بسم الله الرحمن الرحيم
((الحلقة الحادية والأربعون))
الحمد لله رب العالمين، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، أحمده جل في علاه لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، له المثل الأعلى، له الأسماء الحسنى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، رب العالمين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
يقول الله جل وعلا في محكم كتابه في "سورة النور"{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} سورة النور:39..
هذه الآية الكريمة ذكر الله تعالى فيها مثلاً لأعمال الكفار، والكفار هم كل من لم يؤمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو ما جاء به من الهدى والنور، فإن من لم يؤمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الهدى والنور فإنه كافر بالله العظيم، والله تعالى قد قسم الناس إلى فريقين.
قسمهم في الدنيا إلى فريقين، كما أنه قسمهم في الآخرة إلى فريقين بناء على قسمتهم في الدنيا.
ففي الدنيا يقول الله جل وعلا {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} سورة التغابن:2..
وفي الآخرة يقول الله جل وعلا {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} سورة الشورى:7..
أهل الجنة هم أهل الإيمان والإحسان، وأهل الكفر هم أهل السعير نعوذ بالله من الخذلان.
إن الله جل وعلا في هذه الآية ضرب مثلاً لأعمال الكفار، والملاحظ أن الله تعالى ذكر لأهل الكفار مثلين لبيان حال أعمالهم وما هم عليه، وأما في الإيمان فقد ذكر الله تعالى مثلاً واحداً، فقال:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ...} سورة النور :35.، إلى آخر ما ذكر الله جل وعلا في ذلك المثل العظيم.
وأما هنا فقد ذكر الله تعالى مثلين لأعمال الكفار، فقال جل في علاه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
ثم قال جل في علاه {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} سورة النور:40..
والفرق بين هذين المثلين كما ذكر ذلك جماعة من أهل العلم أن المثل الأول هو لأعمال الكفار الذين تغلَّظ جهلهم وعظم عدم علمهم فهم من أصحاب الجهل المركب الذين جهلوا ولم يعلموا أنهم على جهل، بل ظنوا أنهم على علم، وظنوا أنهم على دراية، وظنوا أنهم على معرفة ، كأصحاب العقائد المنحرفة والأقوال الباطلة التي يقدمونها إلى الناس على أنها حق وهدى وهي ليست كذلك، فليس فيها من العلم والهداية شيء بل هي عمل لا هداية.
وأما القسم الثاني: فهم الكفار الذين كان كفرهم ناشيء عن جهل بسيط، حيث أنهم لا دراية لهم ولا علم عندهم ولا معرفة وهم مع هذا لا يزعمون علما ويدعون معرفة وحذقاً بل هم مقرون بجهلهم فهذه حال أخرى ولذلك مثَّل الله تعالى للكفار بهذين المثلين لاختلافهم في الصورة والمعنى.
الجهل البسيط هو عدم العلم، والجهل المركب هو عدم العلم والجهل بذلك، أي أنه يجهل أنه لا يعلم.
وقد قيل في شعر بعض العراقيين يهجو طبيباً متطبباً لا يعرف علماً ولا يعرف في هذه الصنعة شيئاً قال :
حمار الطبيب توما *** لو أنصفوني لكنت أركب .
لأني جاهل بسيط *** وراكبي جاهل مركب.
الجهل المركب خطره أكبر، وضرره أعظم لأن صاحبه لا يدرك عدم علمه.
الله تعالى يقول في هذه الآية الكريمة لبيان هذا المثل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، أعمالهم يشمل كل ما يشتغل به هؤلاء الكفار، سواء كان ذلك من أعمال الباطن أعمال القلوب ، أو كان ذلك من أعمال الظاهر وهي أعمال الجوارح.
فأعمالهم بجميع ما فيها من ظواهر وبواطن {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، السراب هو ما يراه الناظر في منتصف النهار عندما تعلو الشمس وترتفع في نظره وفي بصره يرى شيئاً يتلألأ بين يديه يخيل إليه أنه ماء، وحقيقته أن سراب ليس فيه ماء ولا فيه نفع ولا مطلب لذي طلب ورغبة بل هو سراب يتبدد وينقشع كلما اقترب منه الإنسان.
هذا السراب لم يكن في أرض ذات نبات وماء، بل كان سرابا في أرض فارغة أرض منبسطة متسعة ليس فيها بناء ولا شجر ولا حجر ولا مدر، ولذلك قال{بِقِيعَةٍ}، والقاع ما انبسط من الأرض واتسع.
ثم طالب هذا السراب الذي يظنه ماء ظمآن وهو شديد العطش الذي بلغ به العطش مبلغاً أحوجه إلى أن يركض وراء هذا السراب الذي يخيل إليه أنه ماء.
{يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}، وهو أعز مطلوب في هذه الحال، ليس أعز من الماء في مثل هذه الحال لطالب.
فاجتمعت فيه شدة الحاجة مع شدة الفاقة والضرورة إلى هذا الماء في حال الإنسان الطالب وفي مكانه، فإنه في مكان قفر خالي من النبات، خالي مما يكنه أو يقيه حر الشمس، فاجتمع عليه حر الشمس مع حر جوفه وعطشه وشدة رغبته في الماء.
{حَتَّى إِذَا جَاءَهُ}، وحقيقة الأمر أنه لا يصل إلى شيء إنما يركض، ولكن كلما اقترب من مطلوبه الذي يخيل إليه أنه ماء {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، لم يجد شيئاً بالكلية ، و{شَيْئًا}، هنا نكرة في سياق النفي تعم كل شيء، لم يجد أي شيء ينتفع به ، غاية ما هنالك أوهام وخيالات، ظنون وتخيلات لا حقيقة لها، وليت الأمر انتهى على هذا بل كان الأمر على أسوأ من ذلك حيث وجد جزاء عمله، قال:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ}، هنا انتقل التمثيل من كونه تصويرا لطالب الماء الذي بلغ به العطش هذا المبلغ إلى المقصود وهو الكافر الذي يكد ويتعب، يعمل ويجهد في باطل وضلال ثم لا يدرك من ذلك شيئاً، بل يدرك وبالا وعقوبة {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}، وفاه أي قبَّضه ، فالتوفية هي التقبيض، يعطيه جل وعلا حسابه، وحسابه هو جزاءه لأنه لا عمل له يفرح به يوم القيامة إذ إن الكفار تتبدد أعمالهم وتضمحل كما قال جل وعلا {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} سورة الفرقان:23..
وكما قال في الآية الأخرى {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} سورة محمد:1..
وكما قال جل في علاه في آية أخرى ضرب فيها المثل لأعمال الكفار{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} سورة إبراهيم:18..
هذه حاله فيما يتصور أنه علم صحيح، فيما يتصور أنه عمل نافع صالح كل ذلك يتبدد {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
أي أنه يجازي عباده ويطلعهم على أعمالهم ويفرغ من حسابهم في وقت وجيز على كثرة العباد كما قال ابن عباس رضي الله عنه لما سأله رجل: كيف يحاسبهم وهو واحد وهم كُثر، قال:" يحاسبهم وهو واحد وهم كثر - أي الخلق يوم القيامة - كما يرزقهم جل في علاه في ساعة واحدة وهو واحد وهم كثر"، سبحانه وبحمده.
لا إله إلا الله العظيم الحميد، لا إله إلا هو رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.