بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الحادية والثلاثون)).
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده حق حمده، له الحمد كله ظاهره وباطنه، أحق من حمد، وأجلُّ من ذُكر ، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، ونحن في هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى-، سنتناول مثلا ذكره الله تعالى في سورة النحل بعد أمره جل في علاه بالوفاء بالعهد.
قال جل وعلا:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} سورة النحل:91..
هذه الآية تضمنت الأمر بالوفاء بالعهد، والنهي عن نقض الأيمان بعد توثيقها وتوكيدها ، لاسيما وقد جعل العبد الله تعالى كفيلاً عليه، شهيداً رقيباً حسيباً{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
بعد ذلك قال جل وعلا:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة النحل:92..
هذا المثل الذي ذكره الله تعالى لبيان قبح نقض العهود والمواثيق، ونكث الأيمان بعد توكيدها، مَثَل تعرفه النفوس وتدرك عظيم ما فيه من القبح، وعظيم ما فيه من ردائة الحال، وسوء المآل.
إن هذه المرأة التي بذلت جهدا وكدَّا ووسعاً ووقتاً وعملاً في غزل ما تنسجه، وإدراك ما تأمله في غزلها بعد أن استتم لها ما تطلب وأدركت ما تُأمل عادت على ذلك الغزل بالنقض، نقضته كما قال الله تعالى {أَنْكَاثًا} أي خيوطاً وأقساماً وفرقاً.
فجعلته أنكاثاً كأن لم يكن، جعلته مزوعاً كأن لم تبرمه قبل ذلك.
فقوله تعالى {أَنْكَاثًا}، أي أنقاضاً، وكل شيء نقض بعد الفتل فهو أنكاث، وواحدها نكث وهو الغزل، أو الحبل الذي أبرمته وكونت منه ما كونت من غزل .
إن هذا المثل يدرك السامع له أن ما أقدمت عليه هذه المرأة من إبطال عملها وتخريب بنائها لا يفعله عاقل رشيد.
هكذا هي حال من نقض العهد والميثاق، فكل من نقض العهد وأعاد ما بناه هدما فإنه {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}.
إنه مثل يبين عظيم الخسار الذي يدركه ذاك الذي نقض عهده، ونكث في يمينه.
والعهود والأيمان أَمَر الله بالوفاء بها فقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} سورة المائدة :1..
وقال جل وعلا{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} سورة الإسراء:34..
وقال جل وعلا في الآية التي قبل هذه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} سورة النحل:91..
وقد بيَّن الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيم عقوبة من نكث في يمينه ليقتطع حقوق الناس وليبطل ما لهم ففي "الصحيح" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :« رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}الآيَةَ أخرجه البخاري (4549)، ومسلم (138)،وانظر سورة آل عمران:77..
هكذا جمع الله تعالى لهم صنوف العقوبات، وألوان العذاب لشناعة ما قاموا به، ومثل ذلك الذي يحلف على سلعته كما جاء ذلك في "الصحيح" من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ فِيهَا لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ..}إلى آخر الآية"صحيح البخاري"(4551)..
إن المؤمن يجل من هذا الوعيد، وتستقبح نفسه هذه الحال التي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، حال المرأة التي بنت ثم هدمت، وأبرمت ثم نقضت، فكانت حالها حالاً مكروه تنفر منها النفوس، ولا يبرر هذا النقض ولا يسوغه ما يتوهمه الإنسان من المصالح، لذلك قال الله جل وعلا :{تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}، أي تصيرونها خديعة ووسيلة للتغرير، ووسيلة لاقتطاع الحقوق وأخذها بغير حق، يقول الله جل وعلا {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}، أي أنه إذا لاح لكم مصلحة، وبدا لكم نفع في نقض العهد إنما هذا بلاء من الله جل وعلا يختبركم ليرى صدق إيمانكم، ووفائكم بما عاهدتم به وبما واثقتم عليه الناس ، وبما جعلتم الله عليه كفيلا.
ولذلك مثَّل بهذا المثال، وهو أن العرب كانوا يتعاقدون ويتعاهدون في أحلاف وعهود وعقود مع أقوام، ثم إذا جاء من هم أقوى منهم، أو من هم أكثر منهم عددا أو عدة انحازوا إليهم وتركوا حلف وعهد وميثاق الأولين، فيقول الله جل وعلا {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}، فهذا ابتلاء من الله تعالى، وبه يتبين للمؤمن أن كل معصية تتيسر له، مهما بحث لها من مسوغات وأوجد لها من مبررات فهي بلاء يبتليه الله تعالى به ليختبره لينظر صدقه وإيمانه، كما قال تعالى{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} سورة الأنبياء:35..
وقد قال الله تعالى لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابتلائهم واختبارهم فيما منعهم من الصيد {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} المائدة:94.، فتيسر المعصية أو وجود دواعيها وتعلق النفس بها هو من الابتلاء الذي يختبر الله تعالى به عباده.
يقول الله جل وعلا :{وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، فيوم القيامة يوم عظيم يقوم فيه الناس لرب العالمين، ويقيم الله تعالى فيه الأشهاد، ويقيم الله تعالى فيه العدل والقسط، ويقيم الله تعالى فيه الموازين كما قال جل وعلا {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} سورة الأنبياء:47..
وفي ذلك اليوم العظيم يحكم بين الناس، ويفصل بين المختلفين ويؤخذ لكل مظلوم حقه من ظالمه حتى إن الله تعالى يقضي للشاة الجماء من الشاة القرناء، وذلك لكمال عدله وتمام سلطانه سبحانه وبحمده.
هذه الآية الكريمة توجب على المؤمن أن يحذر أن تكون حاله مثل هذه الحال في كل أمر يبرمه وفي كل ميثاق يواثق عليه أحداً سواء كان الميثاق بين العبد وبين الله تعالى وهو أعظم المواثيق وأكبر العهود، أو كان بينه وبين عباد الله تعالى .
لذلك على المؤمن أن يجدد التزامه بميثاقه مع ربه جل في علاه، وأن يسأله الإعانة على القيام بحقه جل في علاه بتوحيده وطاعته فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، والإقبال على دينه والدعوة إليه على بصيرة.
وأما الخلق فيجب عليه أن يحفظ حقوقهم وليعلم أن حقوق العباد مبنية على المشاحة فإنه إذا اقتطع حق امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان.
وهذا يبين عظيم حقوق الخلق وأنها في غاية الصعوبة على أصحابها يوم القيامة إذا انتهكت وإذا أخذت بغير حق.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدي ضال المسلمين وأن يعيننا وإياكم جميعاً على الوفاء بالعهود و العقود وعلى حفظ الأيمان من النقض والنكث، وأن يجعلنا في زيادة وخير وأن يعيذنا وإياكم من الحور بعد الكور.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.