بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الخمسون ))
الحمد لله حمداً طيبا مباركاً فيه، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله جلت قدرته، وعظم سلطانه، سبحانه وبحمده، له الحمد، والملك والعز، والجلال، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
وما زلنا في ذلك المثل الذي ذكره الله تعالى في سورة يس، ذكر الله تعالى فيه مثل قرية أرسل إليها جماعة من الرسل، فكذبهم أقوامهم، وقالوا:﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾.
هذا هو جواب أولئك القوم لرسلهم لما جاءوهم بالهدى والحق من الله جل وعلا، لمَّا أقاموا الحجج والبراهين على صدق ما جاءوا به من البينات والهدى، ردوا عليهم بهذا الرد القبيح الذي يتضمن استهزاء ويتضمن تكذيباً لرسلهم.
﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾، أي تشائمنا بما جئتم به، ورأينا الشؤم في مجيئكم، وفي قدومكم، وفي رسالتكم، حيث إن الرسل هددوهم أنهم إن كذبوا بما جاءوا به من الحق والهدى فإنه سيصيبهم من سوء العقاب وشؤم المآل ما ينبغي أن يحذروه.
﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُم﴾، وبمجيئكم، وإنذاركم، وبآياتكم التي جئتم بها، وهكذا هو دأب أعداء الرسل فإنهم يتطيرون بالرسل ويتشائمون، كما جاء ذلك في موسى عليه السلام، حيث قال له قومه كما قال الله تعالى ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ سورة الأعراف:131..
وقد قال الله جل وعلا في جواب هذا ﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾، أي شؤمكم، وسبب السوء والشر الذي سيقع بكم هو ﴿ مَعَكُمْ﴾، أي من قِبلكم، والله تعالى أثبت أن تطير هؤلاء عائد عليهم بالشر والسوء، وما خافوه من شؤم الرسل إنما هو سبب تكذيبهم برسول الله.
وقد قال جل وعلا في سبب تطير قوم موسى به ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾، أي ما يخشونه ويخافونه من عقوبة إنما هو عند الله جل وعلا، لا من عند الرسل، ولا من قِبل الرسل بل هو من الله جل وعلا.
كما قال كذلك في قوم صالح لما تطيروا بصالح ومن معه، قال:﴿طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ سورة النمل:47..
وهنا في هذه السورة قال جل وعلا فيما قصه من جواب الرسل لأقوامهم لما تطيروا بهم، ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾، وقد كذَّب هؤلاء القوم بما جاءت به الأنبياء، وتشائموا بهم، ورأوهم نقصاً.
بل قال جل وعلا في قوم النبي صلى الله عليه وسلم في بيان سوء نظرتهم، وسوء عقدهم، وما يظنونه في الرسول:﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ سورة النساء:78..
وقال في سورة الأعراف:﴿إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ سورة الأعراف:131..
وكما قال في سورة النمل﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ سورة النمل:47..
فالله جل وعلا منه كل ما يكون في الكون من مسرات ومكروهات، الله خالق كل شيء.
فإضافة هؤلاء الشؤم لرسلهم إنما هو على وجه التكذيب لهم، والإساءة إليهم، ونسبة الشر لمن لا شر من قِبله، بل الخير جاء من جهتهم، وهم الرسل الذين دعوا إلى الله تعالى عرفوا به، ودلوا الخلق عليه.
﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾، أي بسبب تذكيركم، ولأجل أنَّا ذكرناكم، وعلمناكم ما يجب لله عليكم، وعرفناكم بالله بالذي يجب أن تتوجهوا إليه بالعبادة، وتنصرفوا إليه بالتوحيد، وتنصرفوا عن غيره بكل انصراف لا يليق إلا بالله جل وعلا، يقع منكم هذا، ويقع منكم هذا التكذيب، وهذا الاتهام، وهذا التشاؤم، أبسبب التذكير يقع ذلك،﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾، أي متجاوزون للحد، وواقعون في الإسراف الذي يضر أهله، ويهلكهم في الحال والمآل.
هذا ما أجابت به الرسل أولئك القوم على تطيرهم، وعلى تهديدهم رسلهم بالرجم والعذاب الأليم.
والرجم الذي هدد به هؤلاء رسلهم قيل هو الرمي بالحجارة، وقيل هو القتل، وقيل هو الشتم، وكل ذلك أنواع من الأذى الذي جرت عادة المكذبين أن يهددوا به رسلهم، فقد هدد قوم نوح نوحاً عليه السلام، لذلك قالوا ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ سورة الشعراء:116.، كما في سورة الشعراء.
وقال والد إبراهيم لإبراهيم عليه السلام، لما دعاه إلى توحيد الله وعبادته، ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ سورة مريم:46..
وقال قوم شعيب لشعيب، ﴿وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ سورة هود:91..
فهذا هو دأب أولئك على مر العصور، وتعاقب الدهور، تهديد الرسل بأنواع العقوبات ومنها الرجم، ومنها العذاب الأليم، وهو القتل أو العذاب المؤلم من النفي أو غير ذلك مما جرى به عمل القوم في رسلهم وأنبيائهم.
إلا أن الله تعالى لا يمكن أولئك من رسلهم بل ينصرهم كما قال جل في علاه:﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ سورة غافر:51..
فهذا التهديد كله غير واقع من حيث العاقبة والمآل، ومهما نال الرسل من تكذيب ومن أذى، لكن العاقبة للمتقين.
العاقبة في الدنيا بلا شك لأولياء الله عز وجل، إما في حياة الرسل أو بعد موتهم.
والعاقبة في الآخرة محققة لأولياء الله جميعاً فإنهم يشهدون من نصر الله لأوليائه ما تقر به أعينهم، وتطمئن به نفوسهم، ويعرفون صدق موعود ربهم جل في علاه.
فإن فاتت في الدنيا لأفرادهم، فإنها لا تفوت في الآخرة لأحد منهم.
ولكن في الدنيا فلابد أن تكون العاقبة للمتقين، أما في الآخرة، فهي تكون لكل متق على وجه الخصوص، وعلى وجه الانفراد.
الْحَقُ مَنْصُوٌر ومُمْتَحَنٌ فَلاَ *** تَعْجَب فَهَذِي سُنَّة الرَّحْمَن انظر "متن القصيدة النونية"(1/17).
فهي إن فاتت في هذه الدنيا لابد أن تدرك في الآخرة.
هذا ما قصه الله تعالى من جواب أولئك لقومهم، ثم بعد هذا القصص جاء خبر رجل من أولئك القوم، شرح الله صدره للإسلام، هداه جل في علاه لطاعة الرسل والإيمان بهم، والانقياد لما جاءوا به من الدعوة إلى الهدى والحق المبين الذي جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
هذا الرجل ، قيل إنه نجار، وقيل إنه مزارع، وقيل إنه من المصابين المرضى، وقيل في أوصافه شيء كثير انظر "النكت والعيون"(5/13)، و"زاد المسير"(5/190).، لكن كل هذا لا تأثير له في صدق الخبر، وفي صحة العبرة والاتعاظ من هذه القصة، لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك الرجل على وجه مطلق يصدق على كل تلك الأوصاف التي وصفوه بها.
ولكن العبرة ليست في توصيف شخصه، ولا في تعيين شخصه، إنما العبرة فيما كان من عمله الذي أشاد به رب العالمين، وذكره جل في علاه في محكم التنزيل عبرة للمؤمنين، وتبين به العاقبة لأولياء الله الصابرين.
قال:﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.
وهذا ما سنتناوله -إن شاء الله تعالى- في الحلقة القادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"،أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يسلك بنا سبيله القويم، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.