الله الرحمن الرحيم.
((الحلقة التاسعة والأربعون))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم "أمثال قرآنية".
وما زال الحديث متصلاً في المثل المضروب لأصحاب القرية الذي أمر الله تعالى رسوله أن يضربه لقومه، حيث قال تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}، هؤلاء القوم عاندوا رسلهم وكذبوهم وأساءوا إليهم، بل وتهددوهم بالرجم والعذاب الأليم كما قال جل وعلا فيما أخبر به في هذه القصة عن أولئك المجرمين، {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}، قالوا لرسلهم {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}، أي تشائمنا بمجيئكم، وبكلامكم، وبدعوتكم، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا}، وتنزجروا عن هذه الدعوة، {لَنَرْجُمَنَّكُمْ}، أي لنقتلنكم، أو لنسبنكم، أو لنرمينكم بالحجارة، وهذا الأصل في مادة الرجم، أنها رمي بالحجارة.
{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي سينزل بكم، ويصيبكم منا عذاب في غاية الألم، وفي غاية الوجع، وفي غاية الشر الذي تنفرون منه، ويكف شركم عنا.
فماذا كان من الرسل؟ أجابوهم بنظير ما قالوا، وتوضيح حقيقة الأمر، فهم زعموا أن الرسل شؤم عليهم، وأن دعوة الرسل سبب لفسادهم، وتعثر أحوالهم.
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ }، قالت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لهؤلاء المكذبين: شؤمكم الحقيقي معكم، فليس هناك شؤم خارج عنكم، بل هو معكم ومن أنفسكم، ومن قِبَل أعمالكم.
ثم بعد أن قرر النص القرآني أن الشؤم في حقيقته من قِبل هؤلاء كما قال جل وعلا في قوم موسى، {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} سورة الأعراف:131.، أي عملهم وما يكتب عليهم من الشؤم فهو من الله جل وعلا، فهو الذي عنه يكون كل شيء بقضاء وقدر، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} سورة القمر:49..
هؤلاء رد عليهم الرسل، فقالوا لهم {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}.
بعد ذلك عادوا لإبطال التشاؤم بهم، لما يتشائمون، وما سبب هذا التشاؤم من رسل الله الذين جاءوا يدعون إلى الخير، ويأمرون بالبر، ينهون عن المنكر، يدلون على الله عز وجل، يعرفون بالطريق الموصل إليه، كيف تتشائمون منهم، فقال جل وعلا {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ}، أي تتشائمون بالرسل لكونهم ذكروكم، أو لأجل أنهم ذكروكم.
هذا استعظام من هذا المقال، وأن تذكير الرسل ليس سببا للشؤم، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} سورة الأعراف:96..
طاعة الله ورسوله، وطاعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم سبب كل خير، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
إن الله عز وجل ذكر في هذه الآية إبطال التطير بالرسل وبمن يدعو إلى الله، ثم بين حقيقة الأمر وكشفت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مناط الفساد الذي أوقع هؤلاء فيما أوقعهم فيه من التكذيب والجفاء والصلف وسوء المقال مع رسل الله،{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.
هذه هي الحقيقة، وهذا هو السبب، وهذا هو العمل الذي أنتج كل تكذيب وعناد، واستكبار وتسلط وصد عن سبيل الله أنهم قوم يسرفون.
والسرف هو التجاوز للحد، والخروج عن الصراط المستقيم، وكل من خرج عن الحد في عمله أو قوله فإنه مسرف.
ولذلك قال جل وعلا {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.
فإذا وقع الإنسان في السرف كان ذلك مدعاة لألوان وأنواع من الخروج عن الصراط المستقيم والهدي القويم.
بعد أن ذكر الله دعوة هؤلاء الرسل الكرام، وما أجاب قومهم، وما اعترضوا به، وما كذبوهم به، وبماذا أجاب الرسل، بعد هذا الحوار، وهذه المراجعة، بين الرسل وأقوامهم، انتقل المثل إلى ذكر خبر يتصل بهؤلاء، وبما جرى لأصحاب هذه القرية، فإن هؤلاء لما بلغ بهم الحنق ما بلغ، وبلغوا بهم التكفير ما بلغ، وأرادوا قتل رسلهم، من رحمة الله عز وجل أن كان من أهل هذه القرية من آمن بأولئك الرسل، فجاء هذا المؤمن يحذر قومه أن يكذبوا الرسل، أو أن يوقعوا بهم شيئاً من التهديد الذي هددوا به من الرجم، أو المس والعذاب الأليم.
يقول جل وعلا:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}، وهذا يدل على أنه جاء لأمر جلل، حيث جاء بهذه الصفة التي تدل على شدة الحرص، وعظيم اللهث، وعظيم الخوف، وشديد الرغبة في إغاثة من جاء إليهم، حيث جاء من أقصى المدينة، أي من أبعد ما يكون من جهاتها وأماكنها.
ولم يأت على صفة متأنية، بل جاء يسعى، والسعي هو السير الجاد، السير السريع الذي يخشى معه فوات المطلوب.
وهذا الجائي رجل، ولم يذكر الله عز وجل اسمه، ولم يتجاوز في وصفه بأنه رجل.
هذا يشعر بأنه قد كملت فيه صفات الحسن، وصفات الرجولة من النصرة والحمية للحق، والقيام بالواجب، حيث قال لقومه في هذا المجيء{قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، ناصحاً لهم، وزاجراً لهم عن غيهم، وما هم عليه من استكبار، وما هم عليه من صد، وما هم عليه من تكذيب للرسل، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}.
كلمة موجزة مختصرة تبين أنه لم يطل في المقدمات، لأن الأمر جلل، والقضية كبرى وخطيرة، تستوجب المبادرة إلى إيضاح المقصود من هذا المجيء لئلا يفوت عليهم ما جاء من أجله.
{قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، اتبعوا أي أطيعوهم، فاقبلوا ما جاءوا به من الأخبار، والتزموا بما جاءوا به من الأوامر والأحكام.
بهذا يتحقق اتباع الرسل، قبول أخبارهم والانقياد لأحكامهم يتحقق به اتباع الرسل.
{اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، وقال المرسلين لأن هؤلاء جاءهم ثلاثة من الرسل كما ذكر الله عز وجل {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}، فهم ثلاثة بعثوا إلى هؤلاء لهدايتهم، وليخرجوهم من الظلمات إلى النور .
وجاء هذا مصدقاً لهم، ناصحاً له، وهو من بني جلدتهم، ومن أهل بلدهم، من المدينة،وهو معروف كما في بعض الآثار عندهم بحسن السيرة وطيب العمل.
{اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، ومن دواعي اتباع هؤلاء الرسل أن ذكر فيهم من الصفات ما تنفي عنهم التهمة، وتوجب لهم القبول والإقبال على دعوتهم، {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وهذا بيان وصف ذي أثر بالغ في قبول الرسالات والدعوات، وهو براءة الداعي، براءة الهادي إلى الطريق القويم من الأغراض والمصالح والمنافع الدنيوية.
{اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}، لا يطلب منكم عوضاً، ولا ثمناً مقابل هذه الرسالة، ومقابل هذه الدعوة.
هذا من حيث سلامة قصدهم، وصحة نواياهم، وأضاف إلى ذلك وصفاً آخر يوجب القبول،{وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، أي وهم عاملون بما يدعون إليه، فهم متمسكون بما يأمرونكم به، فهم مهتدون بما يسألونكم الاستجابة إليه.
وهذا من دواعي قبول تلك الرسالة، ومن دواعي قبول تلك الأقوال.
إلى هنا نقف، ونستكمل إن شاء الله تعالى – بقية هذا المثل في حلقة قادمة.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.