بسم الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة السابعة والأربعون))
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه ،أنزل الله عليه الكتاب المبين، وجعله بلاغاً للعالمين، أنار الله به السُبل، وبصَّر به من العمى، هدى به من الضلالة، فبلَّغ صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وقام بما أمره الله تعالى به حق القيام، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
وفي هذه الحلقة نستكمل ذاك المثل الذي ضربه الله تعالى في سورة "يس"، حيث قال آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم بضرب المثل، فقال:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}، وهذا المثل مثَّل فيه الله عز وجل حال المرسلين مع أقوامهم، حال المرسلين في النصح والبلاغ والصبر والتحمل، وحال المعاندين لهم من أقوامهم في كذبهم وعنادهم.
ضرب ذلك مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يتعظوا ويعتبروا وينزجروا عما هم عليه من استكبار وغي.
قال الله جل وعلا في هذه القصة – قصة هذه القرية في هذا المثل المضروب – {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}، أي رسولين، {فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}،أي فأيدناهما وشددنا هذين الرسولين، وقويناهما برسول ثالث تقوم به الحجة على هؤلاء.
وإنما عَدَّد الرسل لهؤلاء لقطع حجة هؤلاء، وإذهاب ما يمكن أن يكون في قلوبهم من شكوك تجاه هؤلاء الرسل الذين يبلغون عن الله عز وجل، {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}، مرسلون من الله عز وجل بالبلاغ، وبهداية الخلق، ودعوتكم إلى معرفة الله عز وجل، وبيان الطريق الموصل إليه.
{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ}، هذه الآية اختصرت ما كان من قول هؤلاء، اختصرت جوابهم، وبينت على وجازتها ما استدلوا به من الأدلة والحجج، ما استدلوا به من البراهين، ما استدلوا به من الشبهات التي جعلوها حججا في رد دعوة المرسلين، حيث قالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، وهذا هو الاعتراض الأول.
وأما الاعتراض الثاني الذي اعترضوا به على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، أنهم قالوا:{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ}، وهاتان الشبهتان اللتان استدل بهما هؤلاء على تكذيب رسلهم مع قيام دواعي صدقهم، وظهور حججهم وبراهينهم، فإن الله ما بعث من رسول إلا أيَّده بآيات، وسواطع وبراهين، يؤمن على مثلها البشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ» أخرجه البخاري(4981)، ومسلم(152)..
فهؤلاء أعرضوا عن تلك الآيات والبينات، واستدلوا على إبطال دعوة هؤلاء بكونهم بشراً، فاعترضوا على رسالتهم بالبشرية.
وهذا دأب المكذبين للرسل في كثير من قصص القرآن، أنهم يكذبون رسل الله عز وجل، ويستدلون على صحة هذا التكذيب بأنهم بشر، كما قال جل وعلا فيما قصه عن أمم تقدمت، {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، هكذا في هذه السورة، وفي غيرها من السور انظر: سورة إبراهيم:10، وسورة الشعراء:154، 186.، قال جل وعلا في بيان استدلالهم بالبشرية على إبطال الرسالة ،قالوا{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} سورة إبراهيم:10.، هكذا ذكر الله عز وجل في سورة إبراهيم.
وفي سورة المؤمنون قال:{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} سورة المؤمنون:34..
وقال الله جل وعلا في بيان وتجلية عموم هذه الشبهة على كثير ممن دعاهم الرسل، قال الله تعالى في سورة الإسراء:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} سورة الإسراء:94.. فجعلوا بشرية الرسول سببا لرد رسالته.
قال جل وعلا:{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} سورة التغابن:6..
وقالوا أيضاً:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} سورة إبراهيم:10..
هكذا يتواطئ هؤلاء على رد دعوة الرسل، وعدم الإيمان بها لكون المرسلين من جنس بني آدم.
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} سورة يونس:2..
وقد قال الله جل وعلا في محكم كتابه في بيان حجتهم الثانية التي استندوا إليها في إبطال دعوة الرسل وما أخبر به النبيون، قالوا:{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ}.
فاعترضوا على أن يكون الله عز وجل قد أنزل عليهم كتاباً يهديهم سبل السلام، ويبين لهم الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
فنفوا أن يكون الله عز وجل قد أنزل كتابا يتلى أو يُهتدى به، وهذا من عظيم جهلهم بالله عز وجل.
فالله عز وجل أنزل الكتب رحمة بعباده، وأنزل الكتب للدلالة على ما يسعد به الناس، ويخرجون به من الشقاء إلى السعادة.
وإن هذه الشبهة قد أبطلها الله عز وجل على المشركين، حينما قال لهم في محكم كتابه {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} سورة الأنعام:91..
فالله عز وجل رد على اليهود فيما زعموه من عدم إنزال الكتب، وأن الله عز وجل لم ينزل قرآناً، ولم ينزل هداية للناس، رد عليهم بهذه الحجة ، وهي أن الله تعالى قد أنزل كتباً على من تقدم من الرسل.
وإمعاناً في تكذيب الرسل، ورد ما جاءوا به من الحق، يقول جل وعلا فيما قصه عن خبر أولئك{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}، ما أنتم إلا كاذبون، فإن هنا نافية بمعنى "ما"، يعني ما أنتم إلا تكذبون في دعواكم أنكم مرسلون، وأنكم من رسل الله عز وجل.
ثم لما قال هؤلاء لقومهم هذا المقال الشنيع بعد تضافر الأدلة، وتعدد البينات الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به، قال جل وعلا في رد الرسل على هؤلاء، {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}.
هكذا يجيب الرسل على الشبه، هكذا يبين الرسل بطلان تلك الدعوة التي ادعاها هؤلاء في أنهم ليسوا برسل، وأنهم لم يأتوا من الله عز وجل بكتاب، لأن الله لا ينزل على أحد شيئاً من الكتب أو الهداية.
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، ففوضوا الأمر لله عز وجل، وردوا الأمر إليه، وإلى علمه جل في علاه، فعلمه المحيط بكل شيء يأبى أن يترك من يدعي كذباً، أو زورا،أو بهتانا، أو ضلالاً، أو افتراء عليه دون أن يأخذه بالعقوبة، أو يعاجله بالمؤاخذة.
ولذلك قالوا لقومهم{رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، فأثبتوا علم الله عز وجل وأنهم مرسلون بعلمه.
وإذا كان كذلك فإنه لا يمكن أن يكذبوا على الله عز وجل في قليل أو كثير، ولا يمكن أن يفتروا عليه شيئاً هو يمدهم ويعينهم ويؤيدهم وينصرهم، بل لا يكون ذلك إلا عن تصديق من الله عز وجل لهؤلاء الرسل الكرام.
ولذلك قال الله عز وجل ملقنا رسوله الحجة في صدق رسالته صلى الله عليه وسلم أن يقول:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} سورة الرعد:43..
فشهادة الله عز وجل واطلاعه وعلمه لما يكون من الوقائع والحوادث يأبى أن يملي للكاذبين والضالين فيمكنهم جل في علاه وهم يكذبون عليه، فهو الشهيد جل في علاه على كل شيء.
ولذلك ذكر الله عز وجل بعد احتجاج المشركين بالبشرية على إبطال الرسالة، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} سورة الإسراء..
ولما طلبوا الآيات من النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، ثم قال:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ سورة العنكبوت:52..
وكذلك في موضع ثالث يقول الله تعالى:﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ سورة الأحقاف:8..
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، والعمل بالتنزيل، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.