بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الثامنة والعشرون))
الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفضَّل بإنزال القرآن، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بيَّن البيان المبين، وأوضح السبيل حتى ترك الأمة على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، برنامج نتناول فيه أمثال القرآن بالإيضاح والبيان، نقف على أسرار تلك الأمثال ومعانيها، نحاول أن نتدبرها وأن ننظر في كيفية الاستفادة منها في حياتنا، وفي معاشنا وفي تحقيق قول ربنا {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد: 24..
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، وأعنا على تلاوته وتدبره والعمل به على الوجه الذي ترضى به عنا.
في هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى- نتناول تتمة مَثل ذكره الله جل وعلا في سورة إبراهيم.
ذكر الله جل وعلا مثلين متعاقبين لأهل الإيمان وكلمة الإيمان، وأهل الشرك وكلمة الكفر والشرك.
قال جل وعلا :{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، ثم قال جل وعلا في المثل الثاني وهو موضوع هذه الحلقة {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} سورة إبراهيم: 26..
هذا المثل ضربه الله تعالى للكلمة الخبيثة، وهي كلمة الكفر والشرك، فهي أخبث الكلمات، وهي أخبث العقائد، وهي أخبث ما يكون من الأقوال، ولذلك قال جل وعلا في بيان حال هذه الكلمة تنفيرا للنفوس منها وبياناً لخطرها، وبياناً لعاقبتها ومنتهاها.
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}، وهي كلمة الشرك، هي كلمة الكفر بالله تعالى، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}، أي مثل هذه الكلمة مثل شجرة خبيثة، وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله من أهل التفسير في المقصود بالشجرة الخبيثة، فقال بعضهم "شجرة الحنظل، وقال بعضهم " هي شجرة ذكرها الله في كتابه ولم يخلقها في الأرض لكنها خبيثها كما وصف الله جل وعلا، وخبثها في مأكلها، وخبثها في منظرها، خبثها في ثمرها، خبثها في آثارها ونتاجها، فهي خبيثة من كل وجه، ليس فقط الخبث في منظرها أو في ناحية من نواحيها ، بل كل ما يتعلق بهذه الشجرة خبيث.
ولذلك لم يكن لها من علاج إلا أن تجتث من فوق الأرض، وأن تقتلع فلا يبقى لها من قرار، ولا يبقى لها أصل راسخ ولا فرع باسق.
يقول الله جل وعلا :{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}، الكلمة الخبيثة هي الكفر والشرك، والشجرة الخبيثة هي الشجرة التي لا نفع فيها، ولا خير بل ثمارها ضارة، ومنظرها قبيح، ولها آثار على القريب والبعيد غير محمودة ولا محبوبة.
يقول جل وعلا {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ}، أي أزيلت من فوق الأرض ، فليس لها في الأرض عروق راسخة، وليس لها امتداد يثبتها ويبقيها في هذه الأرض لأنها ضارة، ولأنها خبيثة، ولأن النفوس تشمئز منها، والأرض تأبى أن تمتد عروقها فيها، فلذلك مآلها الاجتثاث، {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}،أي ما يمكن أن يكون لها ثبات، ولا يمكن أن يكون لها استقرار، بل هي سريعة الزوال، قريبة الاضمحلال، لا تثبت ولا تقر، هكذا هو الكفر والشرك، فإنه خلاف الفطرة، خلاف ما من أجله وجد الناس، الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، وما كان مخالفا لمقصود الخلق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها لا يقر مهما فشا وانتشر وكبر فإنه ليس له قرار على الأرض بل لابد أن يزول، فلا يبقى إلا ما ينفع الناس لا يبقى إلا ما من أجله خلق الله تعالى الخليقة، وهو الإيمان بالله تعالى.
فهذا المثل المضروب في هذه الآية بيَّن الله فيه جل وعلا حقيقة الكفر به، حقيقة عقائد الشرك والكفر، وما تنتهي إليه، وأنها مهما عظمت ومهما كبرت فإنها لا تخرج عن كونها {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}، فليس لها ثبات فلا عروق تمسكها، ولا ثمرة صالحة تنتجها، بل إن وجد فيها ثمرة فهي ثمرة خبيثة، فهكذا كلمة الكفر هكذا المعاصي ليس لها ثبات نافع في قلوب العباد، وليس لها ثمرة، فمن أعمر قلبه بالكفر أظلم قلبه، واضمحل فلا ينتج عنه بر ولا صلاح ولا استقامة ولا تقوى وقد بيَّن الله جل وعلا في محكم كتابه حال الكفار وما هم فيه من ظلمة ناتجة عن إظلام قلوبهم ووحشتها.
يقول الله جل وعلا في بيان حال الكفار في أعمالهم:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} سورة النور: 39..
وفي المثل الآخر لأهل الكفر يقول جل وعلا:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} سورة النور:40..
هكذا هي ثمار هذه الكلمة الخبيثة، إنها ثمار بئيسة، إنها ثمار تعيسة يدرك الشقاء أهلها في الدنيا قبل الآخرة.
فالكفار مهما فتح عليهم من متع الدنيا وتمكنوا منها فإنه لا يغيب عنهم ما ذكره الله تعالى من أوصافهم وحالهم في خبث نتاجهم ، وخبث ما يكونون عليه من عمل ناتج عن عقد منحرف.
يقول الله جل وعلا {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.
وهذه الأعمال هي نتاج تلك العقائد الخبيثة، فكل عقد خبيث، وكل كلام يقر في القلب على غير هدي القرآن الحكيم، وعلى غير سنة المصطفى الأمين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن ثمرته خبيثة، فالهدى كله في هذا القرآن، وفيما جاء به خير الأنام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} سورة الإسراء:9..
ولذلك ينبغي أن يحرص المؤمن على أن يصدر في كل عقائده، وفي كل أعماله عن كلام ربه وهدي سنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الهدي والهدى والطمأنينة والسكن والطيبة لا يكون إلا في كلام الله وكلام رسوله.
وقد يقول قائل: الكفار عندهم نتاج طيب فيما يتعلق بعمارة الدنيا والتطور فيها وهذا لا يعارض ما ذكره الله جل وعلا، بل قد قال الله جل في علاه عن أهل الكفر{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} سورة الروم:7..
فالحكم هنا ليس لكل أعمالهم التي تكون منهم، إنما لأعمالهم التي تكون سبب كفرهم، أعمالهم التي تتعلق بعقائدهم ، وأما ما يتعلق بأمر الدنيا فإن الله قد نظم هذا الكون على سنن من أخذ بها فإنه يدرك مطلوبه، ويحقق مقصوده، ولذلك ما هم فيه من تطور هو ليس نتاجاً للكفر، هو نتاج لجهود قاموا بها، وأعمال بذلوها وسعي اجتهدوا فيه فأدركوا نتيجته، ولو قام بهذا أهل الإيمان لجمع الله لهم الخيرين.
ولهذا ينبغي أن يعلم أن هذا المثل الذي ذكره الله تعالى لأعمال أهل الكفر هو في عقائدهم التي خالفت ما كان عليه كلام الله جلا وعلا وما جاءت به الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يميز بين ما يكون من نتاجهم في الدنيا وبين ما يكون من فساد عقائدهم وخراب أعمالهم، وفساد الاعتقاد لابد أن يؤثر على معاش الإنسان.
ولهذا لم تحقق هذه المدنية لأهلها ما يصبون إليه من طمأنينة وسكينة وهدوء، بل هم في شقاء وعناء قد يخففه ما يخفف من ملذات ومتع دنيوية لكنها سريعة الزوال، كما قال الله جل وعلا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} سورة طه:124..
الله جل وعلا بعد أن ذكر هذين المثلين في كتابه، بعد أن ذكر مثل الكلمة الطيبة ومثل الكلمة الخبيثة بيَّن الفرق بين أهل الكلام الطيب، وأهل الكلام الخبيث في العاقبة والمآل، فقال جل في علا {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وهم أهل الكلام الخبيث، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} سورة إبراهيم :27..
ففي هذه الآية بيَّن الله تعالى جزاء أهل الكلمة الطيبة من التثبيت في الدنيا والآخرة وبين ما يكون من جزاء أهل الكلمة الخبيثة من الضلال في الدنيا وفي الآخرة.
اللهم اجعلنا من أهل الكلمة الطيبة الذين وفقتهم للعقائد الصحيحة والأعمال الصالحة.
أعنا على طاعتك، خذ بنواصينا إلى ما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.