها أثراً من ثواب ولا فائدة من إنجاء { لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} بالكلية لا بقليل ولا بكثير، لا في ليل ولا في نهار، لا ماض ولا حاضر.
تذهب كل هذه وتصبح رماداً، وهذا تشبيه بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم، وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا.
والكفار في النار، وأعمالهم في النار، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله تعالى وقود جهنم، كما قال جل وعلا {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} سورة البقرة:24..
هكذا هي أعمالهم.
{ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}هذه الحال، هي حال الضلال البعيد السحيق، كذاك الذي ضاع في متاهة، وأبعد النجعة فهو طويل العناء، لا يدرك نفعاً، ولا يصل إلى هدف، بل هو تائه يتخبط يمنة ويسرة لا يصل إلى غاية ولا يبلغ مراداً.
هذا ما ذكره أكثر أهل العلم في تفسير هذا المثل.
وقال بعض أهل العلم: هذا مثل لأعمال الكفار في محاصرة الديانة، ومعاندة أهل الحق، والكيد لأهل الإسلام، فإنهم وما يكيدون هو كالرماد الذي اشتدت به الريح".
بمعنى أنه مهما كاد هؤلاء الكفار أهل الإسلام وما كادوا دينه جل في علاه، فإن عملهم مضمحل كرماد اشتدت به الريح.
فما ينفع يبقى، وما يكون من مكبر كُبَّار، وكيد الكفار يذهب ويتلاشى كما قال الله جل وعلا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} سورة الأنفال:26..
اللهم نسألك بفضل وعظيم إحسانك وجودك، أن ترزقنا تدبر كتابك، وأن تجعلنا من أهل القرآن الذي هم أهلك وخاصتك.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.