بسم الله الرحمن الرحيم
((الحلقة الرابعة والأربعون))
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذا اللقاء الجديد من برنامجكم "أمثال قرآنية".
في هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى- نستكمل المثل الذي ذكره الله تعالى في سورة العنكبوت حيث قال جل في علاه {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} سورة العنكبوت:41..
هذا مثل بيَّن الله تعالى فيه خسار المشركين، وأن سعيهم وكدهم وعملهم وعبادتهم خسار عليهم لا يدركون بها المطالب، ولا يأمنون بها المخاوف، فهي كبيت العنكبوت التي جهدت في نسج بيتها لكن محصلة سعيها ومنتهى عملها أن أدركت بيتاً لا يقيها حراً ولا برداً، ولا يقيها خطراً ولا مخوفاً، فهو أوهى البيوت وأضعفها، وهو أذلها وأحقرها، اتخذت من ذلك النسيج وقاية فكان كما لو لم تعمل شيئاً، بل هو خسار وبوار ، وهذا هو حال المشركين، حيث عمدوا إلى هذه الأصنام وإلى تلك الآلهة من دون الله من الملائكة والصالحين والمعبودين من دون الله تعالى فصرفوا لهم العبادات ليدركوا بذلك أمناً، ويحصلوا بذلك نفعاً في دنياهم أو نجاةً في أخراهم، فلم يدركوا من ذلك السعي إلا خبالاً.
{إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فليس في عبادة غير الله تعالى عز لأهلها، ولا نصر ولا أمن ،بل الأمن كله في إفراد الله تعالى بالعبادة { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} سورة الأنعام:82..
هذه الآية الكريمة، هذا المثل الذي ذكره الله تعالى في سورة العنكبوت يبين خطأ من اتخذ من دون الله ولياً، فالله هو الولي جل في علاه كما قال سبحانه وتعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} سورة الشورى:9..
هو المعتمد، هو المعبود ، هو المحبوب جل في علاه، هو الذي يُرقب منه النصر والتأييد والعون، وهو يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وكل من اتخذ من دون الله ولياً، كل من صرف الولاية لغيره فطلب العون منه، والنصر والمدد والتأييد والفرج من دون الله تعالى فإنما اتخذ الشيطان ولياً كما قال جل وعلا {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} سورة النساء:119..
ولذلك من الرشد والعقل أن يدرك المؤمن أنه ليس له من دون الله ولياً، وقد كرر الله تعالى هذا في كتابه في مواضع عديدة، فمن ذلك قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} سورة الأنعام:51..
وقال جل وعلا:{مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} سورة الجاثية:10.
فإذا والى العبد ربه وأفرده بالولاية أيده وأعانه ونصره، وساق قلوب العباد إليه، وحقق له ما يأمِّله من انشراح الدنيا وسعادة الآخرة.
أما إذا والى غيره، فصرف العبادة لغيره ساق من العذاب في الدنيا، والنكال في الآخرة ما يتبين به سوء الحال والمآل في أفعال أهل الشرك والكفر.
لذلك ينبغي للمؤمن أن يصرف وقتاً في تأمل هذا المثل الذي جعل الله تعالى عقله وفهمه من سمات أهل العلم حيث قال جل وعلا {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} سورة العنكبوت:43..
فإن الله تعالى ضرب هذا المثل ليستبين المؤمن طريق الرشد وينأى بنفسه عن كل طريق هلاك وضلال.
فهذه الأمثال تقرِّب المعاني وتوضحها وتبين الحق وتجليه، فبها تدرك العلوم، وهي أعلى المطالب، ولذلك جعلها الله تعالى علامة على العلم{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
فحقيق أن توفر لفهم الأمثال الهمم، وأن يبذل الوسع في معرفة المقصود منها وأن تجمع عليها القلوب، ذلك أنها تدل على الله تعالى وتعرف به وتهدي إلى الطريق المستقيم، وتحذر من الشرك والكفر والعصيان، فهذه الأمثال فيها خير عظيم لمن عقلها، وقد ضربها الله تعالى للناس كافة، وجعل ذلك بياناً وإيضاحاً وهداية وذكرى {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} سورة الزمر:27..
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} سورة الروم:59..
فالذين يعمون عن هذه الأمثال ولا يدركون معناها ولا يتأملون ما فيها من عظات وعبر لا يعلمون ، وهم المطبوع على قلوبهم، وهم أهل الكفر والضلال، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} سورة الإسراء:89..
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} الكهف:54..
إن الله تعالى بعد أن ذكر هذا المثل العظيم الذي يتصل بمقصود الوجود، والمقصود من هذه الحياة الدنيا وهو تحقيق العبودية له جل وعلا، قال سبحانه وبحمده {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
وهذا المثل بيان لخطورة الشرك، وقد حذَّر الله تعالى من الشرك بطرق عديدة، وأساليب كثيرة منها ضرب الأمثال، وهذا أحد الأمثال التي ذكرها الله تعالى لبطلان الشرك وبيان عظيم الخسار للمشركين، لكنه ليس المثل الوحيد، ولكن أمثال كثيرة في كتاب الله جل وعلا كلها تدل على خطورة الشرك وضلال سعي من سعى في عبادة غير الله تعالى، لذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} سورة الرعد:14..
فلذلك ينبغي للمؤمن أن يتدبر هذه الأمثال، وأن يتعظ بها فإنها تقرر الحق العظيم والشهادة الكبرى لله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
هذا بعض ما تضمنه المثل، وينبغي أن يَعلم المؤمن أن عدم عقله وفهمه للأمثال هو من دلائل الخسران، لذلك كان من السلف من إذا مرَّ به المثل ولم يعي ما فيه ولم يدرك معناه بكى، إذا قيل له في ذلك، قال :"إن الله تعالى قال في كتابه {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
فينبغي أن تتدبر هذه الأمثال وأن تفهم لاسيما هذه الأمثال المتصلة بالتوحيد والشرك فإنها تقرر الحق بأوضح بيان، فالشرك بناء متهاوي، الشرك بناء واهٍ، الشرك بناء ضعيف لا يقر ولا يقوم على شيء، بل سرعان ما يتبين ضلال المشركين في شركهم حيث سووا غير الله بالله، وتعالى الله جل في علاه أن يكون له نظير أو مثيل أو كفو أو سمي {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة الشعراء:97- 98..
اللهم طهر قلوبنا من الشرك، واعمرها بمحبتك وتعظيمك، وارزقنا خالص عبادتك، واجعلنا من عبادك المخلصين وأوليائك الصالحين، وعبادك المتقين، وانظمنا في سلك زمرة خير المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واحشرنا معه ، واجعلنا ممن يرد حوضه، وممن يكون معه في الفردوس يا ذا الجلال والإكرام.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية" أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.