بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة التاسعة والثلاثون))
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أحمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، رب العالمين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة أخرجنا الله تعالى به من الظلمات إلى النور، هدانا به من العمى، أرشدنا به من الضلالة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
في هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى - نستكمل ما كنا قد تكلمنا عنه في حلقة سبقت وهو ذلك المثل العظيم الذي ذكره رب العالمين في آيات الذكر الحكيم في قول الله جل في علاه {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} سورة النور:35..
هذه الآية المحكمة وهذا المثل العظيم ذكر الله تعالى فيه مثل نوره في قلب عبده المؤمن حيث قال جل في علاه بعد أن أخبر عن نفسه بأنه نور السموات والأرض قال جل في علاه {مَثَلُ نُورِهِ}، أي مثل نور الله جل في علاه في قلب عبده المؤمن، هذا أقرب الأقوال في معنى الآية.
وقد قال جماعة من أهل العلم أن الضمير في قوله {نُورِهِ} يعود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي مثل نور محمد {كَمِشْكَاةٍ}.
وقال آخرون: بل هو نور المؤمن، وهذا يشمل النبي بلا ريب فهو أول المؤمنين، وأكملهم إيماناً، {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور المؤمن { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} انظر " النكت والعيون"(4/102)، و"زاد المسير"(4/446)..
والقول الأول هو الأقرب إلى الظاهر في سياق الآية، فإن الله ذكر نفسه أولاً، وأخبر عن نفسه بأنه نور السموات والأرض فلم يتقدم ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقال إن الضمير عائد إليه، ولا ذكر للمؤمن حتى يقال إن الضمير عائد عليه.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ}، أي مثل نور الله جل في علاه.
وهذا التمثيل هو لتقريب أمر معنوي ذهني بما هو مشاهد ومدرك، وهذا هو المقصود من الأمثال، فالأمثال المقصود منها تقريب المعاني الذهنية بصور محسوسة مشاهدة حتى يتضح المعنى ويتبين المقصود مع حفظ الفارق والمسافة التي تكون بين المحسوسات والمعنويات.
يقول الله جل وعلا {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}، المشكاة هي الكوة التي يوضع فيها المصباح وغالباً ما تكون في الجدر ويقصد بها جمع الضوء وتركيزه.
يقول الله جل وعلا {كَمِشْكَاةٍ}أي كوة{فِيهَا مِصْبَاحٌ}، والمصباح معلوم، وهو ما يحصل به الإصباح والإضاءة والإنارة.
المصباح أنواع ودرجات ومراتب ذكر الله تعالى وصف هذا المصباح في أعلى درجات الصفاء والوضوح حيث قال:{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}، وهو أقوى ما يكون من المصابيح، وأحفظ ما يكون من المصابيح إذا كان في زجاجة، فإذا كانت هذه الزجاجة في أعلى درجات الجودة كالزجاجة التي ضربها الله تعالى مثلاً في هذا القرآن كان ذلك في غاية القوة والإصباح والإنارة والإسفار.
يقول الله جل وعلا {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}، هذه المعاني التي ذكرها الله تعالى، هذه الأوصاف التي جمعتها هذه الآية الكريمة لهذا المصباح تشعر بعظيم إضاءة هذا المصباح فإنه في مكان يجمع الضوء، وهو في زجاجة تحميه وتقيه ، والزجاجة أشد ما تكون صفاء ونقاء ووضوحاً {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}مادة الإيقاد من أجود أنواع الوقود، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ}، وليست أي زيتونة إنما هي شجرة مباركة ولها من المواصفات ما يجعل نتاجها وزيتها من أغلى ما يكون من أنواع الزيوت حيث يقول الله جل وعلا {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}، ففيه من قوة الإضاءة والإنارة ما يبدو على منظره ومرآه ولو لم تمسسه نار، فكيف إذا اجتمع مع هذا الوقود المنير نور من النار الذي يوقد به المصباح، فإنه ستكون أنوار على أنوار ولذلك قال الله جل وعلا {نُورٌ عَلَى نُورٍ}، نور النار مع نور الزيت الذي ذكره الله تعالى وذكر صفاته في هذا المكان وهو الكوة المشكاة التي في هذه الزجاجة التي أشبه ما تكون في صفائها ونقائها إضاءة وبهاء كالكوكب الدري.
فإذا تأملت وجدت أن هذا المثل يجمع أكبر المواصفات المطلوبة من الإضاءة في المصابيح مع أمن الضرر، وقلة العناء والمشقة الناتجة من الإصباح لأن المصابيح يصدر منها دخان وما أشبه ذلك مما يعكرها ويضايق من ينتفع بها.
لكن هذا المصباح جمع من مواصفات الإنارة والإضاءة وقوة الإسفار والنور مع أمن كل ما يمكن أن يكون من المضار .
هذا هو وصف نور الله جل وعلا في قلب المؤمن .
إن نور الله تعالى هو ما يقذفه في قلوب أوليائه من الهداية من أنوار الرسالة من أنوار الإيمان به من أنوار العمل الصالح، إضافة إلى نور جعله الله تعالى مركوزاً من فطر بني آدم وهو نور الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، فالناس في قلوبهم من الإيمان به والانجذاب إليه جل وعلا ما هو مركوز في فطر بني آدم جميعاً .
القلب مضطر إلى محبوبه الأعلى *** فلا يغنيه عنه حب ثانِ "متن القصيدة النونية" ص(358)..
فمهما كان الإنسان في البعد عن الملك الديان لابد أن يجد ضرورة في قلبه أن يتوجه بالعبادة إلى الله جل وعلا، ومن يضل يوجهها إلى غيره من سائر المعبودات التي تعبد من دون حق ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» "صحيح البخاري"(1385)، ومسلم (2658)..
هكذا هي الفطرة إذا حفظت كانت محلاً، كذلك المصباح في نقائه وفي زجاجته، وفي وقوده فإذا جاء نور الإيمان فوافق تلك الفطرة الصافية، تلك الفطرة النقية، تلك الفطرة السليمة، تلك الفطرة الباقية على خلق الله {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} سورة الروم:30.، أنار نور الإيمان في قلب العبد فأشرق قلبه بهداية الله جل وعلا وانعكس ذلك على كلامه، وعلى عمله، وعلى سائر شأنه، فجميع ما يصدر منه نور، فقوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور، فهو في نور من كل وجه {نُورٌ عَلَى نُورٍ}، هذا النور بنوعيه نور الفطرة ونور الهداية هو من توفيق الله تعالى لعباده فقد جعل في فطرهم ما يجعلهم منقادين إلى الله تعالى مهيئين لعبادته كما في "الصحيح" من حديث عياض بن حمار :«خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ»"صحيح مسلم" (2865).، أي مستقيمين على التوحيد في فطرهم وفي ما ركز في جبلاتهم وقلوبهم.
ثم بعد هذه المنة تأتي منة كبرى وهي أنوار الرسالات التي إذا انضافت إلى هذا النور كانت كما قال الله تعالى {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، وهذه المشيئة ليست مجردة عن الحكمة، بل كل مشيئة في كتاب الله فهي مقرونة بكمال العلم وتمام الحكمة، يقول الله تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} سورة الأنعام: 124..
ويقول سبحانه وتعالى {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} سورة النجم:30..
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، تنبيه إلى شريف هذا المثل وأنه صادر عن كمال علم من الذي تكلم به ، ومن الذي ضربه، ومن الذي ذكره لتحيى القلوب وتستنير وتهتدي وتعرف عظيم ما جاءت به الرسل من الأنوار والهدايات.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن أن تنير قلوبنا بالإيمان، وأن تعمرها بطاعتك ومحبتك وتعظيمك يا ذا الجلال والإكرام .
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.