بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة السادسة والثلاثون))
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، في هذه الحلقة نتناول مثلاً ذكره الله تعالى في سورة الكهف بعد مثل الرجلين اللذين ذكرهما الله تعالى في هذه السورة المباركة.
يقول الله جل وعلا:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} سورة البقرة: 45..
هذا المثل ذكره الله جل وعلا بعد المثل السابق للرجلين صاحب الجنتين الذي غرته جنته، والمؤمن الذي وعظه وذكَّره، ثم ذكر الله في ذلك المثل ما صار إليه الحال وما انتهى إليه المآل في حال هذين الرجلين.
يقول الله جل وعلا بعد ذلك المثل الذي فيه غرور الإنسان واغتراره بما فتح الله عليه من أمر الدنيا.
يقول :{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، الحياة الدنيا هي مدة بقاء الناس على هذه الأرض، مدة بقاء المكلفين وغيرهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه المدة تسمى بالحياة الدنيا، فهي حياة دنيا قريبة، دنيا نازلة ليس فيها علو ولا ارتفاع ولا بقاء ولا استمرار، بل هي سريعة الزوال ، ووصفت بالدنيا تزهيدا للناس فيها، فهي دنيا من كل وجه، ليس فيها علو ولا ارتفاع، ليس فيها بقاء ولا دوام، بل هي سريعة التقضي سريعة الزوال.
والقرآن الكريم مملوء من التزهيد في الحياة الدنيا وبيان حقارتها ، وانقطاعها وسرعة انقضائها ، كما أنه مليء بالترغيب في الآخرة، وبيان شريف حال أهلها إذا فازوا وعلوا وارتفعوا بالأعمال الصالحة، بيان دوامها واستمرارها وعدم انقطاعها وما فيها من الخيرات ، فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا أقام في قلبه شاهدا يريه ما في الآخرة من النعيم وما في الدنيا من الزوال، وما فيهما من اختلاف الأحوال، وأقام في قلبه الميل إلى الآخرة، فالذي جعل أولئك السابقين يسبقون، وأولئك الصالحين يعملون إنما هو ما قام في قلوبهم وما امتلأت به بصائرهم من النظر إلى الآخرة، فنفذت أبصارهم وبصائرهم إلى الدار الآخرة، فهم إليها ناظرون، وهم إليها طامحون، وهم إليها مشمرون ساعون يرجون الله ويرجون رضاه ، يرجون ما عنده جل في علاه.
إن الله جل وعلا زهَّد في الدنيا ليس لتعطيلها، فإنه قد جعلها جل في علاه محلا للعمل، ومحلاً للسعي ، لكنه زهَّد فيها لئلا يغتر الناس بها ، ولئلا ينصرفوا عن الغرض والغاية إليها.
فقال جل وعلا :{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}، هذا تصوير وتمثيل رباني لحال الدنيا ممن خلقها، لحال الدنيا ممن هو عليم بصير بحالها ومآلها جل في علاه سبحانه وبحمده.
يقول سبحانه {وَاضْرِبْ لَهُمْ}، أي يا محمد {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي صورتها وحقيقتها وما يُقرب إلى الأذهان ما تؤول إليه وما تنتهي إليه هذه الدنيا،{كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}، وهو ماء الأمطار،{ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي بسببه، { نَبَاتُ الْأَرْضِ}، واختلاطه وامتزاجه والتفافه وكثافته وتنوعه كل ذلك بماء نازل من السماء.
هذا الاختلاط ، وذلك الامتزاج وتلك البهجة التي تحصل بهذا التنوع من النبات، وبهذا التلون من صنوفه وأنواعه سرعان ما ينقشع ويزول، {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}، {فَأَصْبَحَ}، أي صار وآل وانتهى إلى أن كان هشيماً، أي يابساً وهو مع يبسه لم يسلم من عواما التفريق والتمزيق،{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}، أي تأتيه من كل مكان، فتنقله وتبعثره وتفرقه، وتظهر اختلاف حاله، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}، هذا المثل كرره الله تعالى في كتابه في مواضع عديدة ليُزهد الناس ويبين لهم حال هذه الدنيا مهما اغتروا بها، ومهما أوتوا من متاعها، فهذا حالها.
يقول الله جل في علاه في سورة الحديد {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} ثم قال:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}أي أعجب الزراع نباته، {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف وييبس،{فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} سورة الحديد :20..
الله أكبر..فمهما فُتح للإنسان فيها من النعيم، ومهما أوتي فيها من القدرات والمكنات والمناصب وسائر ما يتنعم به الناس هي {مَتَاعُ الْغُرُورِ}، أي تغر أصحابها الذين يقبلون عليها ثم تتركهم وليس معهم منها شيء.
والدليل أن هذه الدنيا بزخارفها وبهرجها لا تنفع الناس أن الناس يغادرون منها ويتركون ورائهم كل ما فيها إلا ما كان من أعمالهم الصالحة.
يقول الله جل وعلا {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} سورة الأنعام:94..
{مَا خَوَّلْنَاكُمْ}، أي ما مكناكم فيه من أنواع النعيم، من أنواع المتع يتركه الإنسان وراء ظهره ولا يقدم على ربه إلا بعمله، كما جاء في "الصحيحين" من حديث أنس «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»"صحيح البخاري"(6514)، ومسلم(2960)..
إنه دليل أن هذه الدنيا بما فيها من المتع، بما فيها من ألوان الاغترار وزخارف الحياة كلها تزول ولا يبقى إلا العمل الصالح.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا}، هذه هي حياتنا، هذه حياتي وحياتك على هذا النحو، على هذا التصوير في الاكتمال والقوة، ثم في الضعف والتحول حتى يكون حطاماً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} لكن لمن؟ {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} سورة الزمر:21.، لأولي العقول والبصائر، الذين ينظرون بقلوبهم وأعين بصائرهم إلى حقيقة الدنيا، فلا يغترون بها، فالدنيا حلوة خضرة لكنها لا تغر إلا من اغتر بها وأقبل عليها غافلاً عن حقيقتها، غافلاً عن مصائر الناس فيها فعند ذلك يغتر هؤلاء بها وتكون عاقبة اغترارهم تقصيراً في الأعمال الصالحة، وإسرافاً في ألوان الأعمال الفاسدة التي لا يسرون بها عندما يعرضون على الله جل وعلا ، ويكونون كصاحب الجنة التي غرته جنته حتى قال {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}، ثم بعد أن هلكت { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}.
هذا هو حال كل من غرته الدنيا فأقبل عليها مدبراً عن الآخرة، أقبل عليها مشتغلاً بها عما ينفعه في أخراه فإنه يندم على تفريطه، ولذلك قال الله جل وعلا بعد ذكره لهذا المثل:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} سورة التغابن:15.، ولهذا قال الله تعالى بعد هذا المثل في بيان انقسام أحوال الناس في الدنيا من حيث اغترارهم واشتغالهم بها، قال جل وعلا{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}.
إن هذه الحياة الدنيا تغر أصحابها إذا أقبلوا عليها واشتغلوا بها كما أن النبات يغر الناظر إليه، ويظن دوام بهجته وهو غافل عما يصير إليه من الهشيم والجفاف الذي تزروه الرياح.
ختم الله تعالى هذا المثل بقوله سبحانه وتعالى{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}، أي قوياً قادرا سبحانه وبحمده، فهو على كل شيء قدير، وهو على كل شيء مقتدر، فهو تحت قوته وقهره،{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} سورة يوسف:21..
ومناسبة ختم هذه الآية بهذا الوصف لله جل وعلا هو أن القادر على هذه الأشياء بتنوعها وتحولها فهو قادر على الحسن وضده، قادر على الحياة والموت قادر على كل شيء سبحانه وبحمده هو جل في علاه الذي أخبرنا بهذه الأمثال، وهو قادر على تحويل أحوالنا من إقبال على الدنيا إلى إقبالنا على الآخرة ، من انصراف عن الخير إلى انصراف عن الشر، فنحن نحتاج إلى أن نستحضر كمال الرب جل في علاه ونقبل عليه سائلين صادقين أن يبصرنا بحقيقة هذه الدار.
أعود وأقول إن هذا التزهيد الذي ذكره الله تعالى في كتابه ليس من لازمه تعطيل مصالح الناس، ليس من لازمه تعطيل عمارة الدنيا وإقامة الخلافة في الأرض، بل إن لازمه أن لا يشتغل الإنسان من الدنيا بما يضر آخرته، فعندما تغلب الدنيا على الآخرة عند ذلك يقع الضرر ويقع الخطأ، أما عندما تكون الآخرة هي الهم والدنيا تابعة مسخرة لتحقيق هذا الهم فعند ذلك يكون الإنسان محققاً لما أمر الله جل وعلا في قوله{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} سورة القصص:77..
اللهم إنا نسألك البصيرة في الدين، والعمل بالتنزيل، وأن تجعلنا من أوليائك وحزبك، وأن تجعلنا ممن استثمر هذه الأيام وهذه الدنيا فيما يقربه إليك، وفيما يبعده عن مغاضبك ومساخطك.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.