بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الثانية والثلاثون)).
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، له الحمد كله ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، في هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى-، نقف مع مثل لقرية ضربها الله جل وعلا مثلاً لعباده المؤمنين ليعتبروا ويدكروا ويتعظوا.
يقول الله جل وعلا{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} سورة النحل:112..
هذا المثل ضربه الله تعالى لقرية من القرى، قيل إنها مكة قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور ، وهو الصحيح ، وقيل إنها المدينة روي هذا القول عن حفصة.، وقيل غير ذلك، والله أعلم بتحديد تلك القرية انظر " زاد المسير"(4/132)..
وعلى كل الأحوال فإنها قرية من القرى جعلها الله تعالى مثلاً للاعتبار والادّكار.
فقال الله جل وعلا:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً}، وهذا يتعلق بوصفها من حيث استقرارها وأمن أهلها، فجمعت صفة الأمن والاستقرار، فهي آمنة لا يخاف أهلها من المخاوف التي تعتري أهل القرى والمدن والأمصار.
كما أنها {مُطْمَئِنَّةً}، أي مستقرة ، فليس هناك محاذير أو مخاوف أو ما يدعو للقلق أو ما يدعو للانتقال والارتحال، فهي مطمئنة قارة من الاطمئنان والقرار .
ثم قال جل وعلا:{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}، فقد تهافت إليها النعم، وتوالت عليها العطايا بأنواع الأرزاق من حيث تعلم ومن حيث لا تعلم،{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}، فتأتيها الأرزاق، وتأتيها النعم، وتأتيها المكاسب، من كل الجهات.
وقوله تعالى{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا}، الرغد في العيش والرزق هو أن تأكل متى تشاء وحيث ما تشاء ، فجمعت هذه القرية الكمال التام في طيب المعاش وأمنه وراحته وطمأنينته، فاكتملت لها بهجة الدنيا وزالت لها كل ما يطلبه أهل الدنيا في قراهم وأمصارهم.
يقول الله جل وعلا:{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ}، وهذا مفاجئ بعد ذلك الوصف للعطايا والمنن، فإنها لم تقابل تلك العطايا، ولم يقابل أهل تلك القرى ذلك العطاء، وذلك الإحسان، وذلك المن، وذلك العطاء الجزيل في القلوب والأبدان ، في المعاش والأنفس، لم يقابلوه بالشكر، بل قابلوه بالكفر ، قال تعالى{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ}، والكفر هو الستر والتغطية، فهذه القرية سترت نعمة الله تعالى وغطتها، وذلك إما بكون هذه النعم جحدت فلم تضاف إلى الله تعالى فأضافوا هذه النعم إلى أنفسهم كما قال قارون:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} سورة القصص:78..
أو أنهم اشتغلوا بتلك النعم في معصية الله تعالى، فسخروها في ألوان المعاصي والسيئات وصرفوها في صنوف مبارزة الله ورسله ومعاندة شرائعه.
وإما أنهم قصروا في شكرها فلم يشكروها على الوجه الذي يجب أن تشكر نعم الله تعالى.
فكل هذه الأوجه الثلاثة كلها من كفر النعم، أن تضاف النعم إلى غير المنعم بها من الأسباب أو الخَلق، أو أن تصرف في معصية الله جل وعلا، أو أن يقصر العبد في شكر نعمة الله جل وعلا بقلبه ولسانه وجوارحه.
هؤلاء كفروا بأنعم الله، وقوله {بِأَنْعُمِ اللَّهِ}، دلالة على أن ما أوتوا من النعم شيء كثير يوجب الادكار والاعتبار لكنهم طمسوا ذلك كله، فلم يشكروا نعمة الأمن، ولم يشكروا نعمة الطمأنينة ولم يشكروا نعمة الأرزاق المتنوعة التي تساق إليهم ويؤتى بها إلى بلادهم من كل مكان، فماذا كان؟ كان أن بدل الله حالهم، وغير عليهم ما كانوا يتنعمون به{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}.
{فَأَذَاقَهَا} أي مسهم ،{لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}، وانظر كيف جاء اللفظ القرآني باللباس، ولم يقل فأذاقهم الله الجوع والخوف، بل جعله لباساً لهم يقارنهم في كل أحوالهم، وفي كل تقلباتهم وشؤونهم، كاللباس الذي على الإنسان لا ينفك منه ولا يتجرد عنه، بل هو معه في قيامه وقعوده، وذهابه ومجيئه ويقظته، ونومه، هكذا أبدلهم الله تعالى فجعل حالهم كما وصف جل وعلا { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}،مقابل ما كان يأتيهم من أرزاق رغدة من كل مكان.
والخوف مقابل ما كان قد من الله به عليهم من أمن واطمئنان.
يقول الله جل وعلا في بيان سبب هذه العقوبة وأنهم إنما استحقوها بسبب ما كانوا يفعلون، قال {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، الباء هنا للسببية، أي لأجل وبسبب ما كانوا يعملونه من الكفر بأنعم الله تعالى.
وهذا المثل العام الذي ذكره الله تعالى أقام له شاهداً في الأمم السابقة، في كتابه الكريم، فقصَّ علينا نبأ سبأ.
يقول الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}، فماذا كان من حال أولئك، {فَأَعْرَضُوا}، وهذا هو الكفر بأنعم الله جل وعلا، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} سورة سبأ: 15 - 17..
هكذا تتبدل الأحوال وتتغير عندما يتغير أهلها، كما قال الله جل وعلا في محكم كتابه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة الأنفال:53..
إن الله جل وعلا ذكر في كتابه الحكيم من أخبار القرى ما يوجب الاتعاظ والاعتبار والادكار، لأولي البصائر والألباب.
يقول الله تعالى:{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} سورة القصص:58..
ثم يذكر وجل وعلا في سبب الإهلاك {ومَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} سورة القصص:59.، أي لابد أن تقوم عليهم الحجة التي يعاقب تاركها ومكذبها، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} سورة القصص:59..
إن الله تعالى لا يحابي أحداً فيما أجراه من سننه، وفيما قضاه مما أجرى عليه نظام كونه سبحانه وبحمده.
فكل أمة تكذب بما جاءت به الرسل تستحق العقوبة، وكل أمة تكفر بنعم الله تعالى، وتعرض عن دينه، وتنتهك محارمه فإن الله تعالى يبدل حالهم من حال إلى حال، ويبدل النعمة التي أنعم بها عليهم إلى ما لا يحبون ولا يسرون به.
يقول الله جل وعلا {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، ثم يقول :{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} سورة فاطر:43..
وقد قال الله جل وعلا:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، ثم قال حتى لا يتوهم أن ذلك في أمم قد خلت، ولن يتكرر { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}.
فكل من شكر الله تعالى، أقرَّ بنعمه وقام بحقها وقبلها وأضافها إليه، فإن الله تعالى سيزيده من فضله، وكل من تنكب عن شكر النعم فكفرها فإن الله قد توعده وتعهده بعذابه.
قال الله جل وعلا :{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} سورة إبراهيم:7..
إن تبديل نعم الله تعالى بكفرها موجب للعقوبات، والله شديد العقاب، وسواء كانت النعم دينية بالهداية والاستقامة، أو كانت النعم نعم دنيوية بالأرزاق والتأمين، وعدم الخوف والطمأنينة، فكل من بدَّل نعمة الله، فإن الله تعالى قد تهدده بالعقوبات.
يقول الله تعالى{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة البقرة: 211..
وقد أنعم الله تعالى علينا بأنواع النعم وصنوفها أن نشكره جل وعلا عليها، فإن الله يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، ويشرب الشربة فيحمده عليها.
انظر أثر الحمد على النعم اليسيرة فكيف بنعمة الإيمان، وكيف بنعمة الاطمئنان، وكيف بنعمة الأمان، وكيف بنعمة الأرزاق والأموال،وكيف بنعمة الولد والأهل وسائر ما يتنعم به الناس.
إن ذلك يوجب شكر الله جل وعلا، ويوجب الثناء عليه، ويوجب محبته والقيام بحقه إقراراً بفضله وإحسانه، وباللسان شكرا له وامتناناً، وبالجوارح استقامة وامتثالاً.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا.
اللهم إنا نسألك شكر نعمك على الوجه الذي ترضى به عنا، اللهم اجعلنا ممكن قبل نعمك وشكرها وقام بحقها على الوجه الذي ترضى به يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفقنا إلى ما تحب وترضى واستعملنا فيما يقربنا إليك ، واجعلنا من عبادك المتقين، ومن حزبك المفلحين، ومن أوليائك الصالحين .. اللهم آمين.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.