بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة الثامنة والثلاثون))
الحمد لله نور السموات والأرض ومن فيهن، أحمده حق حمده، له الصفات العلى والكمال المطلق لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من النار.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله على حين فترة من الرسل وانطماس من السُّبل، فبصَّر الله به من العمى، وهدى به من الضلالة، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في حلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
في هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى - سنتناول مثلاً عظيماً ذكره الله جل وعلا في سورة النور.
قال سبحانه وبحمده {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} سورة النور:35..
هذه الآية الكريمة التي افتتحها الله تعالى بالخبر عنه حيث قال:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، سبحانه وبحمده، الله جل في علاه من أسمائه النور، فالنور اسمه وهو صفته جل في علاه، وهو فعله سبحانه وبحمده، فقال جل وعلا{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فهو نور هذه السموات، وهذه الأرض، هو منوِّر السماوات والأرض كما قال جماعة من أهل التفسير "النكت والعيون"(4/102)، و"زاد المسير"(4/446)..
وهو سبحانه وبحمده هادي أهل السموات والأرض، فالهداية إلى كل خير من شأن الدنيا أو من شأن الآخرة، إنما هي من الله جل في علاه.
وقال جماعة من أهل العلم :" الله مدبر السموات والأرض"، وهذا التفسير قاله مجاهد، في معنى قوله {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وهو لا يعارض ما تقدم من قول أهل العلم في تفسير الآية بأنه هادي السموات والأرض، فإن الهداية من تدبيره سبحانه وبحمده.
وقال بعض أهل العلم {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي الله ضياء السموات والأرض.
كل هذه المعاني ذكرها المفسرون في معنى قوله جل وعلا{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
والمؤمن يوقن بأن الله نور كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله أبو ذر هل رأيت ربك؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ»، والحديث في "صحيح الإمام مسلم""صحيح مسلم"(178)..
كما أن حجابه النور سبحانه وبحمده، ففي حديث أبي موسى الأشعري في "صحيح الإمام مسلم" قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ» أي أنوار وجهه سبحانه وبحمده «مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»"صحيح مسلم "(179)..
وقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثنائه على ربه وتمجيده وتقديسه في صلاة الليل في تهجده أن الله نور السموات والأرض مطابقاً بهذا ما ذكره الله في هذه الآية الكريمة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
ففي "الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769)..
هكذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتتح قيام الليل في الظلمات بذكر نور الله الذي أنار به السموات والأرض، يقول جل في علاه{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، الله نور سبحانه وبحمده، وحجابه النور، كما أنه سبحانه وبحمده منوِّر ما في السموات وما في الأرض، فالنور الذي هو فعل الله جل في علاه، نوعان: نور حسي، ونور معنوي.
أما النور الحسي: فهو هذه الأنوار التي في الكون فهي من نوره جل في علاه، فنوره به استنار العرش، وهذا من خلقه كذا نور الشمس والقمر ونور سائر الكواكب وما ينير في هذه الدنيا إنما هو من نوره الذي هو فعله جل في علاه، الذي خلقه في هذه الأشياء فأضاءت وأنارت، وهذا نورٌ حسي يشترك في إدراكه المؤمن والكافر، يشترك في معرفته البر والفاجر، لأنه يدرك بالأبصار.
أما النوع الثاني من الأنوار التي هي فعله وخلقه جل في علاه هو نور معنوي، وهو ما يكون في شرعه من النور، وما يكون في كتابه من النور، ما يكون في الإيمان به ومعرفته في قلوب أوليائه ورسله وعباده المؤمنين من النور، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات.
وهذا هو المشار إليه فيما جاء في "المسند" والسنن من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ ، اهْتَدَى ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ، ضَلَّ» أخرجه الترمذي (2642)، وأحمد(2/176)..
فهذا النور هو نور هدايته ، وهو نور دلالته، هو نور معرفته والإيمان به جل في علاه، فهو نور معنوي، الناس في ضرورة إليه، وهم في أشد الفاقة إلى إدراكه، سعادتهم بقدر ما معهم من هذه الأنوار.
ولذلك من رحمته جل وعلا بعباده أن أرسل إليهم رسلاً يخرجونهم من الظلمات إلى النور بتعريفهم بالطريق الموصل إلى الله، بتعريفهم بالله عز وجل الذي يعبدون وإليه يعودون وإليه يرجعون، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} سورة البقرة:257..
هذا النور محله القلب، وابتداءه في الفؤاد، ولذلك ذكر الله تعالى مثلاً لهذا النور في قلب العبد، فذكر جل وعلا في هذا المثل العظيم الجليل {مَثَلُ نُورِهِ} أي نور هدايته، أي نور العلم به أي نور معرفته في قلوب أوليائه وعباده،{كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ...}، إلى آخر ما ذكر الله تعالى في المثل.
المقصود الذي نريد أن نصل إليه في هذه الحلقة هو أن النور وصف الله تعالى، النور ذاته جل في علاه، النور حجابه سبحانه وبحمده، كما أن النور فعله جل وعلا.
والنور الذي من فعله نوعان: نور حسي، كنور الشمس والقمر وسائر الكواكب.
ونور معنوي وهو نور الهداية في قلب أوليائه وعباده.
والمثل في هذه السورة وفي هذه الآية إنما هو للنور المعنوي الذي به سعادة الخلق، نور البصائر لا نور الأبصار، فإن الأبصار يؤتاها كل بني آدم {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة النحل:78..
والشأن ليس في الأبصار فحسب فهي نعمة، لكن النعمة العظمى، والمنة الكبرى هي في نعمة الإبصار التي تتعلق بالقلب ومعرفته ونوره وهدايته {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج:46..
إن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ضرب مثلاً لنوره في قلب عبده المؤمن، ضرب مثلاً لهدايته في قلوب أوليائه وهذا ما سنتناوله - إن شاء الله تعالى - بالبيان والتفصيل والشرح والإيضاح في الحلقة القادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم نور هدايته، وأن يفيض علينا من بركاته، وأن يجعلنا من خاصة أوليائه، وأن يرزقنا وإياكم نور الهداية ونور الصلاح والعمل.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.