بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة الأربعون))
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، أحمده جل في علاه له الحمد كله أوله وآخره ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك ، أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، أنار الله به القلوب، هدى به البصائر، أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
في هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى - نستكمل هدايات ما تقدم من المثل العظيم الذي ذكره الله جل وعلا في سورة النور، حيث قال جل في علاه {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} سورة النور:35..
الله جل في علاه خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره والناس في هدايتهم وفي سعادتهم، وفي انشراحهم على قدر ما معهم من هذا النور، فكل من كان نصيبه من هذا النور أكبر كانت هدايته وكان انشراحه وكانت سعادته أكبر وأكثر، وقد جاء في المسند في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ ، اهْتَدَى ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ، ضَلَّ...» "مسند أحمد"(2/176)..
إن العبد مفتقر إلى أنوار الهداية فقرا شديدا لا غنى به عنه، فقرا شديداً مهما حصَّل من أنواع السعادات والانشراحات، والملذات والمطلوبات الدنيوية ، لا يجد سكناً ولا طمأنينة إلا بهذا النور الذي تنشرح به الصدور وتبتسم، به تطيب وتبتهج، به تلتذ وتتنعم، إنه نور الله الذي يلقيه في قلوب أوليائه وعباده فيهتدون به، وتنشرح صدورهم فيجدون من ألوان السعادات شيئاً كبيراً كثيراً.
إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان شديد العناية بهذا النور في سؤاله ودعائه وطلبه وتوسله بربه جل في علاه، ولهذا لما سأل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه النور لم يقتصر على نور خاص محدد في موضع من بدنه بل سأل النور في كل أجزائه وفي كل ذرة من ذراته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، جاء في "الصحيح " من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في دعائه :«اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِى سَمْعِي نُورًا وَفِى بَصَرِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ شِمَالِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَاجْعَلْ لي نُورًا أَوْ قَالَ وَاجْعَلْنِي نُورًا»"صحيح مسلم"(763)..
وفي بعض روايات هذا الحديث ذكر عصبه ولحمه ودمه، وشعره وبشره، فقال:«اللهم اجعل في عصبي نورا، وفي دمي نورا ، وفي شعري نورا، وفي بشري نورا»"صحيح البخاري"(6316)،ومسلم (763)..
هكذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل الله النور في كل أجزاءه وفي كل ذراته الظاهرة والباطنة وأن يجعله محاطاً بأنواره من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته وأن يعظم له نورا كل هذا لشدة الفاقة والحاجة إلى هذا النور، لذلك من أخطأه هذا النور ضل، ومن فاز به سعد واطمأن وانشرح صدره وتمت سعادته.
إن حاجة الناس إلى الأنوار اقتضت أن تتنوع هذه الأنوار وأن لا تكون من طريق واحد هي في الجملة مأخوذة من هذا الدين العظيم لكن هذا الدين العظيم فيه من الأنوار والقبسات والهدايات ما يحتاجه الناس، والناس ينشطون في نوع من العمل ويقصرون في نوع آخر وكلٌّ ميسر لما خلق له.
لكن أصل هذا النور هو الإسلام الذي جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول الله جل وعلا في محكم كتابه {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} سورة الزمر: 22..
ويقول سبحانه وتعالى :{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} سورة الأنعام:122..
فأصل هذه الأنوار هو الدين الذي جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،ولما كان هذا الدين مأخوذاً من الكتاب الحكيم كان القرآن أعظم الأنوار.
يقول الله جل وعلا {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} سورة التغابن:8..
إن النور الذي أنزله هو كتابه الحكيم، هو هذا القرآن العظيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} سورة النساء:174..
وقد فقه الصحابة رضي الله عنهم أن نور الإسلام ينبثق من القرآن فهذا عمر رضي الله عنه كما في "صحيح البخاري"من حديث أنس يقول للصحابة بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول رضي الله عنه : "فإن يكن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ""صحيح البخاري"(7219)..
يريد بذلك القرآن، إن القرآن أصل الهدايات وأصل الأنوار التي جاءت بها هذه الشريعة المباركة.
يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الصلاة نور»"صحيح مسلم"(223)..
وهذا من أمثلة الأنوار التي جاءت بها الشريعة التي هي صلة العبد بربه، نور يستضيء به القلب، نور يستضيء به البدن، نور يستضيء به الإنسان في دنياه، كما أنها نور يستضيء به في قبره وفي مآله ومنتهاه .
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث نفسه حديث أبي مالك الأشعري في "صحيح مسلم" قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والصبر ضياء»، وهذا يدل على أن الصبر وهو خير ما يعطاه الإنسان ضياء وهو نور وزيادة، ذلك أن الضياء نور فيه حرارة، فالصبر الذي يهدى إليه الإنسان سواء كان ذلك صبرا في طاعة الله تعالى، أو صبرا عن معصية الله جل وعلا، أو صبرا على أقضية الله وأقداره، كل ذلك من النور الذي يضيء للإنسان الطريق ويهديه السبيل وقد جاء في قول الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} سورة الأنفال:29..
وهذا الفرقان هو النور الذي يستضيء به المؤمنون فيبصرون به الحق فيميزون به بين الهدى والضلال، وبين الغي والرشاد، وقد قال الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة الحديد:28..
فهذه الأنوار التي جاء بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متعددة في صورها وألوانها لكنها متفقة في نتيجتها وهي أنها تُكسب العبد هذا النور الذي سعادته في الدنيا وانشراح صدره فيها وفوزه في الآخرة ونجاته فيها مبني على ما يكون معه من هذه الأنوار؛ فإن الله تعالى يؤتي عباده يوم القيامة من النور بقدر ما معهم وأخذهم من أنوار هذه الشريعة المباركة واقتباسهم بما فيها من الهدى والحق والصراط المستقيم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلك بنا سبيله القويم، وأن يمن علينا بإنارة افئدتنا وقلوبنا وأعمالنا، وأن يجعل في قلوبنا نورا وفي أسماعنا نورا وفي أبصارنا نورا، وفي سائر أجزائنا نورا وأن يجعلنا ممن أحيط بالنور من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته.
اللهم إنا نسألك أن تعظم لنا نوراً ، وأن لا تحرمنا هذه النعمة وهذه البصيرة بسوء أعمالنا ، عاملنا بما أنت أهله ، أنت أهل الجود والإحسان، أنت أهل التقوى والمغفرة.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.