بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الخامسة والثلاثون))
الحمد لله رب العالمين، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد بالعلم والبيان والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، سنقف في هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى - على شيء من العبر والعظات، والفوائد والدلالات التي تضمنها ذلك المثل المضروب في سورة الكهف في قوله جل وعلا{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا...} سورة الكهف:32. إلى آخر ما ذكر الله جل وعلا في ذلك المثل البديع العظيم، وهو أطول مثل ذكره الله تعالى في كتابه الحكيم.
فقد ذكر فيه من الأحوال والأقوال، والمبدأ والمنتهى،والمصير والمآل، ما يوجب الاعتبار، ويوقف أولي الأيدي والأبصار على تلك العبر والعظات.
يقول الله جل وعلا {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ}، وهذا هو شأن القرآن العظيم في تقريب المعاني وإيضاحها وإبانتها يسلك كل سبيل يتضح به الحق، ويجلو به المقال، من ذلك ما ذكره الله من أمثال القرآن الحكيم التي لا يعقلها إلا العالمون، فإنها تقرب المعاني وتجليها .
هذا مثل ضربه الله تعالى لحال المغتر بالدنيا التي غرته حتى وقع في الكفر، وحال المؤمن البصير الذي لا تقف نظرته عند ما يشاهده من أحوال الدنيا بل ينفذ ببصره إلى دار القرار، إلى الجنة والنار فإنه يبصر ما في الآخرة فيعمل لتوقي النار ويفوز بالجنان {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} سورة آل عمران:185..
الله جل وعلا ذكر من حال هذين الرجلين أن أحدهما قد أوتي من نعم الدنيا ما أوتي، ومُكِّن فيها بأنواع المكن، وأنواع الأرزاق التي أغنته وأطغته حتى قال لصاحبه قبل أن يدخل جنته في أول حواره له {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، ثم استطال في اغتراره وأبان عن غروره حيث قال {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، ثم في إسرافه وظنه أن هذا العطاء من رب العباد إكراماً له وتخصيصاً له لما له من الفضائل وما له من الخصائص، حيث قال {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}، فاستدل على العطاء الدنيوي على الكمال الأخروي وهذا ما كذبه الله في قوله جل في علاه{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} سورة الفجر: 15-16. يقول الله جل وعلا{كَلَّا}، أي ليس الأمر كما توهمتم من أن سعة الأرزاق وعطاء الدنيا دليل على إكرام الآخرة، وأن تضييقها وحبسها ومنعها دليل على إهانة العبد في الآخرة، بل ذلك كله وفق حكمة، يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه جل في علاه يجعلها خالصة للذين آمنوا في الآخرة، فلا يعطى إلا أهل العطاء والفضل وأهل الاستحقاق بمن الله تعالى وكرمه، وإحسانه وعطائه.
ومن فوائد هذا المثل البارزة : الاعتبار بحال الذين أنعم الله تعالى عليهم بنعم دنيوية فألهتهم عن آخرتهم، وغرتهم وأوقعتهم في أنواع من العصيان، وأن مآل ذلك إلى الانقطاع والاضمحلال، وأنه مهما أوتي من نعم الدنيا فإنه إذا لم يسخرها في طاعة الله تعالى فإنها ستكون وبالاً وستكون شؤماً على أهلها إذ إنهم سيسألون عن النقير والقطمير وسيحاسبون على الدقيق والجليل، وقد يدركهم من أنواع العقوبات في الدنيا بسبب استكبارهم ما بيَّن الله تعالى مثيله ونظيره في هذا المثال حيث قال:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}.
هذا وصف لحال أولئك الذين أعجبتهم الدنيا فغرتهم حتى أوقعتهم في سيء المقال، والاعتقاد والعمل ، من العلو والاستكبار ، والتكذيب بيوم المعاد.
ومن إشراقات هذا المثل الكريم الذي ذكره الله تعالى في هذه السورة المباركة قول المؤمن وثباته أمام استهتار المستهترين، وتنقص المتنقصين، فإنه ما تزحزحت له قدم، ولا زاغ له بصر ، بل قابل ذلك المستكبر بذلك البيان العظيم واليقين الثابت،{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}، كيف يكون هذا، ثم بيَّن الفارق بينه وبين ذاك، وأن علوه ليس بمكان من أموال، ولا بما كان من جنات، ولا بما أدرك من نعيم الدنيا الزائل الفاني، إنما العلو الحقيقي فيما حوته الصدور وتضمنته الأفئدة، من إجلال الله عز وجل والإيمان به.
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}، ثم بعد أن بيَّن الفارق الجوهري بينه وبين ذاك المستكبر الطاغي قال له في لطف وبيان لما ينبغي أن تقابل به نعم الله جل في علاه، يقول له:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ}، هذه التي غرتك، هذه التي أعمت بصرك وبصيرتك {قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}، يعني هذه النعمة وذلك المن إنما هو بمشيئة الله تعالى، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لو لم يقدر الله تعالى أن ترزق بمثل هذا الذي قد رزقت به لما كان لك منه شيء، ما شاء الله كان، ما شاء الله يكون، ما شاء الله سيكون، كل ذلك فضل الله جل في علاه، والنعم تشكر بإضافتها إلى المنعم بها جل في علاه.
والخروج من الاستحقاق، فالإنسان محل الفضل وليس هو موجب الفضل، أي أنه هو محل إنعام الله تعالى وإحسانه فلا يستحق شيئاً من قِبَل نفسه.
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا.
فكل النعم سواء كانت دينية أو دنيوية إنما هي فضل الله تعالى، فالعباد والخلق كلهم يتقلبون بين فضله وعدله جل في علاه.
ولذلك قال {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}، أي ليس له قوة على هذا العطاء، ولا على هذا النعيم، إنما هو فضل الله الذي تفضل به عليك، ومنَّ به عليك فحقه أن يشكر، وحقه أن يذكر، وحقه أن تصرف تلك النعم فيهما يحب ويرضى فإن النعم إذا شكرت أوجبت مزيد عطاء كما قال جل في علاه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} سورة إبراهيم:.
وفي قول المؤمن لصاحبه:{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}.
تنبيه إلى أن المؤمن يجب أن ينفذ ببصره إلى الدار الباقية إلى الدار الآخرة إلى العطاء الذي لا يفنى، إلى عطاء الله تعالى للمؤمنين في الجنة التي قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن ربه في "الصحيحين"«أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنَ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» "صحيح البخاري"(3244)، ومسلم (2824)..
فالمؤمن يتسلى عن لذات الدنيا وشهواتها بما أعده الله تعالى، ومن أعظم ما يعينه على ذلك أن يعلم أن الآخرة خير وأبقى وأن الدنيا مهما زادت ومهما كثرت متعها فإذا لم تصرف في طاعة الله فهي وبال على من أوتيها ، قال جل وعلا {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} سورة سبأ: 37..
وفي قول المؤمن:{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ}، تنويع الخطاب والوعظ، فإنه ابتدأ أولاً بتذكيره وترغيبه ثم عاد إلى ترهيبه لأنه إذا استمر على هذا المسار، وطغى واستكبر فإنه حقيق أن تحل به المثلات، وأن تحيق به العقوبات، حيث قال له {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}، وهذا فيه أن الدعاء بتلف المال إذا كان سبباً للطغيان والكفر هو مما يشرع وليس من الاعتداء في الدعاء وخصوصاً إن استكبر به صاحبه وأظهر علوه على الخلق به، وفخر به فإنه مما يكون محلاً للدعاء لإزالة ما طغى به الإنسان وافتخر.
وفي هذا المثل المبارك أنه إذا حاطت أسباب الهلاك وانعقدت أسباب العقوبات فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع فإنه لا ينصر الإنسان ولا يمنع من قضاء الله وقدره {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} سورة يوسف:21..
وقد قال جل وعلا {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا}.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوقظ قلوبنا، وأن يحييها بتدبر آيات الكتاب الحكيم، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة - إن شاء الله تعالى مع برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.