بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الثالثة والثلاثون)).
الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب رحمة للعالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، في هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى-، نتناول ما ذكره الله تعالى من مثلٍ ضربه لعباده المؤمنين في سورة الكهف، قال جل في علاه :{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} سورة الكهف:32-36..
هذا هو مطلع المثل الذي ضربه الله تعالى بيَّنه وذكره، وأوضحه ووصفه للناس وللمؤمنين المنتفعين بأمثال القرآن العظيم، ليعتبروا ويتعظوا.
هذا مَثل فيه بيان أحوال الناس فيما يتصل بإيمانهم بالله تعالى، وإيمانهم بالآخرة، فهذا مثل قيل إنه مثلٌ لرجلين حقيقيين اختلف في تحديد زمانهما ، ومن أي الأمم هما.
وقيل إنهما مثلان مقدران، لأحوال الناس على وجه العموم لاغترارهم بالدنيا إذا أوتوا من نعيمها وزخرفها انظر "زاد المسير"(4/221).، {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} سورة العلق:6-7..
وعلى كلا الحالين، فإنه مثل فيه عبرة وعظة، وفيه تنبيه وتذكير، وفيه لفت للأنظار ليرى الإنسان ما هو مقدمة العمل وما هو مصيره ومآله ، فإن النظر إلى المآلات والعلم بما تنتهي إليه المقامات، هو من أشرف العلوم التي تفيد الإنسان في اتخاذ المقدمات التي تنتج الساعادات، وتقيه الشرور والتعاسات.
يقول الله جل وعلا:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا}، أي وصِّف لهم واذكر لهم وبيِّن لهم هذا المثال الذي تقترب به المعاني العقلية والذهنية وما يكون في الأفهام والتصورات إلى أمورٍ مشاهدة محسوسة، يدركون بها تلك المعاني العقلية، يدركون بها تلك المعاني التي قد لا يتصورونها على وجه كامل تام إلا برؤية نظائرها وأشباهها، وأوصافها فيما شاهدوا وفيما لا مسوا، وفيما عاينوا وفيما رأوا.
يقول الله تعالى :{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ}، ثم شرع النص القرآني في توصيف هاتين الجنتين، وبيان المنظر البهيج الذي كانت عليه هاتين الجنتين، يقول الله جل وعلا {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا}، هذا المنظر البديع، وهذا التناسق الكامل في هاتين الجنتين يبين ما كانت عليه من الكمال في منظرها الذي يدل على دقة صناعتها ودقة ما فيها من كمال، فهما جنتان من أعناب وقد حفتا بنخلٍ فجمعت أطيب الثمار العنب والتمر، وكملتا بما ذكر الله تعالى من الزرع الذي كان بينهما.
هذا منظر بهيج بديع متناسق بالغ في الروعة والجمال، تشتاق إليه النفوس وتتنعم به الأعين قبل أن تذوق نفعه وثماره.
ولذلك بعد أن ذكر وصَّف جمال المنظر أتى بذكر النتاج والثمر فقال :{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}.
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ}، قد كملت في إخراج الثمار دون نقص ولا بخس لشيء من ثمار تلك الزروع والأشجار.
يقول الله جل وعلا:{وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}، وهذا يبين عظيم ما كانت عليه من توفر الموارد فلا تحتاج إلى نقل ماء، ولا إلى سقي وعناء، إن الماء متوفر وهو قد تفجر، وهذا يدل على كثرته وتوفره،{وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا(33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}، أي حصل له ثمر من هذا البستان، ومن تلك الجنتين، ومن تلك الحديقتين الموصوفتين.
يقول جل وعلا :{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ}، قال هذا الرجل الذي أوتي هذا النعيم، وأوتي هذه النعم، قال{لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}، أي يجادله، ويناقشه، ويراجعه القول.
وهذا الصاحب هو الرجل الثاني الذي ضُرب مثله في هذا المثل القرآني:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، هذا أول ما قاله من سيء القول، ومن شنيع المقالات أنه اغتر بما آتاه الله تعالى من أموال، ومكنة ، وما يسر له جل وعلا من هذه الجنة التي وصفت على أكمل وصف، {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، أي وأعظم جاهاً وسلطاناً وأتباعا وقدرة ومكانة وشرفاً، {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، دخل تلك الجنة ، وقد استصحب في دخوله ظلماً عظيماً باستكباره وطغيانه وأشره وبطره وعلوه على الخلق، قال جل في علا:{قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}، وهذه ثاني المقالات السيئة التي تكلم بها هذا الرجل الذي ضرب الله له مثلاً ،{قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}، أي ما أظن أن هذه الجنة على هذه الصفة من الكمال في وصفها وتناسق أحوالها ووفرة مائها {أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}، بل هي دائمة مستمرة ، {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}.
ثم عطف على تلك المقولتين الشنيعتين الاستكبار على الخلق، والاغترار بالدنيا وبالأموال والنعم قال:{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، وهذا تكذيب للبعث والنشور، وجحود لما يجب الإيمان به من العود بعد الموت، والبعث إلى الحساب والقيام بين يدي رب العباد جل في علاه.
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ولو قدِّر أنه عائد فهو على استكباره مُصِرٌّ، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}، هذا مقاله، وهذه حاله، فقد جمع ثلاث مقالات هي من أسوأ المقالات، هي من شر ما يطوى عليه القلب وينطق به اللسان،{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، هذا أشنع ذلك، وهذا أشنع ما صدر من تكذيب البعث والنشور، {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}، اغترار بالدنيا، وكأنه لم يشاهد من هو أقوى منه، وأشد منه ، وأعظم ملكا وجاها كيف زال ، وارتحل ولو دامت لغيره ما وصلت إليه، ولو كانت تدوم له ما جاءته لأن من قبله أولى بالدوام منه.
وقد قصَّ الله تعالى حال الإنسان اغتراره بحاله في الدنيا، ومن الناس من ينظر إلى حاله في الدنيا ويظن أنها هي حاله في الآخرة إن كان في عطاء ومَنٍّ غره ذلك وقال {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}، وقد قال الله تعالى في حال الإنسان {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} سورة فصلت :50..
وقد قال الله جل في علاه{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} سورة الفجر:15 - 16.، حيث يستدل بالحال الحاضرة على ما يكون في المستقبل من عطاء أو منٍّ، وهذا ما يكون في المستقبل من عطاء أو من، وهذا غلط كبير لاسيما في أمر متع الدنيا ونعمها والتمكين فيها فإن الله جل وعلا يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} سورة الإسراء:20..
لكن التفاوت والتفاضل هو في العطاء الأخروي الذي يختص به الإيمان.
ثالث مقالاته الشنيعة القبيحة التي ذكرها الله تعالى عنه هو علوه في الأرض، استكباره على الخلق، ذاك الخُلق الذميم الذي يوجب حرمان الخير فإن الاستكبار من أسوأ ما يمنع الناس عن خير الدنيا والآخرة {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} سورة القصص:83..
فالإنسان إذا ما مُكِّن من نعم الدنيا ينبغي أن يقهر نفسه على أن لا يعلو على الخلق، وأن يسخر تلك النعم في تحقيق مرضات الله جل وعلا، لا أن يطغى فإن الطغيان سب لكل محق وعقوبة وحال سيئة في الدنيا والآخرة {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} سورة العلق:6-7..
هذه المقالات الثلاث التي قصَّها الله جل وعلا في هذا المثل تبين ما في قلب هذا الرجل من سوء طوية، ومن خبث عقيدة، أنتجت وأثمرت تلك المقالات الخبيثة، وذلك الاغترار والزهو بالنعم الذي يوجب المحق والخسار، وسنشاهد إن شاء الله تعالى حال هذا الرجل وما انتهى إليه مصيره وما كان مآله فيما قصه الله تعالى في بقية هذا المثل في الحلقة القادمة -إن شاء الله تعالى-.
إلى أن نلقاكم في حلقة جديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.