بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة السابعة والعشرون))
الحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
أحمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله،بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، بالعلم والبيان، والسيف والسِّنَان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثالٌ قرآنية".
في هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى – نتناول مثلاً ذكره الله جل في علاه في سورة إبراهيم، يقول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} سورة إبراهيم:24-25..
هذا المثل ضربه الله جل وعلا لأهل الإيمان وما يكون منهم من صالح الأعمال، بعد أن ذكر الله تعالى في المثل السابق أعمال أهل الكفر، وحالها ومآلها في قوله جل وعلا،{مثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} سورة إبراهيم :18..
ذكر الله جل وعلا أعمال أهل الإيمان وما تكون عليه في المآل والمنتهى، وخاطب فيه كل تالٍ للقرآن، وكل سامع له، وأول ذلك خطابه لمن أوحي إليه القرآن، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} أي ألم تر يا محمد {كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} إلى آخر المثل.
والرؤية هنا رؤية القلب، ونظره وبصره، وليست رؤية العين، فعين القلب هي التي تبصر هذا المثل، وهي التي تعقل معناه.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} يقرب فيه ما يكون في الأذهان من المعاني، وييسر فيه فهم ما أراده من المضامين، والمفاهيم، وما أراد تقريبه لأذهان السامعين.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} فالكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، كلاهما يجتمع في الطيب، ويجتمع في الثبات، ويجتمع في طيب الأثر وجميل الثمر.
يقول الله جل وعلا {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.
- وقد قال جماعة من أهل التفسير أورد هذه الأقوال الماوردي في "النكت والعيون"(3/132)، وابن الجوزي في "زاد المسير"(4/27).: المراد بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" وهو قول ابن عباس..
ولا ريب أن لا إله إلا الله أطيب الكلام وأعذبه، وأوفى كلام في إثبات الحق لله جل وعلا، فهي كلمة التوحيد التي بها يفتح العبد باب السعادة في الدنيا والآخرة، فمن وفق إلى فهم معناها والعمل بمقتضاها، والإقرار بمضمونها، كان ذلك سعادة له في الدارين، فقد تواطأت كلمات الرسل، واجتمعت على دعوة الخلق إلى هذا المعنى، كما قال جل في علاه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء:25..
فالكلمة الطيبة هي هذه الكلمة العظيمة، كلمة التقوى التي بها نجاة العبد في الدنيا وفوزه بالآخرة "لا إله إلا الله".
- وقال جماعة من أهل التفسير: إن المراد بالكلمة الطيبة الإيمان بمجموع عقائده، وخصاله، وما يكون من أصوله التي تقر في القلوب فتصلح بها الأعمال وهو قول مجاهد وابن جريج..
- وقال آخرون : المراد بالكلمة الطيبة المؤمن الذي حقق هذه الكلمة، وتلك الخصال وهو قول عطية العوفي والربيع بن أنس . .
والذي يظهر أن هذا التفسير لا يختلف فهو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد.
فإن لا إله إلا الله كلمة زاكية طيبة بها تصلح العقائد، بها يتحقق الإيمان، بها يشرف المرء فيكون من أحسن عباد الله تعالى وأصلحهم وأنفعهم لنفسه ولغيره.
فتفسير الكلمة الطيبة بلا إله إلا الله، لا يعارض تفسير هذه الكلمة بالإيمان، فإن أصل الإيمان " لا إله إلا الله " ولا يعارض تفسيره بالمؤمن فإن المؤمن إنما اكتسب هذا الوصف بهذه الكلمة الطيبة" لا إله إلا الله".
وقوله جل وعلا {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} أي مثله كمثل شجرة طيبة.
والشجرة الطيبة قيل هي النخلة، جاء ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وقال به جماعة من أهل التفسير.
وقال آخرون إنها شجرة في الجنة.
وقال آخرون: إن الشجرة الطيبة هي المؤمن، حكي ذلك عن ابن عباس، حيث قال:الكلمة الطيبة الإيمان، والشجرة الطيبة المؤمن" أورد هذه الأقوال الماوردي في "النكت والعيون"(3/132)، وابن الجوزي في "زاد المسير"(4/27)..
والله أعلم أن الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله، وما يتفرع عنها من صالح الأعمال، والشجرة الطيبة هي المثل الذي مُثِّل به المؤمن في طيب أصله وزكاء عمله ، وثبات أصوله، وطيب ثماره وآثاره.
وقد جاء في السنة النبوية في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ:«هِيَ النَّخْلَةُ» أخرجه البخاري في العلم (61)، ومسلم (2811)..
فالشجرة الطيبة هي النخلة، وهي التي ينطبق عليها ما ذكره الله تعالى من وصف في هذه الآية، حيث قال {أَصْلُهَا ثَابِتٌ}، فالنخلة من أثبت الأشجار، وأرسخها في الأرض، وألزمها لمكانها، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي أن أوراقها في العلو شامخة، كما قال تعالى {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} سورة ق :10..
فهي باسقة عالية مرتفعة شامخة، كذلك المؤمن في أعماله.
فالمؤمن له من الأعمال الصالحة ما يرتفع إلى رب الأرض والسماء جل في علاه، فيزكو عند ربه، وقد قال الله جل وعلا في وصف أعمال المؤمنين {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} سورة فاطر:10..
فالكلمة الطيبة إذا استقرت في القلب، أثمرت زكي الأعمال وصالحها على اللسان والجوارح.
وكان ذلك ظاهراً بادياً في كل أحواله، فتجده ينصبغ بطاعة الله جل وعلا، وينقاد لأمره، وبسابق في الخيرات، ويسارع في ألوان المبرات بعد أن تقر هذه الكلمة " لا إله إلا الله" في قلبه.
فلا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثبات هذه الكلمة في القلب، كما قال جل وعلا {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.
فلابد لها من ثمار زاكية، وهذا الثمر له أحيان وأوقات بإذن الله وتوفيقه، وإعانته وتسديده، فلما يكون من عمل إلا بإعانة الله جل في علاه.
والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا.
فالله تعالى يجعل لهذه الكلمة من الثمار والآثار في سلوك العبد وعمله ما يسر به الإنسان فيرتفع ويعلو عند ربه جل في علاه بسبب هذه الكلمة الطيبة،.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يحرص جهده وأن يبالغ في تحقيق هذه الكلمة في قلبه، فإنه إذا استقام قلبه على التوحيد انعكس ذلك على أعماله استقامة وصلاحا وزكاء وهدى فإن ما في القلب يظهر في الجوارح كما قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم «أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْب» أخرجه البخاري في الإيمان(52)، ومسلم (1599)..
فالإيمان إذا قرَّ في قلب العبد حمله على صالح الأعمال وزكيها، وانقادت جوارحه، وانطبع سلوكه، على ما يحب ربه ويرضى، {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} سورة البقرة:138..
يقول الله جل في علاه، بعد أن ذكر هذا المثل لأعمال أوليائه وعباده الصالحين، وما يثمره الإيمان في قلوبهم من صالح الأعمال وزكي الأحوال يقول {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
يقرب الله جل وعلا المعاني لعباده بضرب الأمثال التي تقرب المعاني المعقولة بأمثلة محسوسة، فالله تعالى من رحمته وعظيم إحسانه وتيسيره لعباده أن جعل الأمثال وسيلة لفهم مراده وإدراك معاني كلامه جل في علاه.
وقد ضرب الله تعالى لعباده في كتابه الأمثال كما قال سبحانه {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} سورة الزمر:27.
وكما قال سبحانه {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} سورة الإسراء:17..
فالقرآن مليء بالأمثال التي تقرب المعاني، التي توصل المقصود إلى أذن السامع دون مشقة وعناء، فكانت هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان وكشف مستور المعاني، وهداية الخلق إلى ما فيه رشدهم وصلاحهم، إلى ما فيه سعادة دنياهم وأخراهم.
ولذلك قال {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} سورة العنكبوت:43. .
الله جل وعلا، ضرب الأمثال ليسهل على الناس التذكر، والاتعاظ لذا قال سبحانه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي رجاء أن يحصل لهم التذكر الذي يثمر صالح العمل، ويثمر الاتعاظ والادكار، ويثمر زكاء الأعمال.
اللهم إنا نسألك من فضلك عقل كلامك، وتدبر آياتك.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.