بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الثلاثون)).
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، أي يسوون به غيره، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها النجاة من النار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إليه بإذنه وسراجاً منيراً،فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، وفي هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى-، نتناول ثاني مثلين ضربهما الله تعالى في سورة النحل مقترنين، تقدم المثل الأول وهو قوله سبحانه وبحمده {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
وفي هذه الحلقة المثل الآخر وهو قوله جل وعلا:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} سورة النحل:76..
هذا المثل كالمثل السابق، قال جماعة من أهل العلم هذا مثل لله جل وعلا وما يعبد من دونه من الأصنام والأوثان، وقيل هذا مثل للمؤمن والكافر"النكت والعيون"(3/204)، و"زاد المسير"(4/113)..
وعلى كل حال : الآية الكريمة تصلح للمعنيين، لكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أنه مثل لله جل وعلا وما يعبد من دونه من سائر المعبودات.
يقول الله جل وعلا :{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}.
هذا المثل قرَّر الله تعالى به بطلان ما ينتهجه أهل الشرك والكفر من تسوية غير الله تعالى بالله، فكيف يسوون غير الله به، وهو المتعالي عن الند والنظير والمثيل والمكافئ، { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} سورة الإخلاص :4..
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} سورة مريم:65..
{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة:22..
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} سورة النحل:74..
تعالى الله تعالى عن أن يكون له مثيل أو أن يكون له نظير.
مثَّل الله تعالى قبح ما تورط فيه المشركون من تسوية غير الله تعالى بالله الذي عليه تدور معاني الشرك، فقال جل وعلا {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ}، هذان الرجلان وصفهما الله تعالى بأوصاف،{أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}، فذكر الله تعالى له أربع صفات، ابتدائها بصفة البكم، وهو الذي لا يسمع ولا ينطق.
وهذا هو حال الوثن، فإن الأوثان لا تسمع ولا تنطق، فهي لا تتكلم ولا ترد على مخاطبها شيئاً.
فالله جل وعلا مثَّل الأوثان التي تعبد من دون الله بهذا المثل، بحال هذا الرجل ليتبين الفرق بين من يعبد الله جل وعلا، وبين ما يعبد ما سواه من الأصنام والأوثان.
أبكم، لا يتكلم ولا ينطق بخير إضافة إلى هذا {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}، من المقال ولا من الفعل ، بل هو{كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}، عبء يتعب صاحبه، ويتعب من توجه إليه، ومن قام بحاله، ولهذا عبَّاد الأوثان يقومون عليها بتنظيفها وحمايتها وصيانتها وخدمتها فهي كَلٌّ على عابديها لا تنفعهم ولا تضرهم، بل هي حمل عليهم في خدمتها وصيانتها، ثم هي لا تأتي بخير {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}،هذه حال هذا الرجل الذي ضربه الله تعالى مثلاً لمن يعبد من دونه جل وعلا .
فالأوثان على هذه الصفة كالرجل الأبكم الذي هو كَلٌّ على أقاربه وعلى من حوله، وحيثما يوجهونه لا يأتي بخير، لأنه لا يفهم ما يقال له، ولا يعبر عما في نفسه، فهو لا يفهم ولا يُفهم، هذه حاله ، وهذه حال الأصنام التي تعبد من دون الله.
ولذلك عاب خليل الرحمن على أبيه أنه عبد صنماً لا يسمع ولا يبصر فقال : {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} سورة مريم :42..
وهذه حال ذاك الرجل الأبكم الذي لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير.
{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}.
وقد قال خليل الرحمن لقومه لما حطَّم أصنامهم وكسرها، قال :{فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} سورة الأنبياء:63..
وقال :{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} سورة الشعراء:72-73. .
وقال موسى عليه السلام لقومه لما عبدوا العجل:{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} سورة الأعراف:148..
هذا بيان حال الأوثان التي تعبد من دون الله، وأنها لا تنفع أصحابها، وأنها كَلٌّ عليهم، وأنها عبء على من تعلق بها، وأينما قصدها، وكيفما جاءها، لا يأتي بخير ولا يحصِّل مطلوباً، ولذلك قال :{هَلْ يَسْتَوِي}، من هذه حاله،{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، كيف يستقيم التسوية بين الأبكم الموصوف بتلك الصفات، وبين من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، بين الله الذي يأمر بالعدل، كما قال جل وعلا{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} سورة النحل:90..
{وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}،فهو عدل في أقواله، عدل في أحكامه، عدل في قضائه، {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}،كما قال جل وعلا { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} سورة هود:56..
فضرب الله تعالى مثلا لنفسه جل وعلا بحال هذا الذي وصفه سبحانه وبحمد بأنه {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فأعطاه الله تعالى الحكمة، فهو يعلمها ويعلمها للناس ويعمل بها، فهذا مثل مشاهد للفرق بين هذين الرجلين مع اتفاقهما في البشرية والإنسانية لكن بينهما من الفرق ما ينفي التسوية بين الرجلين، فلا يستوي هذا مع ذاك.
لا يستوي من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم مع من هو أبكم لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير.
لا يستوي هذا وذاك ومن سوَّى بينهما فقد سوَّى بين مختلفين مفترقين والجمع بينهما من أمحل المحال، والتسوية بينهما في غاية الظلم ومن دلائل الحرمان.
وهذا هو مثل ربنا جل في علاه سبحانه وبحمده، ومثل الأصنام التي تعبد من دونه جل في علاه.
وانظر حيث قال جل وعلا :{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، إشارة إلى أن الشرك بالله عز وجل مبناه ومداره على التسوية بين الله وبين غيره، فمن سوى غير الله بالله فقد وقع في الشرك.
ولهذا يقول الله جل وعلا بعد ذكره لربوبيته، وخلقه للسماوات والأرض وإلاهيته سبحانه وبحمده :{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} سورة الأنعام:1.
أي يسوون به غيره، ويوم القيامة يبطل هذا العمل، وينكشف هذا الزور والبهتان، ويتبين للمشركين أنهم في ضلال مبين حيث سووا غير الله تعالى بالله، ويقولون بلسان فصيح مبين {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة الشعراء:97-98..
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا ،وارزقنا العلم بكتابك، والفقه بأمثالك، واجعلنا من العالمين بها، المنتفعين بدلالاتها، العاملين بأحكامها.
وإلى أن ألقاكم في حلقة قادمة-إن شاء الله تعالى-، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.